سورة الجاثية ج 2
يقول
تعالى في هذا الجزء :لا يستوي حال ولا مآل المؤمنين والكافرين، كما قال:{لا
يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ
الْفَائِزُونَ }[ الحشر:20 ] وقال هاهنا:
{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ } أي:عملوها
واكتسبوها، والاجتراح: الاكتساب؛ ومنه
الجوارح،قال الكلبي: { الذين اجترحوا } عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة. و{ الذين آمنوا } علي وحمزة وعبيدة بن الحارث - رضي الله
عنهم - حين برزوا إليهم يوم بدر فقتلوهم. { أَنْ نَجْعَلَهُمْ
كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ }
أي:
أن نجعل محياهم ومماتهم سواء كمحيا
الذين آمنوا ومماتهم. ويجوز أن يكون الضمير في { مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } للكفار والمؤمنين جميعا. قال مجاهد: المؤمن يموت مؤمنا
ويبعث مؤمنا، والكافر يموت كافرا ويبعث كافرا.{ سَاءَ
مَا يَحْكُمُونَ} أي:ساء ما ظنوا بنا وبعدلنا أن نُسَاوي بين الأبرار
والفجار في الدار الآخرة، وفي هذه الدار.
قال
أبو القاسم ﷺ: « كما أنه لا يجتنى من الشوك العنب، كذلك لا
ينال الفجار منازل الأبرار » .
هذا
حديث غريب من هذا الوجه. وقد ذكر محمد بن إسحاق في كتاب « السيرة » أنهم وجدوا
حجرا بمكة في أسِّ الكعبة مكتوب عليه:تعملون السيئات وترجون الحسنات؟ أجل كما
يجتنى من الشوك العنب .
وقد
روى الطبراني عن مسروق ، أن تميما الداري قام ليلة حتى أصبح يردد هذه الآية: {
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } .
وقال
{
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ } أي:بالعدل، {
وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } .
ثم
قال تعالى { أَفَرَأَيْتَ مَنِ
اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } أي:إنما يأتمر بهواه، فمهما رآه حسنا
فعله، ومهما رآه قبيحا تركه، قال
ابن عباس والحسن وقتادة: ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه؛ فلا يهوى شيئا إلا ركبه.
وقال عكرمة: أفرأيت من جعل إلهه الذي يعبده ما يهواه أو يستحسنه؛ فإذا استحسن شيئا
وهويه اتخذه إلها.
وقال الشعبي: إنما سمي الهوى هوى لأنه
يهوي بصاحبه في النار. وقال ابن عباس: ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه، قال
الله تعالى: { واتبع هواه
فمثله كمثل الكلب } ( الأعراف: 176
) ،وقال تعالى: { واتبع هواه وكان أمره فرطا } ( الكهف: 28 )
وهذا
قد يستدل به على المعتزلة في قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين.
وقوله:
{
وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } يحتمل قولين:أحدها وأضله الله
لعلمه أنه يستحق ذلك. والآخر:وأضله الله بعد بلوغ العلم إليه، وقيام الحجة
عليه. والثاني يستلزم الأول، ولا ينعكس.
{
وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً } أي:فلا
يسمع ما ينفعه، ولا يعي شيئا يهتدي به، ولا يرى حجة يستضيء بها؛ ولهذا قال: (
فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} كقوله:
{مَنْ
يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}
( الأعراف 186 ) .
