سورة المطففين-ج ١- من هم المطففون؟
التعريف بالسورة
هي سورة مكية، قيل هي آخر نزلت في مكة- ويقال أول سورة نزلت في المدينة، ودليلهم حديث ابن عباس التالي، وقيل أنه كان أهل مكة كذلك- من المفصل، من جزء ٣٠ ( عم يتساءلون)، وعدد آياتها ٣٦ آية، وترتيبها الثالثة والثمانون، نزلت بعد سورة العنكبوت، بدأت بالدعاء بالشر، والسور التي بدأت بالدعاء ثلاثة، وكلها دعاء شر، وهي بترتيب المصحف: المطففين {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}، والهمزة {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} والمسد {تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ}
لم يذكر لفظ الجلالة في السورة، بها سكتة لطيفة في الآية { كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين ١٤) لا يجوز أيضا الوقف على كلمة (بَلْ) وقفا تاما، بل يجب السكت عليها مع إظهارها من غير إدغام.
محور مواضيع السورة :
شملت سورة المطففين العديد من المواضيع والتي من بينها :
تثبيت العقيد باليوم الآخر، كما في معظم سور هذا الجزء، وذلك بوصف أحوال الناس فيها.
وفيها الوعيد الشديد للمطففين في قوله {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ}.
وفيها بيان جزاء الفجار ممن ناصب رسول الله العداء في أوائل الدعوة، ومن عمل عمله في كل زمان. في قوله {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ}
ردع المكذبين بالقرآن، بأن يكون جزاء تكذيبهم للقرآن أن يختم على قلوبهم، فلا تعي ولا تفقه، في قوله { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
الجزاء الذي يحصل عليه الأبرار في قوله {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ}
وذكر ما كان من فعل المجرمين الكافرين بالمؤمنين في الدنيا {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ}
ثم بين ربنا سبحانه أنه سينتصر للمؤمنين في الآخرة، ويشف صدورهم ممن كانوا يستهزئون بهم في الدنيا، في قوله {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُون}. كقوله تعالى: ( فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا ) التوبة
سبب نزول السورة :
عنِ ابنِ عبَّاسٍ قَال: "لما قَدمَ النَّبِيّ الْمَدِينَةَ كَانُوا مِنْ أَخْبَثِ النَّاسِ كَيْلاً فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}" [المطففين 1] فأحسنوا الكيل بعد ذلك » (صحيح ابن ماجه، وابن حبان) .
وعن ابن عباس أيضا قال: هي أول سورة نزلت على رسول الله ﷺ ساعة نزل المدينة، وكان هذا فيهم؛ كانوا إذا اشتروا استوفوا بكيل راجح، فإذا باعوا بخسوا المكيال والميزان، فلما نزلت هذه السورة انتهوا، فهم أوفي الناس كيلا إلى يومهم هذا.
وقال قوم : نزلت في رجل يعرف بأبي جهينة، واسمه عمرو؛ كان له صاعان يأخذ بأحدهما، ويعطي بالآخر، ومنه المثل يكيل بمكيالين.
مناسبة السورة مع ما قبلها؛ الإنفطار:
بين سورة الإنفطار، وسورة المطففين تناسب عجيب ، منه:
في الانفطار في قوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} ( ١٣)، و لم يذكر شيئا عن هذا النعيم ما هو، فجاءت المطففين لتبين ذلك النعيم، في قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ* تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيم } الآيات ( ٢٢-٢٨)
بينما في الانفطار: في قوله : {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ*يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ* وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} الآيات من ( ١٤-١٦) ذكر العقاب الأبدي وما هم عنها بغائبين ولم يذكر سبب استحقاقهم لهذا العقاب، فجاءت المطففين لتبين خصائصهم. وهو التطفيف والاستهزاء بالمؤمنين، والاغترار بما يفعلون. وسيأتي.
التفسير:
قوله تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ }، هذه الآية بمثابة إعلان الحرب على المطفّفين، وتهديدهم بالجزاء العادل، عند البعث والحساب، ورسالة لمن يغشون في الميزان.
