Thursday, 19 January 2023

تفسير سورة البقرة ح28 ما المعني البر؟ وما هي الأعمال التي تعتبر من ...

 

 تفسير سورة البقرة- ح ٢٨

                  ما هو البر، إن لم يكن هذا...؟ تفصيل شامل لكل أنواع البر

 (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.

وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ.....) 

كيف يكون في القصاص ، وهو القتل حياة؟

وهل القصاص  سبب للتقوى

 (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

 

محور مواضيع هذا الجزء:

-بيان أنواع البر، ومنها ما هو فرض وما هو نافلة، أو فضيلة.

-القصاص حياة، ولوو أنه فيه موت القاتل.

- ذكر الوصية ، ومن هم الموصى إليهم، وتفصيل مستحقيها.

التفسير:

 

قوله تعالى: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)

اشتملت هذه الآية الكريمة، على جمل عظيمة، وقواعد عميمة، وعقيدة مستقيمة، كما قال ابن أبي حاتم : بسنده؛ عن أبي ذرٍّ أنَّه سألَ رسولَ اللهِ ﷺما الإيمانُ فتلا عليهِ (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ).. إلى آخرِ الآيةِ قال ثمَّ سألَهُ أيضًا فتلاها عليهِ ثمَّ سألَهُ فقال: " المؤمن إذا عمل حسنة سرته ورجا ثوابها، وإذا عمل سيئة أحزنته وخاف عقابها"  ( رواه ابن كثير- وهو منقطع ، فإن مجاهدا لم يدرك أبا ذر ؛ فإنه مات قديما ).

وأما الكلام على تفسير هذه الآية، فإن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولا بالتوجه إلى بيت المقدس، ثم حولهم إلى الكعبة، شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين، فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك ، وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل ، وامتثال أوامره ، والتوجه حيثما وجه ، واتباع ما شرع ، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل ، وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق إلى المغرب بر ولا طاعة، إن لم يكن عن أمر الله وشرعه ; ولهذا قال : (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الآية ، كما قال في الأضاحي والهدايا : (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ) (الحج  ٣٧ ) .

وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية : ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا. فهذا حين تحول من مكة إلى المدينة ونزلت الفرائض والحدود ، فأمر الله بالفرائض والعمل بها .

وقال أبو العالية : كانت اليهود تقبل قبل المغرب، وكانت النصارى تقبل قبل المشرق، فقال الله تعالى : (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) يقول: هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل. وقال مجاهد : ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله عز وجل .

وقال الضحاك: ولكن البر والتقوى أن تؤدوا الفرائض على وجوهها .

وقال الثوري : (وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)  الآية، قال: هذه أنواع البر كلها. وصدق رحمه الله،  فإن من اتصف بهذه الآية، فقد دخل في عرى الإسلام كلها، وأخذ بمجامع الخير كله، وهو الإيمان بالله، وهو أنه لا إله إلا هو، (وَالْمَلَائِكَةِ ) وصدق بوجود الملائكة الذين هم سفرة بين الله ورسله.

(وَالْكِتَابِ) وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء، حتى ختمت بأشرفها ، وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب ، الذي انتهى إليه كل خير ، واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة ، ونسخ [ الله ] به كل ما سواه من الكتب قبله، (وَالنَّبِيِّينَ)  وآمن بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين .

وقوله : (وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ..) أي: أخرجه ، وهو محب له، ويجوز نصب ذوي القربى بالحب، فيكون التقدير على حب المعطى لذوي القربى... ، وقيل : يعود على المال، فالمنفق ينفق وهو يحب المال الذي ينفق، أو حب المعطي لذي القربي والمساكين ا

وثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعا : " قَالَ رَجُلٌ للنبيِّ ﷺ: يا رَسولَ اللَّهِ أيُّ الصَّدَقَةِ أفْضَلُ؟ قَالَ: أنْ تَصَدَّقَ وأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ، تَأْمُلُ الغِنَى، وتَخْشَى الفَقْرَ، ولَا تُمْهِلْ حتَّى إذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا، ولِفُلَانٍ كَذَا، وقدْ كانَ لِفُلَانٍ. "(البخاري)

وقال تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴿٨﴾ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ) ﴿الإنسان ٩﴾

وقال تعالى : (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ﴿آل عمران ٩٢ ﴾، وقوله : (وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) ﴿الحشر  ٩﴾، وهذا نمط آخر أرفع من هذا ، وهو أنهم آثروا بما هم مضطرون إليه، محتاجون أشد الحاجة له، وهؤلاء أعطوا وأطعموا ما هم محبون له .