فائدة : ذم اتباع الهوى
قال الأصمعي سمعت رجلا يقول: ( إن الهوان هو الهوى قلب
اسمه فإذا هويت فقد لقيت هوانا) وسئل ابن المقفع عن الهوى فقال: ( الهوى هو هوان
سرقت نونه، وقال:
نون الهوان من الهوى مسروقة**** فإذا هويت فقد لقيت
هوانا
ولعبدالله بن المبارك:
العبد عبد النفس في شهواتها والحر يشبع تارة ويجوع
وقال سهل بن عبدالله التري: هواك داؤك. فان خالفته
فدواؤك. وللعلماء في هذا الباب في ذم الهوى ومخالفته كتب وأبواب؛ وحسبك بقوله
تعالى: { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. فإن
الجنة هي المأوى } [ النازعات41 ]
قال عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي ﷺ: « لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به » . وقال أبو
أمامة: سمعت النبي ﷺ يقول: « ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى » . وقال شداد بن
أوس عن النبي ﷺ: « الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت. والفاجر من أتبع نفسه هواها وتمنى
على الله » . وقال ﷺ :« إذا رأيت شحا مطاعا وهوى
متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة » . وقال ﷺ: « ثلاث مهلكات وثلاث منجيات فالمهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء
بنفسه. والمنجيات خشية الله في السر والعلانية والقصد في الغنى والفقر والعدل في
الرضا والغضب »
إن
الهوى ليتمادى بصاحبه ويتمكن منه حتى يعسر عليه أن يتركه، فقد جاء في حديث معاوية
رضى الله عنه في الفرق الضالة في هذه الأمة قال: (وإنه سيخرج من أمتي
أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل
إلا دخله) ( صحيح أبي داوود)، وإن الهوى ليركب بصتحبه حتى يكون عبداً له من
دون الله قال تعالى:{ أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } (سورة الفرقان43)، قال
الحسنرحمه الله: "هو الذي لا يهوى شيئا إلا ركبه"، وقال قتادة رحمه الله:
"هو الذي كلما هوى شيئا ركبه، وكلما اشتهى شيئا أتاه لا يحجزه عن ذلك ورع ولا
تقوى.
يقول ابن رجب الحنبلي رحمه
الله: "فجميع المعاصي إنما تنشأ من تقديم هوى النفوس على محبة الله ورسوله، وكذلك
البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع، ولهذا يسمي أهلها أهل الأهواء" ،
وإن الهوى هو أخوف ما خافه النبي ﷺ على أمته؛ فعن أبي
برزة الأسلمي رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال: "إنما أخشى عليكم شهوات
الغي في بطونكم وفروجكم، ومضلات الهوى" (
رجاله رجال الصحيح – الهيثمي في الزواجر)، ولذلك فقد كان من دعاء النبي ﷺ: " اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال
والأهواء" ( سنن الترمذي – حسن غريب)
عودة للتفسير
يخبر
تعالى عن قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد: {
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا }
أي:ما ثم إلا هذه الدار، يموت قوم ويعيش آخرون وما ثم معاد ولا قيامة وهذا يقوله
مشركوا العرب المنكرون للمعاد، ويقوله الفلاسفة الإلهيون منهم، وهم ينكرون البداءة
والرجعة، ويقوله الفلاسفة الدهرية الدورية المنكرون للصانع المعتقدون أن في كل ستة
وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه. وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا
تتناهى، فكابروا المعقول وكذبوا المنقول، ولهذا قالوا { وَمَا يُهْلِكُنَا
إِلا الدَّهْرُ } قال الله تعالى: { وَمَا لَهُمْ
بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ } أي:يتوهمون ويتخيلون.
فأما
الحديث الذي أخرجه صاحبا الصحيح، وأبو داود، والنسائي، من رواية سفيان بن عيينة،
عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله ﷺ: « يقول الله تعالى:يؤذيني ابن آدم؛ يسب
الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب ليله ونهاره » وفي
رواية: «
لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر » .
وقال
محمد بن إسحاق عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن
رسول الله ﷺ قال: « يقول الله:استقرضت عبدي فلم يعطني،
وسَبّنِي عبدي، يقول:وادهراه. وأنا الدهر » .
قال
الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من الأئمة في تفسير قوله، عليه الصلاة والسلام: «
لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر » :كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة
أو بلاء أو نكبة، قالوا:يا خيبة الدهر. فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه،
وإنما فاعلها هو الله عز وجل فكأنهم إنما
سبوا، الله عز وجل؛ لأنه فاعل ذلك في الحقيقة، فلهذا نُهي عن سب الدهر بهذا
الاعتبار؛ لأن الله هو الدهر الذي يعنونه، ويسندون إليه تلك الأفعال.
