تفسير سورة البقرة- ح ٣٦
" الدُّنيا حُلوةٌ خضِرةٌ وإنَّ اللهَ مُستخلِفَكم فيها فناظرٌ كيف تعملون "
(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا...)
من هو أول الرسل؟ وهل كان فتن الناس بعد آدم عليه السلام ...
(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ)
اللهم إنا نسألك فرجًا قريبًا لأمة محمد ﷺ .
(أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ.)
محور مواضيع هذا الجزء:
-تزينت الدنيا الفانية في قلوب الكفار، وذلك لجهلم بما يفيد على الدوام أبدًا، وما هو زائل.
-بيان من الله تعالى عن سبب إرسال الرسل، ومن كان أولهم، وهل نعلم عددهم.
-أية الله في خلقه؛ ان يعرفهم بنفسه وغايته منهم، ثم يختبرهم في الدنيا فمن افتتن بها، وضل السبيل فلا يلومن إلا نفسه.
-يترقب المؤمن الفرج من كل ضيق، وهو لا يدري أنه قريب، إنما هو صبر واحتساب، دعوات يذرف معها دموع القلب والإلحاح تفرق بين الثابت على الحق، ممن يفتن بسوء الظن بالله.
- بيان مصارف الصدقات، والله عليم بمن يعمل بها.
التفسير:
قوله تعالى: ( زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ۘ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (٢١٢)
يخبر تعالى أن الذين كفروا بالله وبآياته ورسله، أن الله زين لهم الحياة الدنيا، فزينت في أعينهم وقلوبهم، فرضوا بها وصارت منتهى أمانيهم وأهواؤهم، ولها أعمالهم كلها، فأقبلوا عليها، واجتهدوا لتحصيل كل ما فيها ، فجمعوا الأموال ومنعوها عن مصارفها التي أمروا بها مما يرضي الله عنهم ، وسخروا من الذين آمنوا الذين أعرضوا عنها ، وأنفقوا ما حصل لهم منها في طاعة ربهم، وبذلوا ابتغاء وجه الله، فلهذا فازوا بالمقام الأسعد والحظ الأوفر يوم معادهم، فكانوا فوق أولئك في محشرهم ومنشرهم، واستقروا في الدرجات في أعلى عليين، وخلد أولئك في الدركات في أسفل السافلين. وفي تفسير القرطبي يقول: وخص الذين كفروا بالذكر لقبولهم التزيين جملة ، وإقبالهم على الدنيا وإعراضهم عن الآخرة بسببها . وقد جعل الله ما على الأرض زينة لها ليبلو الخلق أيهم أحسن عملا، فالمؤمنون الذين هم على سنن الشرع لم تفتنهم الزينة، والكفار تملكتهم لأنهم لا يعتقدون غيرها . وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين قدم عليه بالمال : اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا .
ومعنى(وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ) أي في الدرجة ؛ لأنهم في الجنة والكفار في النار . ويحتمل أن يراد بالفوق المكان ، من حيث إن الجنة في السماء، والنار في أسفل السافلين. ويحتمل أن يكون التفضيل على ما يتضمنه زعم الكفار، فإنهم يقولون: وإن كان معاد فلنا فيه الحظ أكثر مما لكم، ولهذا قال تعالى : (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) أي : يرزق من يشاء من خلقه، هو إشارة إلى هؤلاء المستضعفين ، أي يرزقهم علو المنزلة، فالآية تنبيه على عظيم النعمة عليهم . وجعل رزقهم بغير حساب من حيث هو دائم لا يتناهى، فهو لا ينعد . وقيل : إن قوله : (بِغَيْرِ حِسَابٍ) صفة لرزق الله تعالى كيف يصرف، إذ هو جلت قدرته لا ينفق بعدٍّ، ففضله كله بغير حساب، والذي بحساب ما كان على عمل قدمه العبد ، قال الله تعالى : جزاء من ربك عطاء حسابا. والله أعلم، ويحتمل أن يكون المعنى بغير احتساب من المرزوقين ، كما قال : ويرزقه من حيث لا يحتسب ويعطيه عطاء كثيرا جزيلا بلا حصر ولا تعداد في الدنيا والآخرة كما جاء في الحديث عن رسول الله: " قال اللهُ تعالى : سبقتْ رحمتي غضبي ، يا ابنَ آدمَ ، أنفقْ أُنفقُ عليك " (البخاري) وقال النبي ﷺ : " أنفِق بلالًا ولا تخشَ من ذي العرشِ إقلالًا " . ( ضعيف)، وقال تعالى: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) (سبأ ٣٩)، وفي صحيح مسلم: " ما مِن يَومٍ يُصْبِحُ العِبادُ فيه إلَّا مَلَكانِ يَنْزِلانِ، فيَقولُ أحَدُهُما: اللَّهُمَّ، أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ، أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا." وفي صحيح مسلم ايضا "يقولُ العَبْدُ: مالِي، مالِي، إنَّما له مِن مالِهِ ثَلاثٌ: ما أكَلَ فأفْنَى، أوْ لَبِسَ فأبْلَى، أوْ أعْطَى فاقْتَنَى، وما سِوَى ذلكَ فَهو ذاهِبٌ، وتارِكُهُ لِلنَّاسِ." ، وفي مسند الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها: " الدنيا دارُ مَنْ لا دارَ لَهُ، ومالُ مَنْ لَا مالَ لَهُ، ولَها يجمَعُ مَنْ لا عقلَ لَهُ"
