سورة المطففين ٢ – كتب في سجين وآخر في عليين
التفسير:
يقول تعالى حقاً: { كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} أي أن مصيرهم ومأواهم، { كَلَّا} ردع وتنبيه، أي ليس الأمر على ما هم عليه من تطفيف الكيل والميزان، أو تكذيب بالآخرة، فليرتدعوا عن ذلك، فهي كلمة ردع وزجر، أو بمعنى حقا أن هذا مصيرهم، ثم استأنف فقال {إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ} إن أعمال الفجار. وعن ابن عباس قال: إن أرواح الفجار وأعمالهم {لَفِي سِجِّينٍ}، فعّيل من السجن، وهو الضيق كما يقال: فسّيق وخمّير وسكّير ونحو ذلك.
وعن مجاهد قال: سجين صخرة تحت الأرض السابعة، تقلب فيجعل كتاب الفجار تحتها، أو تحتها أرواح الكفار، ولهذا عظّم أمر سجين، فقال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ}؟ أي هو أمر عظيم، وسجين مقيم، وعذاب أليم، ثم قال قائلون: هي تحت الأرض السابعة، وقد تقدم في حديث البراء بن عازب يقول اللّه عزَّ وجلَّ في روح الكافر (أن روح الكافر تصعد فلا تفتح لها أبواب السماء ويقول الله: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى).
والصحيح أن سجيناً مأخوذ من السجن وهو الضيق، فإن المخلوقات كل ما تسافل منها ضاق وكل ما تعالى منها اتسع، ولما كان مصير الفجار إلى جهنم وهي أسفل السافلين، كما قال تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ* .إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} (التين ٥- ٦) وقال ههنا: { كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} وهو يجمع الضيق والسفول ، كما قال تعالى: { وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُّقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا } ( الفرقان١٣).
وقوله تعالى: {كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} ليس تفسيراً لقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ}، وإنما هو تفسير لما كتب لهم من المصير إلى سجين، أي مرقوم مكتوب مفروغ منه، لا يزاد فيه أحد ولا ينقص منه أحد، وعن ابن عباس قال: إن الكافر يحضره الموت، وتحضره رسل الله، فلا يستطيعون لبغض الله له وبغضهم إياه، أن يؤخروه ولا يعجلوه حتى تجيء ساعته، فإذا جاءت ساعته قبضوا نفسه، ورفعوه إلى ملائكة العذاب، فأروه ما شاء الله أن يروه من الشر، ثم هبطوا به إلى الأرض السابعة، وهي سجين، فأثبتوا فيها كتابه.
وقال الحسن: سجين في الأرض السابعة. وقيل: هو ضرب مثل وإشارة إلى أن الله تعالى يرد أعمالهم التي ظنوا أنها تنفعهم.ثم قال تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} أي إذا صاروا يوم القيامة إلى ما أوعدهم اللّه من السجن والعذاب المهين، {وَيْلٌ} لهم والمراد من ذلك الهلاك والدمار كما يقال: ويل لفلان، ثم قال تعالى: مفسراً للمكذبين الفجّار الكفرة: {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} أي لا يصدقون بوقوعه، ولا يعتقدون كونه، ويستبعدون أمره.
قال اللّه تعالى: {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} أي معتد في أفعاله من تعاطي الحرام، والمجاوزة في تناول المباح، والأثيم في أقواله إن حدث كذب، وإن وعد أخلف، وإن خاصم فجر. وقيل: كل فاجر جائر عن الحق، معتد على الخلق في معاملته إياهم وعلى نفسه، وهو أثيم في ترك أمر الله. وقيل هذا في الوليد بن المغيرة وأبي جهل ونظرائهما، لقوله تعالى: {إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أي إذا سمع كلام اللّه تعالى من الرسول يكذب به، ويظن به ظن السوء، فيعتقد أنه مفتعل مجموع من كتب الأوائل، كما قال تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ ۙ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} ( النحل٢٤)، وقال تعالى: { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا }(الفرقان٥)، قال اللّه تعالى: { كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي ليس الأمر كما زعموا، ولا كما قالوا: إن هذا القرآن أساطير الأولين، بل هو كلام اللّه ووحيه وتنزيله على رسوله ﷺ، وإنما حجب قلوبهم عن الإيمان به، ما عليها من الرين الذي قد لبس قلوبهم، أي غطى عليها من كثرة الذنوب والخطايا، ولهذا قال تعالى: {مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} والرين يعتري قلوب الكافرين، والغَيْن للمقريين، أُغِينَ بالرَّجل: غُشِيَ عليه .