قال أهل اللغة: المطفف مأخوذ من الطفيف، وهو القليل، والمطفف هو المقل حق صاحبه بنقصانه عن الحق، في كيل أو وزن. وقال الزجاج : إنما قيل للفاعل من هذا مطفف؛ لأنه لا يكاد يسرق من المكيال والميزان إلا الشيء الطفيف الخفيف، وإنما أخذ من طف الشيء وهو جانبه.
وفي الحديث:قال رسول الله ﷺ: " أنسابُكُم هذِهِ لَيسَتْ بِمَسبَّةٍ علَى أحدٍ ، كلُّكم بنو آدمَ، طفُّ الصَّاعِ بالصَّاعِ لم تَملَأوها، ليسَ لأحدٍ علَى أحدٍ فضلٌ إلَّا بدينٍ وَتَقوى، كفى بالرَّجلِ أن يَكونَ بذيًّا فاحِشًا بخيلًا." (السلسلة الصحيحة للألباني – من مشكاة المصابيح)، وهو أن يقرب أن يمتلئ فلا يفعل، والمعنى بعضكم من بعض قريب، فليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى.
والتطفيف: هو نقص المكيال، وهو ألا يملأه إلى آخره.
المطفف : هو الذي يخسر في الكيل والوزن، ولا يوفي ؛ وروى ابن القاسم عن مالك : أنه قرأ { ويل للمطففين} فقال : لا تطفف ولا تخلب، ولكن أرسل وصب عليه صبا، حتى إذا استوفى أرسل يدك ولا تمسك.
ورد في القرآن سبع مواضع في نقص المكيال والميزان، وذلك في قصة نبي الله شعيب عليه السلام يذكرهم أن يوفوا المكيال والميزان، وهذا في أهل مدين، وهم أول من نقص المكيال، وأول من طفف)
{وَيا قَومِ أَوفُوا المِكيالَ وَالميزانَ بِالقِسطِ وَلا تَبخَسُوا النّاسَ أَشياءَهُم وَلا تَعثَوا فِي الأَرضِ مُفسِدينَ} (سورة هود٨٥)، والمكيال هو ما يقاس بالحجم أو الطول والعرض، والميزان ما يوزن. ولا تبخسوا الناس أشياءهم، شخص يعرض بضاعة، فيبدا الشاري بذكر عيوب قد لا تكون فيها حتى يقلل من سعرها .
وفي سورة الرحمن: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ﴿٧﴾ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ﴿٨﴾ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ﴿٩﴾، فرب العالمين بعد أن رفع السماء، أقر للكون إقامة الميزان بالقسط، وقال تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ }(الإسراء ٣٥)
التطفيف المنهي عنه أعم من ذلك:
والتطفيف هنا لا يكون في البيع والشراء فقط بل في كل الأمور التى يسلب فيها الإنسان حق أحد له عليه حق، سواء كان فعلا ، أو قولا، في ما هو لله أولا، وما هو للخلق ثانيا.
ففي حق الله: ففي العبادات تطفيف: الصلاة ينقرها نقرا، أو لا يعي ما يقول فيها، والزكاة يمنعها المستحقين، من الأقارب أولا، أو ينقص منها. وفي الصيام ...
وفي حقوق الناس: في المعاملات بين الناس: مثل تقصير العامل في العمل، ويريد أن يوفيه صاحب العمل أجره كاملا، أو سرقة الزوج حقوق زوجته ، لا يعطيها مهرها، أو يتحايل عليها ليأخذ منها ما لا يحل له، أو يتكلم فيها بالتجريح، وينسى ما فيها من الحسنات، أو هي تتكلم هي في نقائصه ولا تذكر الحسنات....وغيرها من تلك الأمثال التى تدل على سلب الحقوق من أصحابها.
السورة تقر بمبدأ العدل في جميع التعاملات وضرورة اتباع العدل والابتعاد عن الظلم لأن الظلم ظلمات يوم القيامة وأن الله تعالى سيعاقب الظالم أشد العقاب.
