التعريف بالسورة:
-السورة مكية- وهي من المفصل – وعدد آياتها ٨ آيات -ترتيبها في المصحف الرابعة والتسعون – ومن حيث النزول نزلت بعد سورة الضحى- تكمل أهدافها- بدأت بأسلوب استفهام {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} -لم يذكر في السورة لفظ الجلالة.
التسمية:
نقل عن بعض المفسرين أنها سميت في معظم التفاسير وفي ( صحيح البخاري ) و ( جامع الترمذي ) ( سورة ألم نشرح )، وسميت في بعض التفاسير ( سورة الشرح ) ومثله في بعض المصاحف المشرقية تسمية بمصدر الفعل الواقع فيها من قوله تعالى : {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}( الشرح 1 ) وفي بعض التفاسير تسميتها (سورة الانشراح ) . اهـ.
محور مواضيع السورة:
يدور محور السورة على النبي ﷺ، وما حباه الله إياه من النعم والخصوصية، فقد شرح صدره بالإيمان، ونوَّر قلبه بنور الحكمة التي حباه الله إياها مع القرآن، ثم إنه مع هذا فقد طهره الله تعالى من الآثام والذنوب والمعاصي.
وفي السورة يسلي الله تعالى نبيه الكريم الذي تحمل ما تحمل من الأذى الذي كان يناله من الكفار ببيان ما له ﷺمن المقام الرفيع عند ربه، حتى رفع ذكره بين الناس حتى لا يدانيه ﷺ ولا يصل إليه أحد من البشر في هذه المكانه. {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴿٤﴾
وفي السورة بشارة للنبي الذي تحمل ما تحمل من الأذى بأن ؛ {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴿٥﴾ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴿٦﴾، وهو وامته من بعده. فلله الحمد والفضل والمنة.
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴿١﴾ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ﴿٢﴾ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ ﴿٣﴾ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴿٤﴾ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴿٥﴾ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴿٦﴾ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ ﴿٧﴾ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب ﴿٨﴾
تفسير السورة:
قول تعالى: { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} يعني:أما شرحنا لك صدرك، أي:نورناه وجعلناه فَسيحًا رحيبًا واسعًا كقوله:{ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} (الأنعام ١٢٥)، وقال تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } (الزمر ٢٢)
وكما شرح الله صدره كذلك جعل شَرْعه فسيحا واسعًا سمحًا سهلا لا حرج فيه ولا إصر ولا ضيق.
وقيل:المراد بقوله: { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} شرح صدره ليلة الإسراء، كما تقدم من رواية مالك بن صعصعة وقد أورده الترمذي هاهنا. وهذا وإن كان واقعًا، ولكن لا منافاة، فإن من جملة شرح صدره الذي فُعِل بصدره ليلة الإسراء، وما نشأ عنه من الشرح المعنوي أيضًا، والله أعلم.
قال عبد الله بن الإمام أحمد: عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: "أنَّ أبا هريرةَ كان جريئًا على أن يسأل رسولَ اللهِﷺ عن أشياءَ لا يسألُه عنها غيرُه فقال يا رسولَ اللهِ ما أولُ ما رأيتَ من النُّبوَّةِ ؟ فاستوى رسولُ اللهِ ﷺ جالسًا وقال لقد سألتَ أبا هريرةَ ؛ إني لفي صحراءَ ابنِ عشرِ سنين َوأشهرٍ، وإذا بكلامٍ فوق رأسي وإذا رجلٌ يقول لرجلٌ أهوَ هوَ قال: نعم ، فاسقبلاني بوجوهٍ لم أرَها لخلقٍ قطُّ وأرواحٍ لم أجدْها من خلقٍ قطُّ وثيابٍ لم أرَها على أحدٍ قطُّ، فأقبلا إليَّ يمشيان حتى أخذَ كلُّ واحدٍ منهما بعضُدي لا أجدِ لأحدهما مَسًّا فقال أحدُهما لصاحبِه أضجِعْهُ فأضجعَاني بلا قصرٍ ولا هصرٍ وقال أحدُهما لصاحبِه افلقْ صدرَه فهوى أحدُهما إلى صدري ففلقَها فيما أرى بلا دمٍ ولا وجعٍ فقال له: أَخرِجِ الغِلَّ والحسدَ فأخرج شيئًا كهيئةِ العلقةِ ثم نبذَها فطرحها ، فقال له: أَدخِلِ الرأفةَ والرحمةَ ، فإذا مثلُ الذي أخرج يشبهُ الفضةَ، ثم هزَّ إبهامَ رجلي اليُمنى فقال: اغدُ واسلَمْ فرجعتُ بها أغدو رِقَّةً على الصغيرِ ورحمةً للكبيرِ."( السلسلة الصحيحة للألباني)