وقوله : (ذَوِي الْقُرْبَىٰ) وهم: قرابات الرجل، وهم أولى من أعطى من الصدقة، كما ثبت في الحديث عن سلمان بن عامر الضبي يرفعه : " الصدقةُ على المسكينِ صدقةٌ، وعلى ذي الرحمِ ثِنتانِ، صدقةٌ وصلةٌ " ( رواه الشوكاني- صحيح) . فهم أولى الناس بك وببرك وإعطائك. وقد أمر الله تعالى بالإحسان إليهم، كما في سورة الإسراء، قوله تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ) ﴿الإسراء  ٢٦﴾‏

(وَالْيَتَامَىٰ ) هم : الذين لا كاسب لهم ، وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ والقدرة على التكسب، وفي الحديث عن علي رضي الله عنه ،عن رسول الله ﷺ قال: " ولا يُتْمَ بعدَ احْتِلامٍ " .( ضعف إسناده الألباني)

(وَالْمَسَاكِينَ) وهم: الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم، فيُعطون ما تسد به حاجتهم وخلتهم، فالمسكين ليس المعدم؛ فهذا فقير، ولكنه المسكين قادِرٌ على تَحصيلِ قُوتِه، كما ذكَرَ اللهُ عزَّ وجلَّ في شَأنِ أصحابِ السَّفينةِ: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ..) (الكهف٧٩)،  فسَمَّاهم اللهُ مَساكينَ مع امتِلاكِهِم للسَّفينةِ.

ويدل عليه ما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : ليسَ المِسْكِينُ الذي يَطُوفُ علَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ واللُّقْمَتَانِ، والتَّمْرَةُ والتَّمْرَتَانِ، ولَكِنِ المِسْكِينُ الذي لا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، ولَا يُفْطَنُ به، فيُتَصَدَّقُ عليه، ولَا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ." فيبين لنا رسول الله ﷺ أنَّ المسكينَ الكامِلَ المَسكنةِ ليس مَن يَتردَّدُ على الأبوابِ، ويَمُرُّ على الناسِ يَسأَلُهم الصَّدقةَ، ويَرُدُّه ويَكفِيه ما يَنالُه مِن اللُّقمةِ أو اللُّقمتَينِ، أو التَّمرةِ أو التَّمرتَينِ؛ وذلك لأنَّه ليس شديد الحاجة، بل قادر على تَحصيلِ قُوتِه.  المَسكين هو: المحتاجُ الَّذي لا يجِد ما يغنيه ولا يُظهِر ذلك ولا يَسأَل النَّاس، فلا يَعرِف النَّاس حاجته، فلا يَتصدَّقونَ عليه؛ لِظنِّهم غِناه؛ لِتعفُّفِه عَنِ السُّؤالِ، كما قال اللهُ عزَّ وجلَّ: (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) (البقرة ٢٧٣). "الإلحاف" في السؤال، هو الإلحاح.

(وَابْنَ السَّبِيلِ) وهو: المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته فيعطى ما يوصله إلى بلده ، وكذا الذي يريد سفرا في طاعة، فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه، ويدخل في ذلك الضيف، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس أنه قال : ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين ، وكذا قال غيره كثر.

