روى ابنُ
حِبَّانَ والترمذيُّ في جامِعِه عن أبي برزة الأسلمي نضلة بن عبيد أنَّ رسولَ الله
ﷺ قالَ: “لا
تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يسألَ عن أربعٍ؛ عن عُمرِهِ فيما أفناهُ وعن
عِلمِهِ ما عملَ بِهِ وعن مالِهِ من أينَ اكتسبَهُ وفيما أنفقَهُ وعن شبابِهِ فيما
أبلاهُ “. (أخرجه الترمذي، وقال الألباني: صحيح
لشواهده، المشكاة)
من يُستثني من السؤال:
من أهل العلم
من يقول: إنه يستثنى من ذلك من جاء في النصوص الأخرى أنه لا يحاسب:
-فالسبعون ألفًا الذين يدخلون الجنة من غير
حساب ولا عذاب لا يدخلون في هذا العموم.
- والأنبياءُ لا يُسألونَ هذهِ الأسئلةَ
الأربعةَ، ولكن يُسألونَ لإظهارِ شَرَفِهم: هل بلَّغتم؟
شرح الحديث:
المعنى أنَّ
الإنسانَ لا تزولُ قدمَاهُ عن موقفِ الحسابِ يومَ القيامةِ حتى يُسألَ عن أربعٍ
منح منحها الله لعباده، وهذه الأربع هي:
-"عن
عُمرِهِ فيما أفناهُ" وجاء في بعض الروايات عن شبابه فيم أبلاه، فالإنسان
يحاسب على العمر، والعمر مدة زمنية يعيشها الإنسان، وهي مكونة من هذه الأنفاس
والساعات والأيام والشهور، يحاسب الإنسان كيف قضاها، بماذا قضى هذه الساعات،
وبماذا قضى هذه الأيام؟، هل قضاها في طاعة الله، أو قضاها في معصيته، أو ضيع
الزمان من غير طائل بالنوم والفضول من الخلطة والتنزه والمباحات، إلى غير ذلك، حتى
تصرّم عمره دون أن ينتفع به أو أن يخرج بشيء ينفعه عند الله -تبارك وتعالى، فأنت
محاسب على عملتَ منذُ بلغتَ، هل أدَّيتَ ما فرضَ اللهُ عليكَ واجتنبتَ ما حرَّمَ
عليكَ؟ فإنْ كانَ قد فَعَلَ ذلكَ نجا وسَلِمَ وإنْ لم يكنْ فعلَ ذلكَ هَلَكَ.
-عَنْ
عِلْمِهِ ماذَا عملَ فيهِ أي يُسألُ هل تعلّمتَ عِلْمَ الدِينِ الذي فَرضَهُ اللهُ
عليكَ لأنَّ العِلْمَ الدِّينِيَّ قِسمانِ فمنْ تعلمَ القِسمَ الضَّروريَّ وعمِلَ
بِهِ سَعِدَ ونَجا، ومنْ أهْملَ العملَ بعدَ أنْ تعلّمَ خَسِرَ وخابَ وهلكَ،
وكذلكَ منْ لا يتعلّمُ فهوَ أيضًا من الهالكين.
فمن عَلِمَ
أَن الصّلاة واجبةً عليه، وعَلِم أركانها وواجباتها وسننها، وأنها أول ما يحاسب
عليه العبد يوم القيامة، ولا يؤديها صحيحة كما تعلَم، فسيسأل عنها.
ومَن تعلَّم
أنَّ النظر مسئول عنه، إن نظر إلى حرام فسييُسأل، ولكنه لم يعمل بما علم، وأمعن
النظر فيما لا ينبغي له، فقد تعدى ولن تزول قدماه حتى يُسأل، وهكذا في الغيبة والنميمة،
والمحرمات من المآكل والمسكرات، ولا ينفع المسلم أن يقول إذا لا أتعلم حتى لا
أُسأل، فهو محاسب أن يتعلَّم أصول دينه، وما هو مما لا ينبغي للمسلم جهله. ليس هذا
السؤال للعلماء فقط، ولكن لكل الناس، فلا يُعذر مُسلم بجهله بأصول دينه.
وورد في بعض
الأحاديث عن رسول الله ﷺ:” وَيْلٌ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ، وَوَيْلٌ لِمَنْ عَلِمَ
ثُمَّ لَا يَعْمَلُ“. ( رواه أبو نعيم في حلية الأولياء، عن حذيفة بن اليمان-
قال الألباني : ضعيف)، والويلُ هو الهلاكُ الشّديدُ.