قوله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (٢١٣)
روى ابن جرير: عن ابن عباس قال : كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق. المراد بالناس بنو آدم حين أخرجهم الله نسما من ظهر آدم فأقروا له بالوحدانية ، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين . قال : وكذلك هي في قراءة عبد الله : " كان الناس أمة واحدة فاختلفوا "( ورواه الحاكم في مستدركه ثم قال: صحيح ولم يخرجاه)
عن قتادة في قوله: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) قال: كانوا على الهدى جميعا، " فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين منذرين " فكان أول نبي بعث نوحا. وهكذا قال مجاهد، لأن الناس كانوا على ملة آدم عليه السلام، حتى عبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم نوحا عليه السلام. وقوله تعالى: (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ) وعددهم مائة وأربعة وعشرون ألفا، والرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر، وليس هذا بمتأكد ، فعند الإمام أحمد أن حديث أبي ذر – وهو أشهر حديث في ذكر عدد الرسل وأنهم (315) رسولا –لم يثبت عندهم. و جماعة من أهل العلم يرون نفي الجزم بعدد معين للرسل والأنبياء.
والمذكورون في القرآن بالاسم العلم خمس وعشرون بين رسول ونبي، وأول الرسل آدم، وقيل: آدم نبي، وأول الرسل: نوح، لحديث الشفاعة، فإن الناس يقولون له: أنت أول الرسل.
جمع الحافظ ابن كثير أسماء من نص القرآن على أسمائهم، فقال رحمه الله :
" هذه تسمية الأنبياء الذين نُصَّ على أسمائهم في القرآن، وهم :
آدم ، وإدريس ، ونوح ، وهود ، وصالح ، وإبراهيم ، ولوط ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، ويوسف ، وأيوب ، وشعيب ، وموسى ، وهارون ، ويونس ، وداود ، وسليمان ، وإلياس ، والْيَسَع ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى عليهم الصلاة والسلام ، وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين ، وسيدهم محمد ﷺ" انتهى.
وقوله تعالى: (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ) نصب على الحال، أي حالهم أنهم مبشرين ومنذرين، (وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ) وأنزل معهم الكتاب ) الكتاب: اسم جنس لجميع الكتب . وقال الطبري: الألف واللام في الكتاب للعهد، والمراد التوراة .
و (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ) مسند إلى الكتاب في قول الجمهور، وهو نصب بإضمار أن ، أي لأن يحكم وهو مجاز مثل هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق . وقيل : أي ليحكم كل نبي بكتابه ، وإذا حكم بالكتاب فكأنما حكم الكتاب .
( وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) بغيا ؛ نصب على المفعول له، أي لم يختلفوا إلا للبغي. وفي هذا تنبيه على السفه في فعلهم ، والقبح الذي واقعوه . و (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ) معناه أرشد ، أي فهدى الله أمة محمد إلى الحق بأن بين لهم ما اختلف فيه من كان قبلهم. وقالت طائفة: معنى الآية أن الأمم كذب بعضهم كتاب بعض، فهدى الله تعالى أمة محمد للتصديق بجميعها. وقد روى مسلم عن أبي هريرة في قوله : ( فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ) قال : قال النبي ﷺ : " نَحْنُ الآخِرُونَ الأوَّلُونَ يَومَ القِيامَةِ، ونَحْنُ أوَّلُ مَن يَدْخُلُ الجَنَّةَ، بَيْدَ أنَّهُمْ أُوتُوا الكِتابَ مِن قَبْلِنا، وأُوتِيناهُ مِن بَعْدِهِمْ، فاخْتَلَفُوا، فَهَدانا اللَّهُ لِما اخْتَلَفُوا فيه مِنَ الحَقِّ، فَهذا يَوْمُهُمُ الذي اخْتَلَفُوا فِيهِ، هَدانا اللَّهُ له، قالَ: يَوْمُ الجُمُعَةِ، فالْيَومَ لَنا، وغَدًا لِلْيَهُودِ، وبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصارَى. " .