هذا
أحسن ما قيل في تفسيره، وهو المراد، والله أعلم. وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من
الظاهرية في عدهم الدهر من الأسماء الحسنى، أخذا من هذا الحديث. .
وقوله
تعالى:
{
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ } أي:إذا استدل عليهم
وبين لهم الحق، وأن الله قادر على إعادة الأبدان بعد فنائها وتفرقها،
{
مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ } أي:أحيوهم
إن كان ما تقولونه حقا.
قال
الله تعالى: {
قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ } أي:كما تشاهدون ذلك يخرجكم من العدم إلى
الوجود، {
كَيْفَ
تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ
ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [
البقرة:28 ] أي:الذي قدر على البداءة قادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى، {وَهُوَ
الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}
[
الروم 27 ] ، {
ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ } أي:إنما
يجمعكم ليوم القيامة لا يعيدكم في الدنيا حتى تقولوا: { ائْتُوا بِآبَائِنَا
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وهو سبحانه قد قرره أن ذلك يكون {
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ} [ التغابن:9 ]،
{
َومَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ }[ هود:104 ] وقال
هاهنا: {
ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ } أي:لا
شك فيه، {
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ }
أي:فلهذا ينكرون المعاد، ويستبعدون قيام الأجساد، قال الله تعالى:{
إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا } [ المعارج:6 -7 ]
أي:يرون وقوعه بعيدا، والمؤمنون يرون ذلك سهلا قريبا.
ثم
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض، الحاكم فيهما في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال: {
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ } أي:يوم
القيامة يخسر
الكافرون
بالله الجاحدون بما أنـزله على رسله من الآيات البينات والدلائل الواضحات.
وقال
ابن أبي حاتم:قدم سفيان الثوري المدينة، فسمع المعافري يتكلم ببعض ما يضحك به
الناس. فقال له:يا شيخ، أما علمت أن لله يومًا يخسر فيه المبطلون؟ قال:فما زالت
تعرف في المعافري حتى لحق بالله، عز وجل.
ثم
قال: {
وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } أي:على ركبها من الشدة والعظمة، ويقال:إن
هذا يكون إذا جيء بجهنم فإنها تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا
جثا لركبتيه، حتى إبراهيم الخليل، ويقول:نفسي، نفسي، نفسي لا أسألك اليوم إلا
نفسي، وحتى أن عيسى ليقول:لا أسألك اليوم إلا نفسي، لا أسألك اليوم مريم التي ولدتني.
قال
الحسن البصري: {
كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } أي:على الركب. وقال عِكْرِمة: {
جَاثِيَةً } متميزة
على ناحيتها، وليس على الركب. والأول أولى.
قال
ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا سفيان بن عيينة، عن
عمرو، عن عبد الله بن باباه ، أن رسول الله ﷺ
قال:
«
كأني أراكم جاثين بالكوم دون جهنم » .
وقوله:
{
كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا } يعني:كتاب
أعمالها، كقوله: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ
وَالشُّهَدَاءِ} [ الزمر:69 ] ؛ ولهذا قال: { الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ
مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي:تجازون بأعمالكم خيرها وشرها، كقوله
تعالى:
{يُنَبَّأُ
الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى
نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } [ القيامة:13 - 15 ] .
ثم
قال: {
هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ } أي:يستحضر جميع أعمالكم
من غير زيادة ولا نقص ، كقوله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى
الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ
هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا
وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [
الكهف:49 ] .
وقوله:
{
إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي:إنا
كنا نأمر الحفظة أن تكتب أعمالكم عليكم.
قال
ابن عباس وغيره:تكتب الملائكة أعمال العباد، ثم تصعد بها إلى السماء، فيقابلون الملائكة
الذين في ديوان الأعمال على ما بأيديهم مما قد أبرز لهم من اللوح المحفوظ في كل
ليلة قدر، مما كتبه الله في القدم على العباد قبل أن يخلقهم، فلا يزيد حرفا ولا
ينقص حرفا، ثم قرأ: { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }
.