ثم قوله: عن
علمه ماذا عمل به: ينطبق أيضا على العلماء، فهل علم غيره؟ وهل كان تعلمه للعلم
ليقال عنه أنه عالم؟ فإن كان عمل بعلمه وعلَّم غيره مخلصا لله أن ينتفع الناس
بعلمه فقد نجى. وإن كان علمه ليقال عنه أنه عالم، أو هو ممن يعلم الناس ويؤذي
الناس بكبره على من هو أقل منه علما، فهو الهالك. وقد ورد أيضا التحذير عن كتم علم
تعلمه، فعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله ﷺ :" مَن كتَم عِلْمَا ألجَمه اللهُ
يومَ القيامةِ بلِجامٍ مِن نارٍ" ( صحيح ابن حبان )، فزكاةُ العِلمِ
نَشرُه وإذاعتُه، وقدْ أخَذَ اللهُ الميثاقَ على الذين أُتوا الكتاب والعلمَ أنْ
يُبيِّنوه للناسِ، وحذَّرَ مِن منْعِه وكتْمِه عن النَّاسِ، وفي هذا الحديثِ ينهى النبيُّ
ﷺ العالمٍ أن يمنعُ عِلمَه وفُتياهُ لِمَن يَحتاجُ إليها، أو أن يكون عِندَه علمٌ
فيهِ مَنفعةٌ للناسِ، فإذا مَنعَه ولم يَنشُرْه فيهِم أصابَهم ضررٌ أو ما شابَه، فهذا
"ألْجَمه
اللهُ بلِجامٍ مِن نارٍ يومَ القِيامةِ"، الجَزاءَ مِن جِنسِ العملِ فعِقابُه عندَ
اللهِ عزَّ وجلَّ حيثُ يَضعُ اللهُ في فمِهِ قِطعةً مِن حديدٍ مِن نارٍ يومَ
القيامةِ، "اللِّجامُ": ما يُوضَعُ في فمِ الفَرسِ لتُقادُ بهِ.
-وعنْ مالِهِ منْ أينَ اكتسبَهُ وفيم
أنفقَهُ: ماذا فعل بهذه الأموال التي منَّ الله بها عليه؟ هل سخرها في معصية؟ هل
أضاع هذه الأموال بالإسراف والمباهاة والتبذير، أو وضعها في أمور من التوافه
والسفه الذي لا يرضاه الله؟ والله يقول: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء
أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء:5]، فضيع المال، ووضعه بأيدي من
يضيعونه ولا يحسنون استغلاله، فكان متلافاً لهذه الأموال التي ابتلاه الله بها.
والإنسانَ
يُسألُ يومَ القِيامةِ عنِ المالِ الذي في يدِهِ في الدُنيا فإنْ كانَ أخَذَهُ من
طريقِ غيرِ الحرامِ لا يكونُ عليهِ مؤاخذةٌ لكنْ بِشَرطِ أنْ يَكونَ ما أنفقَهُ
فيهِ أمرٌ أباحَهُ الشرعُ.
فالنّاسُ في أمرِ المالِ ثلاثَةُ أصنَافٍ اثنانِ
هالكانِ وواحدٌ ناجٍ: فالهالكانِ أحدُهُما الذي جمعَ المالَ منْ حرامٍ والآخرُ
الذي جمعَهُ منْ حلالٍ ثمّ صرفَهُ في الحرامِ. وكذلِكَ الذي يصرِفُهُ في الحلالِ
للرياءِ هالِكٌ. وأما الناجي منهم، فهو من وفقه الله بجمع المال من الحلال، وصرفه في
الحلال.
-
عن جسدِهِ فيما أبلاهُ: وعن جسمه فيم أبلاه، هذا البدن هل قارف
شيئاً يعود عليه بالعطب بالكلية؟ قتل نفسه إما مباشرة أو بتعاطي ما يؤدي بها إلى
الفوت والهلاك، كالذي يشرب مثلاً الدخان، ثم بعد ذلك يصاب بالأمراض التي تهلكه،
وهكذا أيضاً هذا الإنسان الذي يتصرف ببدنه كأنه يملكه مع أنه ملك لله، الذين
يبيعون مثلاً أعضاءهم، يبيع كليته، يبيع أشياء من جسده، فمثل هذا يسأله الله عنه.