وقال ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه في قوله : (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ) فاختلفوا في يوم الجمعة ، فاتخذ اليهود يوم السبت ، والنصارى يوم الأحد . فهدى الله أمة محمد ليوم الجمعة. واختلفوا في القبلة؛ فاستقبلت النصارى المشرق، واليهود بيت المقدس، فهدى الله أمة محمد ﷺ للقبلة . واختلفوا في الصلاة؛ فمنهم من يركع ولا يسجد، ومنهم من يسجد ولا يركع، ومنهم من يصلي وهو يتكلم، ومنهم من يصلي وهو يمشي، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في الصيام ، فمنهم من يصوم بعض النهار، ومنهم من يصوم عن بعض الطعام، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك . واختلفوا في إبراهيم ، عليه السلام، فقالت اليهود: كان يهوديا، وقالت النصارى: كان نصرانيا، وجعله الله حنيفا مسلما، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في عيسى عليه السلام ، فكذبت به اليهود، وقالوا لأمه بهتانا عظيما، وجعلته النصارى إلها وولدا، وجعله الله روحه وكلمته، فهدى الله أمة محمد ﷺ للحق من ذلك.
و ( بِإِذْنِهِ ۗ) قال النحاس: المعنى بأمره ، وإذا أذنت في الشيء فقد أمرت به، أي فهدى الله الذين آمنوا بأن أمرهم بما يجب أن يستعملوه . وفي قوله:(وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) رد على المعتزلة في قولهم: إن العبد يستبد بهداية نفسه. والعليم العظيم يقول: (وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ)( الأعراف ٤٣)، وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه: " يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، ... " ( رواه مسلم) وهنا يقول سبحانه: (وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) فالهداية من الله لمن أوتي أسبابها. يؤتيها بفضله ورحمته وإعانته ولطفه من شاء من عباده، فهذا فضله وإحسانه، ومنعها: فذاك عدله وحكمته. وله الحكم والحجة البالغة.
وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة : "أن رسول الله ﷺ كانَ إذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ قال:" اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وإسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأرْض، عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بيْنَ عِبَادِكَ فِيما كَانُوا فيه يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِما اخْتُلِفَ فيه مِنَ الحَقِّ بإذْنِكَ؛ إنَّكَ تَهْدِي مَن تَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. " . وفي الدعاء المأثور عن عمر رضي الله عنه قوله: "اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه" (صحيح)
وقوله تعالى: ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (٢١٤)
قوله تعالى : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ)، حسبتم: أي: ظننتم. قال أكثر المفسرين: نزلت هذه الآية في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدة ، والحر والبرد ، وسوء العيش ، وأنواع الشدائد ، وكان كما قال الله تعالى: (وبلغت القلوب الحناجر ) وقيل: نزلت في غزوة أحد، نظيرها في قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران١٤٢) وقالت فرقة: نزلت الآية تسلية للمهاجرين حين تركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين ، وآثروا رضا الله ورسوله، وأظهرت اليهود العداوة لرسول اللهﷺ، وأسر قوم من الأغنياء النفاق، فأنزل الله تعالى تطييبا لقلوبهم أم حسبتم . و (أَمْ) هنا منقطعة، بمعنى بل ، وحكى بعض اللغويين أنها قد تجيء بمثابة ألف الاستفهام ليبتدأ بها.
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) قبل أن تبتلوا وتختبروا وتمتحنوا، كما فعل بالذين من قبلكم من الأمم،
ولهذا قال : (وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ)، و" وَلَمَّا " بمعنى لم يأتيكم . و " مثل " معناه شبه، أي ولم تمتحنوا بمثل ما امتحن به من كان قبلكم، ولم يصبكم مثل الذي أصاب الذين من قبلكم، أي من أنواع البلاء؛ وهي: الأمراض، والأسقام ، والآلام، والمصائب والنوائب . قال ابن مسعود ، وابن عباس وغيرهم: ( البأساء ) الفقر . (والضراء) السقم .( وزلزلوا ) خوفا من الأعداء زلزالا شديدا، وامتحنوا امتحانا عظيما.
والزلزلة : شدة التحريك ، تكون في الأشخاص وفي الأحوال، يقال : زلزل الله الأرض زلزلة وزِلزالا - بالكسر - فتزلزلت إذا تحركت واضطربت ، فمعنى زلزلوا خوفوا وحركوا . والزلزال - بالفتح - الاسم . والزلازل : الشدائد .