يخبر
تعالى عن حكمه في خلقه يوم القيامة، فقال: { فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي:آمنت قلوبهم وعملت جوارحهم الأعمال
الصالحات ، وهي الخالصة الموافقة للشرع، { فَيُدْخِلُهُمْ
رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ } ، وهي الجنة، كما ثبت في الصحيح أن الله
قال للجنة: «
أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء » .{ ذَلِكَ هُوَ
الْفَوْزُ الْمُبِينُ } أي:البين الواضح.
ثم
قال: {
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ
فَاسْتَكْبَرْتُمْ } أي:يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا:أما قرئت
عليكم آيات الرحمن فاستكبرتم عن اتباعها، وأعرضتم عند سماعها،
{
وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ } أي:في أفعالكم، مع ما اشتملت عليه قلوبكم
من التكذيب؟
{
وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا }
أي:إذا
قال لكم المؤمنون ذلك، { قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ } أي:لا
نعرفها، {
إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا } أي:إن نتوهم وقوعها إلا توهما، أي مرجوحا
؛ ولهذا قال: {
وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } أي:بمتحققين.
قال
الله تعالى: {
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا } أي:وظهر لهم عقوبة
أعمالهم السيئة، {وَحَاقَ بِهِمْ } أي:أحاط بهم {
مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي:من العذاب والنكال، {
وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ } أي:نعاملكم معاملة
الناسي لكم في نار جهنم { كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ
هَذَا } أي:فلم
تعملوا له لأنكم لم تصدقوا به، { وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ
نَاصِرِينَ }
وقد
ثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول لبعض العبيد يوم القيامة:
«
ألم أزوجك؟ ألم أكرمك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتَرْبَع؟ فيقول:بلى،
يا رب. فيقول:أفظننت أنك مُلاقيّ؟ فيقول:لا. فيقول الله تعالى:فاليوم أنساك كما
نسيتني »
.(
صحيح بن حبان – صحيح)
قال
الله تعالى: {
ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } أي:إنما
جازيناكم هذا الجزاء لأنكم اتخذتم حجج الله عليكم سخريا، تسخرون وتستهزئون بها، {
وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } أي:خدعتكم فاطمأننتم إليها، فأصبحتم من
الخاسرين؛ ولهذا قال: { فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا } أي:من
النار {
وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } أي:لا يطلب منهم العتبى، بل يعذبون بغير
حساب ولا عتاب، كما تدخل طائفة من المؤمنين الجنة بغير عذاب ولا حساب.
ثم
لما ذكر حكمه في المؤمنين والكافرين قال: { فَلِلَّهِ الْحَمْدُ
رَبِّ السماواتِ وَرَبِّ الأرْضِ } أي:المالك لهما وما فيهما؛ ولهذا قال: {
رَبِّ الْعَالَمِينَ } .
ثم
قال: {
وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السماواتِ وَالأرْضِ } قال مجاهد:يعني
السلطان. أي:هو العظيم الممجد، الذي كل شيء خاضع لديه فقير إليه. وقد ورد في
الحديث الصحيح: « يقول الله تعالى العظمة إزاري والكبرياء ردائي، فمن
نازعني واحدًا منهما أسكنته ناري » (رواه
مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد،)
وقوله:
{
وَهُوَ الْعَزِيزُ } أي:الذي لا يغالب ولا يمانع، { الْحَكِيمُ} في
أقواله وأفعاله، وشرعه وقدره، تعالى وتقدس، لا إله إلا هو .
آخر
تفسير سورة الجاثية [ ولله الحمد والمنة ]
اللهم ذكِّرنا من القرآن العظيم ما نُسِّينا
، وعلمنا منه ما جهلنا ، وارزقنا حسن تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه
الذي يرضيك عنا
No comments:
Post a Comment