(وَالسَّائِلِينَ) وهم: الذين يتعرضون للطلب فيعطون من الزكوات والصدقات ، كما قال الإمام أحمد :

وفي الحديث عند وكيع وعبد الرحمن بسنده عن يعلى بن أبي يحيى، عن فاطمة بنت الحسين ، عن أبيها - قال عبد الرحمن : حسين بن علي - قال : قال رسول الله ﷺ : " للسَّائِلِ حَقٌّ، وإنْ جاءَ على فرَسٍ." ( رواه أبو داود .- وحكمه أنه لا يصح)

(وَفِي الرِّقَابِ) وهم : المكاتبون من المملوكين الذين لا يجدون ما يؤدونه في كتابتهم ،

ورواه ابن مردويه من حديث آدم بن أبي إياس بسنده  عن فاطمة بنت قيس ، قالت : ( إنَّ في المالِ لحقًّا سوى الزكاةِ، ثم تلا هذه الآيةَ التي في ( سورة البقرة ) : ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) إلى قوله : (وفي الرقاب ) الآية . ( ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة)

والحديث وإن كان فيه مقال فقد دل على صحته معنى ما في الآية نفسها من قوله تعالى: (وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وآتى الزكاة ) فذكر الزكاة مع الصلاة ، وذلك دليل على أن المراد بقوله : وآتى المال على حبه ليس الزكاة المفروضة، فإن ذلك كان يكون تكرارا ، والله أعلم .

 واتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرف المال إليها . قال مالك رحمه الله : يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم.

ثم قال تعالى: (وَأَقَامَ الصَّلَاةَ ) أي: وأتم أفعال الصلاة في أوقاتها بركوعها وسجودها،  وطمأنينتها، وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي .

الفرق بين (أداء ) الصلاة، و ( إقامة ) الصلاة:

فإقامة الصلاة أي قام عليها قيام الحريص على إتمامهابكل أركانها وأوقاتها ،وبخشوعها،كما تستلزم تَقْوى ومحافظة على السلوك القويم فيما بين الصلوات الخمسة. وقيل أن الخشوع هو الصدق فى مخاطبة ربِّ العِزَّة والإخلاص التام في دعائه وعبادته، فأداء الصلاة يعني: الإتيان بأركانها كاملة، والأمر بالصلاة جاء بصيغة: ( أَقِيمُوا الصَّلَاةَ ) ﴿لأنعام ٧٢﴾، ولم يستعمل القرآن الكريم صيغة: (صلُّوا) أو (أدُّوا الصلاة) فإن هذه الصيغ لاتستلزم الحرص على تمامها، ولُغَويًّا معنى الإقامة أو قام على الشيء: (حافظَ عليهِ ورَعاهُ).

وقوله : (وَآتَى الزَّكَاةَ) يحتمل أن يكون المراد به زكاة النفس وتخليصها من الأخلاق الدنية الرذيلة، كقوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴿٩﴾‏ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا )﴿الشمس١٠﴾‏، وقول موسى لفرعون : (فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ ﴿١٨﴾‏ وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ)  ﴿النازعات١٩﴾‏)، وقوله تعالى: ( وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ ﴿٦﴾‏ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ )﴿فصلت ٧﴾‏

ويحتمل أن يكون المراد زكاة المال كما قاله سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان، وهو الأوضح من الآية بعد ان ربطها بالصلاة، ويكون المذكور من إعطاء هذه الجهات والأصناف المذكورين إنما هو التطوع والبر والصلة، ويدل عليه الحديث عن فاطمة بنت قيس: أن في المال حقا سوى الزكاة ، والله أعلم .

وقوله سبحانه وتعالى: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ) كقوله : (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ) ﴿الرعد٢٠﴾، وعكس هذه الصفة النفاق ، كما صح في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله ﷺ: " آيَةُ المُنافِقِ ثَلاثٌ: إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وعَدَ أخْلَفَ، وإذا اؤْتُمِنَ خانَ " . وفي الحديث مثله عن عبد الله بن عمرو : " إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وإذَا خَاصَمَ فَجَرَ. "( البخاري)

وقوله : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ) أي: في حال الفقر، وهو البأساء ، وفي حال المرض والأسقام ، وهو الضراء . (وَحِينَ الْبَأْسِ) أي : في حال القتال والتقاء الأعداء ، قاله جمع من الصحابة والتابعين. والله أعلم

وقوله تعالى: (ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ) أي: هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم،  لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال، فهؤلاء هم الذين صدقوا (وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) لأنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات .

وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (١٧٨)

يقول تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ)  كتب عليكم القصاص كتب معناه فرض وأثبت العدل في القصاص، أيها المؤمنون حركم بحركم، وعبدكم بعبدكم، وأنثاكم بأنثاكم، ولا تتجاوزوا وتعتدوا، كما اعتدى من قبلكم وغيروا حكم الله فيهم.

والقصاص مأخوذ من قص الأثر وهو اتباعه ، ومنه القاص لأنه يتبع الآثار والأخبار. وقص الشعر اتباع أثره ، فكأن القاتل سلك طريقا من القتل فقص أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك ، ومنه فارتدا على آثارهما قصصا ، وقيل : القص القطع ، يقال : قصصت ما بينهما ، ومنه أخذ القصاص؛ لأنه يجرحه مثل جرحه أو يقتله به ، يقال : أقص الحاكم فلانا من فلان وأباءه به فأمثله فامتثل منه ، أي اقتص منه .

صورة القصاص هو أن القاتل فرض عليه إذا أراد الولي القتل الاستسلام لأمر الله والانقياد لقصاصه المشروع ، وأن الولي فرض عليه الوقوف عند قاتل وليه وترك التعدي على غيره ، كما كانت العرب تتعدى فتقتل غير القاتل ،  وهو معنى قوله عليه السلام :" مِن أعتى النَّاسِ على اللهِ عزَّ وجلَّ مَن قتَلَ غَيرَ قاتِلِهِ، أو طلَبَ بدَمِ الجاهليَّةِ مِن أهلِ الإسلامِ، أو بصَّرَ عَينَيْهِ في النَّومِ ما لم تُبصِرْ" ( قال الأرناؤوط – ضعيف)

 قال الشعبي وقتادة وغيرهما: إن أهل الجاهلية كان فيهم بغي وطاعة للشيطان ، فكان الحي إذا كان فيه عز ومنعة فقتل لهم عبد ، قتله عبد قوم آخرين قالوا : لا نقتل به إلا حرا ، وإذا قتلت منهم امرأة قالوا : لا نقتل بها إلا رجلا ، وإذا قتل لهم وضيع قالوا : لا نقتل به إلا شريفا ، ويقولون : ( القتل أوقى للقتل ) بالواو والقاف .

لا خلاف أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولوا الأمر ، فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود وغير ذلك؛ لأن الله سبحانه خاطب جميع المؤمنين بالقصاص ، ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعا أن يجتمعوا على القصاص ، فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص وغيره من الحدود ، وليس القصاص بلازم إنما اللازم ألا يتجاوز القصاص وغيره من الحدود إلى الاعتداء ، فأما إذا وقع الرضا بدون القصاص من دية أو عفو فذلك مباح ، على ما يأتي بيانه .

فإن قيل : فإن قوله تعالى كتب عليكم معناه فرض وألزم ، فكيف يكون القصاص غير واجب ؟ قيل له : معناه إذا أردتم ، فأعلم أن القصاص هو الغاية عند التشاح ، والقتلى جمع قتيل ،

 وسبب ذلك قريظة و [ بنو ] النضير ، كانت بنو النضير قد غزت قريظة في الجاهلية وقهروهم ، فكان إذا قتل النضري القرظي لا يقتل به، بل يفادى بمائة وسق من التمر، وإذا قتل القرظي النضري قتل به ، وإن فادوه فدوه بمائتي وسق من التمر ضعف دية القرظي، فأمر الله بالعدل في القصاص، ولا يتبع سبيل المفسدين المحرفين، المخالفين لأحكام الله فيهم، كفرا وبغيا ، فقال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ) .