ونظير هذه الآية : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت٢)، ولقد فتنا الذين من قبلهم ، كما جاء في الحديث الصحيح عن خباب بن الأرت قال : "شَكَوْنا إلى رَسولِ اللَّهِﷺوهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكَعْبَةِ فَقُلْنا: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا ألا تَدْعُو لَنا؟ فقالَ: قدْ كانَ مَن قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فيها، فيُجاءُ بالمِنْشارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، ويُمْشَطُ بأَمْشاطِ الحَدِيدِ، ما دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ، فَما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمْرُ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخافُ إلَّا اللَّهَ، والذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ" ( البخاري). وقد حصل من هذا جانب عظيم للصحابة رضوان الله علهم في أوائل الدعوة في مكة، فكم منهم قد عذب عذابا شديدا، وفي يوم الأحزاب ، كما قال الله تعالى : (إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ﴿١٠﴾ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴿١١﴾ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ﴿١٢﴾ (الأحزاب)
(حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ..) أي وزلزلوا حتى الرسول يقول، أي حتى هذه حاله؛ لأن القول إنما كان عن الزلزلة غير منقطع منها ؛ أي استمر الحال من الزلزلة حتى يقول الرسول استعجالا للفرج، ويدعون بقرب الفرج والمخرج ، عند ضيق الحال والشدة . قال الله تعالى : (ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) كما قال : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴿٥﴾ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴿٦﴾ (الشرح )
وكما تكون الشدة ينزل من النصر مثلها؛ ولهذا قال تعالى: (ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) وفي حديث أبي رزين : "ضحِكَ رَبُّنا مِن قُنوطِ عَبدِهِ، وقُربِ غِيَرِهِ. قال: قُلتُ: يا رسولَ اللهِ، أوَيَضحَكُ الرَّبُّ عزَّ وجلَّ؟ قال: نَعَمْ. قال: لن نَعدَمَ مِن رَبٍّ يَضحَكُ خَيرًا. " ( إسناده ضعيف)
قيل الرسول هنا شعيا في قول مقاتل، وهو اليسع . وقال الكلبي : هذا في كل رسول بعث إلى أمته وأجهد في ذلك حتى قال : متى نصر الله ؟ .
وروي عن الضحاك قال: يعني محمدا ﷺ، وعليه يدل نزول الآية ، والله أعلم . وأكثر المتأولين على أن الكلام إلى آخر الآية من قول الرسول والمؤمنين ، أي بلغ الجهد بهم حتى استبطئوا النصر ، فقال الله تعالى: (ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ). ويكون ذلك من قول الرسول على طلب استعجال النصر لا على شك وارتياب .
و " الرسول " اسم جنس . وقالت طائفة : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : حتى يقول الذين آمنوا متى نصر الله ، فيقول الرسول : (ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) ويحتمل أن يكون إخبارا من الله تعالى مؤتنفا بعد تمام ذكر القول .
وقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ۖ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (٢١٥)
قال السدي: إن السائلين هم المؤمنون، مقاتل بن حيان : هذه الآية في نفقة التطوع ، وهو الأصح، قال السدي: نزلت هذه الآية قبل فرض الزكاة ثم نسختها الزكاة المفروضة . وفيه نظر . ومعنى الآية: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ۖ ) أي: يسألونك كيف ينفقون ؟ يسألونك ما هي الوجوه التي ينفقون فيها، فبين لهم تعالى ذلك ، فقال : (قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۗ) أي : اصرفوها في هذه الوجوه . كما جاء في الحديث : " يا أيها الناسُ يدُ المُعطي العليا وابدأ بمن تعولُ أمُّكَ وأباكَ وأختُك وأخاك ثم أدناكَ أدناكَ" (رواه بن حزم-صحيح)
وهذه الآية مبينة لمصارف صدقة التطوع، فواجب على الرجل الغني أن ينفق على أبويه المحتاجين ما يصلحهما في قدر حالهما من حاله ، من طعام وكسوة وغير ذلك . قال مالك : ليس عليه أن يزوج أباه ، وعليه أن ينفق على امرأة أبيه ، كانت أمه أو أجنبية، وإنما قال مالك: ليس عليه أن يزوج أباه لأنه رآه يستغني عن التزويج غالبا، ولو احتاج حاجة ماسة لوجب أن يزوجه، ولولا ذلك لم يوجب عليه أن ينفق عليهما. فأما ما يتعلق بالعبادات من الأموال فليس عليه أن يعطيه ما يحج به أو يغزو ، وعليه أن يخرج عنه صدقة الفطر؛ لأنها مستحقة بالنفقة والإسلام .
ثم قال تعالى : (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) أي: مهما صدر منكم من فعل معروف، فإن الله يعلمه، وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء، فإنه لا يظلم أحدا مثقال ذرة . وقوله: " وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ " شرط، وجوابه " فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ". وظاهر الآية الخبر، وهي تتضمن الوعد بالمجازاة . ونظير هذه الآية قوله تعالى: (فَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الروم ٣٨)
No comments:
Post a Comment