وقد روى الترمذي والنسائي عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: "إنَّ المُؤْمِنَ إذا أذنَبَ كانت نُكْتةٌ سوداءُ في قلبِهِ، فإن تابَ ونزعَ واستَغفرَ، صُقِلَ قلبُهُ، وإن زادَ زادت، حتَّى يَعلوَ قلبَهُ ذاكَ الرَّانُ الَّذي ذَكَرَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ في القرآنِ :{ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}" (أخرجه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح وقد رواه أحمد بنحوه).
وكما قال ﷺ: " تعرضُ الفتنُ على القلوبِ كالحصيرِ عُودًا عُودًا ، فأيُّ قلبٍ أُشْرِبَها ، نُكِتْتْ فيه نكتةٌ سوداءُ ؛ وأيُّ قلبٍ أَنكَرَها نكتتْ فيه نكتةٌ بيضاءُ ، حتى تصيرَ على قلبينِ : أبيضُ مثلُ الصفا فلا تضرُّه فتنةٌ ما دامتِ السمواتُ والأرضُ والآخرُ أسودُ مِربادًّا ، كالكُوزِ مُجَخِيًا لا يَعرِفُ معروفًا ولا يُنكِرُ مُنكَرًا إلا ما أُشْرِبَ هواه " رواه مسلم .وقال الحسن البصري: هو الذنب حتى يعمى القلب فيموت. الصفا: أي الحجر الأملس( من معدن) { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ۖ} ( البقرة ٢٦٤)
وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} أي ثم هم يوم القيامة محجوبون عن رؤية ربهم وخالقهم، قال الإمام الشافعي: وفي هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عزَّ وجلَّ يومئذ، وهذا الذي قاله في غاية الحسن، وهو استدلال بمفهوم هذه الآية، كما دل عليه منطوق قوله تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ﴿٢٢﴾ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴿٢٣﴾ (سورة القيامة)، قال الحسن رحمه الله : " نظرت إلى ربها فنضرت بنوره ".
كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة، منها في مسلم: عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ : " إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ فَيَقُولُونَ أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنْ النَّارِ قَالَ فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ وهي الزيادة ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ )، في رؤية المؤمنين ربهم عزَّ وجلَّ في الدار الآخرة، قال الحسن: يكشف الحجاب فينظر إليه المؤمنون كل يوم غدوة وعشية.
وقوله تعالى: { ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} أي ثم هم مع هذا الحرمان عن رؤية الرحمن، من أهل النيران، { ثُمَّ يُقَالُ هَـٰذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ} أي يقال لهم ذلك، على وجه التقريع والتوبيخ، والتصغير والتحقير.
قوله تعالى { كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} { كَلَّا}، بمعنى حقا،. وقيل أي ليس الأمر كما يقولون ولا كما ظنوا بل كتابهم في سجين، وكتاب المؤمنين في عليين. قال ابن عباس : أي في الجنة. وعنه أيضا قال : أعمالهم في كتاب الله في السماء. وقال قتادة : يعني السماء السابعة فيها أرواح المؤمنين
{ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ } . وعن كعب الأحبار قال : إن روح المؤمن إذا قبضت صعد بها إلى السماء، وفتحت لها أبواب السماء، وتلقتها الملائكة بالبشرى، ثم يخرجون معها حتى ينتهوا إلى العرش، فيخرج لهم من تحت العرش، رق فيرقم ويختم فيه النجاة من الحساب يوم القيامة ويشهده المقربون.