وفي الصحيح عند مسلم عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة - رجل من قومه - أن النبي ﷺ قال: " بَيْنا أنا عِنْدَ البَيْتِ بيْنَ النَّائِمِ والْيَقْظانِ، إذْ سَمِعْتُ قائِلًا يقولُ: أحَدُ الثَّلاثَةِ بيْنَ الرَّجُلَيْنِ، فَأُتِيتُ فانْطُلِقَ بي، فَأُتِيتُ بطَسْتٍ مِن ذَهَبٍ فيها مِن ماءِ زَمْزَمَ، فَشُرِحَ صَدْرِي إلى كَذا وكَذا، قالَ قَتادَةُ: فَقُلتُ لِلَّذِي مَعِي ما يَعْنِي قالَ: إلى أسْفَلِ بَطْنِهِ، فاسْتُخْرِجَ قَلْبِي، فَغُسِلَ بماءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ أُعِيدَ مَكانَهُ، ثُمَّ حُشِيَ إيمانًا وحِكْمَةً، ثُمَّ أُتِيتُ بدابَّةٍ أبْيَضَ، يُقالُ له: البُراقُ، فَوْقَ الحِمارِ، ودُونَ البَغْلِ...."
وقوله: ( وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ) أي حططنا عنك وزرك، بمعنى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ }( الفتح ٢}
{الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} الإنقاض:الصوت. وقال غير واحد من السلف في قوله: {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} أي: أثقلك حمله. أي أثقله حتى سمع نقيضه؛ أي صوته.
وأهل اللغة يقولون:
أنقض، الحِمل ظهر الناقة: إذا سمعت له صريرا من شدة الحمل. وكذلك سمعت نقيض الرحل؛ أي صريره.
وقوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} قال مجاهد: لا أُذْكرُ إلا ذُكِرتَ معي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.
وقال قتادة:رفع اللهُ ذكرَه في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا مُتشهد ولا صاحبُ صلاة إلا ينادي بها:أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
قال ابن جرير:حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرنا عمرو بن الحارث، عن دَراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول اللهﷺ أنه قال: « أتاني جبريل فقال: إنّ ربي وربك يقول:كيف رفعت ذكرك؟ قال:الله أعلم. قال:إذا ذُكِرتُ ذُكِرتَ معي» ( ابن حبان – إسناده ضعيف) ورواه غيره .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا أبو عُمر الحَوضي، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:قال رسول الله ﷺ: « سَأَلْتُ ربِّي مسألةً و ودِدْتُ أَنِّي لمْ أَسْأَلْهُ ، قُلْتُ : يا رَبِّ ! كانَتْ قَبلي رسلٌ، منهُمْ مَنْ سَخَّرْتَ لهُ الرِّياحَ، و مِنْهُمْ مَنْ كان يُحيي المَوْتَى، [ وكلمْتُ موسى ]، قال : أَلمْ أَجِدْكَ يتيمًا فَآوَيْتُكَ ؟ ألمْ أَجِدْكَ ضالًا فَهَدَيْتُكَ؟ ألمْ أَجِدْكَ عَائِلا فَأَغْنَيْتُكَ ؟ أَلمْ أَشْرَحْ لكَ صَدْرَكَ، و وضَعْتُ عَنْكَ وِزْرَكَ ؟ قال : فقُلْتُ بلى يارَبُّ ! "فَوَدِدْتُ أنْ لمْ أَسْأَلْهُ " ( السلسلة الصحيحة)
وحكى
البغوي، عن ابن عباس ومجاهد:أن المراد بذلك:الأذان. يعني:ذكره فيه، وأورد من شعر
حسان بن ثابت
:
وقال آخرون:رفع الله ذكره في الأولين والآخرين، ونوه به، حين أخذ الميثاق على جميع النبيين أن يؤمنوا به، وأن يأمروا أممهم بالإيمان به، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} ( آل عمران٨١)
ثم شهر ذكره في أمته فلا يُذكر الله إلا ذُكر معه، وصلى الأله عليه وأمر بالصلاة عليه وجعل لها الثواب العظيم. وجعل له من الفضائل ما لا يحصى ، وشرفه بالشهادة العظمى على الخلق أجمعين يوم القيامة، وأمر بمؤازرته وبتوقيره، قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴿٨﴾ لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴿٩﴾ (سورة الفتح)
وقوله: ( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ) أخبر تعالى أن مع العسر يوجَدُ اليسر، ثم أكد هذا الخبر.
قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا حُميد بن حماد بن خَوَار أبو الجهم، حدثنا عائذ بن شُريح قال:سمعت أنس بن مالك يقول:كان النبي ﷺجالسًا وحياله حجر، فقال: « لو جاء العسر فدخل هذا الحجر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه » ، فأنـزل الله عز وجل: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا }
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، عن الحسن قال:كانوا يقولون:لا يغلب عسر واحد يسرين اثنين.
وقال ابن جرير:حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور، عن مَعْمَر، عن الحسن قال: أنَّ النَّبيَّ ﷺخرجَ ذاتَ يومٍ وَهوَ يضحَكُ وَيقولُ : "لَن يغلبَ عُسرٌ يُسرَينِ ، إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا "(ضعيف الجامع)
وقال سعيد، عن قتادة: ذُكِرَ لنا أن رسول الله ﷺ بشر أصحابه بهذه الآية فقال: "لن يغلب عسر يسرين "
الأستنتاج اللغوي لهذه الأية:
ومعنى هذا: أن العسر معرف في الحالين، فهو مفرد، واليسر منكر فتعدد؛ ولهذا قال: « لن يغلب عسر يسرين » ، يعني قوله: ( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ) فالعسر الأول عين الثاني واليسر تعدد.
وقال الحسن بن سفيان:حدثنا يزيد بن صالح، حدثنا خارجة، عن عباد بن كثير، عن أبي الزناد، عن أبي صالح، عن أبي هريرة:أن رسول الله ﷺ قال: « تنزِلُ المعونةُ من السَّماءِ على قدرِ المُؤنةِ وينزلُ الصَّبرُ على قدرِ المصيبةِ "( اسناده ضعيف-ضعيف الجامع ). وقال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} ( البقرة ٢٨٦ )، وقال سبحانه:{ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } (الطلاق ٧)
ومما يروى عن الشافعي رحمه الله، أنه قال:
صَـبرا جَـميلا مـا أقـرَبَ الفَـرجـا مَـن رَاقَـب اللـه فـي الأمـور نَجَا
مَــن صَــدَق اللـه لَـم يَنَلْـه أذَى وَمَــن رَجَـاه يَكـون حَـيثُ رَجَـا
ومما ينسب للإمام الشافعي:
ولرُبَّ نازلة يضيق بها الفتى ذرعًا وعند الله منها مخرجُ
ضاقت فلمّا استحكمت حلقاتُها فُرِجت وكانَ يظنُّ أنّها لا تُفرجُ
وقوله: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} أي:إذا فَرغت من أمور الدنيا وأشغالها وقطعت علائقها، فانصب في العبادة، وقم إليها نشيطا فارغ البال، وأخلص لربك النية والرغبة.
ومن هذا القبيل قوله ﷺ في الحديث المتفق على صحته: «لا صَلَاةَ بحَضْرَةِ الطَّعَامِ، ولَا هو يُدَافِعُهُ الأخْبَثَانِ.» وقوله ﷺ: « إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء، فابدءوا بالعَشَاء».
قال مجاهد في هذه الآية: إذا فرغت من أمر الدنيا فقمت إلى الصلاة، فانصب لربك، وفي رواية عنه:إذا قمت إلى الصلاة فانصب في حاجتك، وعن ابن مسعود:إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل. وعن ابن عياض نحوه. وفي رواية عن ابن مسعود: ( فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ) بعد فراغك من الصلاة وأنت جالس.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ) يعني:في الدعاء.
وقال زيد بن أسلم، والضحاك: ( فَإِذَا فَرَغْتَ ) أي:من الجهاد ( فَانْصَبْ ) أي:في العبادة. ( وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ) قال الثوري:اجعل نيتك ورغبتك إلى الله، عز وجل.
آخر تفسير سورة « ألم نشرح » ولله الحمد.
No comments:
Post a Comment