وذكر في [ سبب ] نزولها ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم : عن سعيد بن جبير ، في قول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ) يعني: إذا كان القتل عمدا ، الحر بالحر . وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، فكان بينهم قتل وجراحات، حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم، فنزلت فيهم .

(الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ ۚ)  قال القرطبي: جاءت الآية مبينة لحكم النوع إذا قتل نوعه ، فبينت حكم الحر إذا قتل حرا ، والعبد إذا قتل عبدا ، والأنثى إذا قتلت أنثى ، ولم تتعرض لأحد النوعين إذا قتل الآخر ، فالآية محكمة وفيها إجمال يبينه قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ( المائدة ٤٥) ، وبينه النبيﷺ بسنته لما قتل اليهودي بالمرأة

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : ( والأنثى بالأنثى ) وذلك أنهم لا يقتلون الرجل بالمرأة، ولكن يقتلون الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة فأنزل الله: (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ)  فجعل الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم من العمد رجالهم ونساؤهم في النفس، وفيما دون النفس ، وجعل العبيد مستوين فيما بينهم من العمد في النفس وفيما دون النفس رجالهم ونساؤهم ، وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله : (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) . فيقتل الحر بالعبد ، والمسلم بالذمي ، واحتجوا بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ) فعم ، وقوله : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس قالوا : والذمي مع المسلم متساويان في الحرمة التي تكفي في القصاص وهي حرمة الدم الثابتة على التأبيد ، فإن الذمي محقون الدم على التأبيد ، والمسلم كذلك ، وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام ، والذي يحقق ذلك أن المسلم يقطع بسرقة مال الذمي، ويقتل السيد بعبده ; لعموم حديث الحسن عن سمرة : " من قتل عبده قتلناه ، ومن جذعه جذعناه ، ومن خصاه خصيناه " .

 وذهب الجمهور إلى أن المسلم لا يقتل بالكافر ، كما ثبت في البخاري عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : " لا يُقتَلُ مسلِمٌ بكافِرٍ " ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا ، وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به لعموم آية المائدة .

مسألة : قال الحسن وعطاء : لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية، وخالفهم الجمهور لآية المائدة ; ولقوله ﷺ : " المؤمنونَ تتكافَأ دماؤهُم ، ويسعَى بذِمَّتِهم أدناهُم ، لا يُقتَلُ مسلِمٌ بكافِرٍ ولا ذو عَهدٍ في عهدِهِ ، ولا يتوَارَثُ أهلُ مِلَّتينِ " .

مسألة : ومذهب الأئمة الأربعة والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد ؛ عن سعيد بن المسيب  قال أن عمرَ رضيَ اللهُ عنهُ قتل خمسةً أو سبعةً برجلٍ قتلوه غيلةً، وقال : لو تمالأ عليه أهلُ صنعاءَ لقتلتهم جميعًا "( صححه الألباني )، ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة، وذلك كالإجماع . وحكي عن الإمام أحمد رواية : أن الجماعة لا يقتلون بالواحد، ولا يقتل بالنفس إلا نفس واحدة . وحكاه ابن المنذر عن معاذ وابن الزبير ، ثم قال ابن المنذر : وهذا أصح ،وإذا اختلف الصحابة فسبيله النظر .ومن قال: لا تقتل الجماعة بالواحد ، قال : لأن الله سبحانه شرط المساواة ولا مساواة بين الجماعة والواحد ، وقد قال تعالى : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين ، والجواب أن المراد بالقصاص في الآية قتل من قتل كائنا من كان.

وقوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) قال مجاهد عن ابن عباس : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) ،فالعفو : أن يقبل الدية في العمد.

وقال الضحاك عن ابن عباس : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ)  يقول : فمن ترك له من أخيه شيء يعني : [ بعد ] أخذ الدية بعد استحقاق الدم ، وذلك العفو (فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) يقول : فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قبل الدية  (وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ)  يعني : من القاتل من غير ضرر ولا معك ، يعني : المدافعة .