في اللغة:
كِتَابٌ مَرْقُومٌ : كِتَابٌ مَسْطُورٌ بَيِّنُ الكِتَابَةِ مَا هُوَ مَرْقُومٌ يَدُومُ
وقال قتادة أيضا { في عليين} هي فوق السماء السابعة عند قائمة العرش اليمنى. وقيل : عليون أعلى الأمكنة. وقيل : معناه علو في علو مضاعف، كأنه لا غاية له؛ ولذلك جمع بالواو والنون. والظاهر أن عليين مأخوذ من العلو، وكلما علا الشيء وارتفع عظم واتسع، ولهذا قال تعالى معظماً أمره ومفخماً شأنه: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} ؟ ثم قال تعالى مؤكداً لما كتب لهم: { كِتَابٌ مَّرْقُومٌ* يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} وهم الملائكة قاله قتادة، وقال ابن عباس: يشهده من كل سماء مقربوها، وهو معنى قول الطبري.
وقيل : إن عليين صفة للملائكة، فإنهم الملأ الأعلى؛ كما يقال : فلان في بني فلان؛ أي هو في جملتهم وعندهم. والذي في الخبر من حديث ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال : (إنَّ الرجُلَ من أهلِ عِلِّيِّينَ ليُشرِفُ على أهلِ الجنَّةِ، فتُضِيءُ الجنَّةُ لوجهِه؛ كأنَّها كَوْكبٌ دُرِّيٌّ]: وإنَّ أبا بَكرٍ وعُمرَ لَمِنهم وأَنعَمَا.)( رواه أبو داود – اسناده صحيح)، وفي خبر آخر : "إنَّ أهلَ الجنةِ ليَرَوْنَ أهلَ عليِّينَ كما ترونَ الكوكبَ الدرِّيَّ في أُفُقِ السماءِ وإنَّ أبا بكرٍ وعمرَ لمنهم وأنْعَمَا" يدل على أن عليين اسم الموضع المرتفع.
قوله تعالى: {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} أي ما الذي أعلمك يا محمد أي شيء عليون؟ على جهة التفخيم والتعظيم له في المنزلة الرفيعة. ثم فسره له فقال { كِتَابٌ مَّرْقُومٌ* يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ}. وقيل : إن { كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} ليس تفسيرا لعليين، بل تم الكلام عند قوله {عِلِّيُون} ثم ابتدأ وقال { كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} أي كتاب الأبرار كتاب مرقوم ، قال القشيري. وروي: أن الملائكة تصعد بعمل العبد، فيستقبلونه فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله من سلطانه أوحى إليهم : إنكم الحفظة على عبدي، وأنا الرقيب على ما في قلبه، وإنه أخلص لي عمله، فاجعلوه في عليين، فقد غفرت له، وإنها لتصعد بعمل العبد، فيتركونه فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله أوحى إليهم : أنتم الحفظة على عبدي وأنا الرقيب على ما في قلبه، وإنه لم يخلص لي عمله، فاجعلوه في سجين. قوله تعالى {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} أي يشهد عمل الأبرار مقربو كل سماء من الملائكة، وقال وهب وابن إسحاق : المقربون هنا إسرافيل عليه السلام، فإذا عمل المؤمن عمل البر، صعدت الملائكة بالصحيفة وله نور يتلألأ في السموات كنور الشمس في الأرض، حتى ينتهي بها إلى إسرافيل، فيختم عليها ويكتب فهو قوله {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} أي يشهد كتابتهم.
أشكرك جزيل الشكر على هذه السلسلة الرائعة التي تعينني في حفظي كثيرًا, بارك الله فيك وأثابك وجزاك عنها خير الجزاء
ReplyDelete