هذا الجسم بعافيته وصحته، هل استغله بطاعة
الله والسعي في مرضاته؟، هل حج بيت الله وقد أصح جسمه؟، هل ذهب إلى محاب الله
ومرضاته من حضور الجمع والجماعات، وما أشبه ذلك، أو أنه استغل هذه العافية وهذا
الجسم في المعاصي والفواحش، وأذية الناس، وإلحاق الضرر بهم، والتعالي عليهم في
الأرض؟، كل هذه الأشياء الله
سيسأل
الإنسان عنها.
الإنسان قد
يبتلى ببدن صحيح ممتد القامة يعجب من نظر إليه، ولكنه قد يُفتن بذلك فيكون ذلك
سبباً لمزيد من العجب واحتقار الآخرين، والتعدي عليهم، وما أشبه ذلك، فهذه كلها
سيسأل الإنسان عنها، ولا يختص الأمر بذلك، أي: حينما يقال: وعن جسمه فيم أبلاه
فإنه يشمل العين والأذن واليد والرجل وسائر الأعضاء، والأبعاض، هذه الأشياء كيف
تصرف بها؟، كيف عمل بها؟، هل شكر الله على هذه النعم، أو أنه استغل سمعه ليصبح
ويمسي على أصوات المعازف، ومجالسه يسمع فيها ما حرمه الله، وهل يستغل نظره فيما
حرم الله، يستغل يده فيما حرم الله؟، كل ذلك الله سيسأله عنه، وعن جميع الأبعاض، والأعضاء،
فإنْ أبلى بدنه في طاعةِ اللهِ سَعِدَ ونجا مع النَّاجينَ وإنْ أبلَى جَسَدَهُ في
معصِيَةِ اللهِ خَسِرَ وهَلَكَ.
فوائد من الحديث:
الفائدة الأولى: حساب يوم القيامة يدعونا لمحاسبة أنفسنا
للإجابة على هذه الأسئلة؛ فإنه من حاسب نفسه اليوم هان عليه الحساب غدًا؛ قال الله
تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا
قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ (الحشر 18)، قال ابن كثير رحمه الله في تفسيرها: أي:
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة
ليوم معادكم وعرضكم على ربكم؛ اهـ، وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله
عنه: (حاسبوا
أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وَزِنُوا أنفسكم قبل أن توزنوا؛ فإنه أهون عليكم في الحساب
غدًا أن تحاسبوا أنفسكم، وتزينوا للعرض الأكبر): ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى
مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ (الحاقة: 18)، وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: (إن
المؤمن قوَّام على نفسه، يحاسب نفسه لله عز وجل، وإنما خف الحساب يوم القيامة على
قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قومٍ أخذوا هذا
الأمر من غير محاسبة.
الفائدة الثانية: كان السلف رحمهم الله من أحرص الناس على
محاسبة أنفسهم مع ما هم عليه من التقوى والعمل الصالح؛ روى أسلم مولى عمر بن
الخطاب رضي الله عنه: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل على أبي بكر الصديق رضي
الله عنه وهو يجبذ لسانه (أي: يمده ويجره ويجذبه بشدة،)، فقال له عمر: مَهْ غفر الله لك! فقال أبو بكر: " إن هذا أوردني الموارد" رواه مالك
الفائدة الثالثة: دل الحديث على أن الغاية من تعلم العلم هي
العمل به؛ لذا رفع الله تعالى درجة العلماء على غيرهم، فقال تعالى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ (المجادلة 11)، وهم أهل الخشية؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ
عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ (فاطر 28)، أما تعلُّمه لغير هذا الغرض فإنه يصير
وبالًا على صاحبه يوم القيامة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه
الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرَضًا من الدنيا - لم يجد عَرْفَ الجنة يوم القيامة"
(حديث
صحيح رواه أبو داود بإسناد صحيح) عَرْفَ الجنَّة: يعني: ريحها. وهذا وعيد شديد من
الله، وأحاديث الوعيد هي أعظم في الزجر، وينطبق حكمه على سائر أهل المعاصي.
راوي الحديث:
نضلة بن عبيد قيل: إن اسمه نضلة بن دينار، وقيل: عبد الله، وقيل غير ذلك، وقد شهد مع النبي ﷺ فتح مكة، ثم بعد ذلك
انتقل إلى البصرة وتوفي بها، وروى عن النبي ﷺ ستة وأربعين حديثاً، اتفق الشيخان
على اثنين، وانفرد البخاري باثنين، وانفرد مسلم بأربعة.
No comments:
Post a Comment