وقوله : (ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) يقول تعالى : إنما شرع لكم أخذ الدية في العمد تخفيفا من الله عليكم ورحمة بكم ، مما كان محتوما على الأمم قبلكم من القتل أو العفو.

حدثنا سفيان ،، عن ابن عباس ، قال : كتب على بني إسرائيل القصاص في القتلى ، ولم يكن فيهم العفو ، فقال الله لهذه الأمة  (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ۗ) فالعفو أن يقبل الدية في العمد، ذلك تخفيف (مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ)  مما كتب على من كان قبلكم ، فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان .

وقال قتادة : (ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) رحم الله هذه الأمة وأطعمهم الدية ، ولم تحل لأحد قبلهم ، فكان أهل التوراة إنما هو القصاص وعفو ليس بينهم أَرْش : وهو الدية. وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أمروا به ، وجعل لهذه الأمة القصاص والعفو والأرش .

وقوله : (  فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) يقول تعالى: فمن قتل بعد أخذ الدية أو قبولها ، فله عذاب من الله أليم موجع شديد .

عن مقاتل بن حيان : أنه هو الذي يقتل بعد أخذ الدية ، وعن أبي شريح الخزاعي : أن النبي ﷺ قال :"مَن أصيبَ بقَتلٍ، أو خبَلٍ، فإنَّهُ يَختارُ إحدى ثلاثٍ: إمَّا أن يَقتصَّ، وإمَّا أن يعفوَ، وإمَّا أن يأخذَ الدِّيةَ، فإن أرادَ الرَّابعةَ فخُذوا على يديهِ، ومنِ اعتَدى بعدَ ذلِكَ فلَهُ عذابٌ أليمٌ" (ضعيف- رواه الإمام أجمد)

وعن سمرة ، قال : قال رسول الله ﷺ: " لا أُعافِي أحدًا قتَلَ بعدَ أخْذِ الدِّيةِ. " ( ضعفه الألباني)، يعني : لا أقبل منه الدية بل أقتله.
وقوله تعالى:
(وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

ولكم في القصاص حياة هذا من الكلام البليغ الوجيز :  ومعناه : لا يقتل بعضكم بعضا، وذلك أن القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم فيه ازدجر من يريد قتل آخر ، مخافة أن يقتص منه فحييا بذلك معا . وكانت العرب إذا قتل الرجل الآخر حمي قبيلاهما وتقاتلوا وكان ذلك داعيا إلى قتل العدد الكثير ، فلما شرع الله القصاص قنع الكل به وتركوا الاقتتال ، فلهم في ذلك حياة .

الثانية : اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد أن يقتص من أحد حقه دون السلطان ، وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض ، وإنما ذلك لسلطان أو من نصبه السلطان لذلك.

الثالثة : وأجمع العلماء على أن على السلطان أن يقتص من نفسه إن تعدى على أحد من رعيته، إذ هو واحد منهم ، وإنما له مزية النظر لهم كالوصي والوكيل ، وذلك لا يمنع القصاص، وثبت عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرجل شكا إليه أن عاملا قطع يده : لئن كنت صادقا لأقيدنك منه ، وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري قال : بينا رسول الله ﷺ يقسم شيئا إذ أكب عليه رجل ، فطعنه رسول الله ﷺ بعرجون كان معه ، فصاح الرجل ، فقال له رسول الله ﷺ : تعال فاستقد . قال : بل عفوت يا رسول الله ".

 وروى أبو داود الطيالسي عن أبي فراس قال : خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : ألا من ظلمه أميره فليرفع ذلك إلي أقيده منه ، فقام عمرو بن العاص فقال : يا أمير المؤمنين ، لئن أدب رجل منا رجلا من أهل رعيته لتقصنه منه ؟ قال : كيف لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله ﷺ يقص من نفسه .

الرابعة : قوله تعالى : لعلكم تتقون : المراد هنا تتقون القتل فتسلمون من القصاص ، ثم يكون ذلك داعية لأنواع التقوى في غير ذلك ، فإن الله يثيب بالطاعة على الطاعة .

No comments:

Post a Comment