فمن حثتة المحبة على الزيادة ، والكره على النقص في الحق الواجب هو تطفيف.
وقوله تعالى {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} قال الفراء : أي من الناس يقال : اكتلت منك : أي استوفيت منك، والمعنى : الذين إذا استوفوا من أحد أخذوا الزيادة، وإذا أوفوا أو وزنوا لغيرهم نقصوا، فلا يرضون للناس ما يرضون لأنفسهم.
قال الطبري { عَلَى} في الآية بمعنى عند.
وقوله تعالى {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}، أي كالوا لهم أو وزنوا لهم فحذفت اللام، ومثله نصحتك ونصحت لك، ويقال: كلتك ووزنك بمعنى كلت لك، ووزنت لك.
وفيها نكتة لطيفة: قيل حذفت اللام من لهم في كالوهم، فصارت الكلمة كالوهم أي وزنوهم، كأنه وزن الإنسان نفسه، وهذا لأن المال عند الناس يعدل النفس، فوزن المال لكم كأنه أعطاه ما يزن هو عنده، إن كان فقير، بيخس له بالوزن، لأن هذا الفقير لا يزن بنظره شيء، وإن كان غني أو وجيه يزيد له في الوزن.
قال ابن عباس رضي الله عنه لأصحابِ المِكْيالِ والميزانِ: " إنَّكم قد ولِّيتُمْ أمرينِ هلَكَت فيهِ الأممُ السالفةُ قبلَكُم" (صححه الترمذي موقوفا)، وخص الأعاجم، لأنهم كانوا يجمعون الكيل والوزن جميعا، وكانا مفرقين في الحرمين؛ كان أهل مكة يزنون، وأهل المدينة يكيلون.
وقال رسول الله ﷺ : " خمسٌ بخمسٍ ، ما نقض قومٌ العهدَ إلا سُلِّطَ عليهم عدَوُّهم ، وما حكموا بغير ما أنزل اللهُ إلا فشا فيهم الفقرُ ، ولا ظهرتْ فيهم الفاحشةُ إلا فشا فيهم الموتُ ، ولا طفَّفوا المكيالَ إلا مُنِعوا النباتَ وأُخِذوا بالسِّنين ، ولا مَنَعوا الزكاةَ إلا حُبِسَ عنهم القطرُ" (الساسلة الصحيحة- من رواية الطبراني)
قال نافع : كان ابن عمر يمر بالبائع فيقول : أتق الله وأوف الكيل والوزن بالقسط، فإن المطففين يوم القيامة يوقفون حتى إن العرق ليلجمهم إلى أنصاف آذانهم
ثم قال تعالى متوعداً لهم: { أَلَا يَظُنُّ أُولَـئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} ؟ أي ألا يوقن أولئك، ولو أيقنوا ما نقصوا في الكيل والوزن. وقيل : الظن بمعنى التردد، أي إن كانوا لا يستيقنون بالبعث، أي ما يخاف أولئك من البعث والقيام بين يدي من يعلم السرائر والضمائر، في يوم عظيم الهول، جليل الخطب، وهذا إنكار وتعجيب عظيم من حالهم، في الاجتراء على التطفيف، من خسر فيه أدخل ناراً حامية؟ وقوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي يقومون حفاة عراة، في موقف صعب حرج، ضيق على المجرم، ويغشاهم من أمر اللّه تعالى ما تعجز القوى والحواس عنه، عن ابن عمر أن النبي ﷺ قال: " {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} قال: يقومُ النَّاسُ يومَ القيامةِ لرَبِّ العالَمينَ تبارك وتعالى، في الرَّشحِ إلى أنصافِ آذانِهم" (أخرجه البخاري ومسلم والإمام مالك، واللفظ للإمام أحمد)، هكذا يكون الناس في يوم الحساب، فماذا اعددتم له.
No comments:
Post a Comment