تفسير سورة البقرة- ح ٢٩
أمر ثاني -كُتِبَ- ؛ الوصية... ممن تكون الوصية؟ ولمن...؟
ومتى تكون واجبة، أو جائزة، وما هو الخير ؟
( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ.....)
ما مناسبة ورود الأمر بالوصية بعد القصاص ؟
محور مواضيع هذا لجزء:
-ذكر فرض الوصية لمن (ترك خيرا )، فمن تجب عليه الوصية؟ ولمن تعطى، ومتى تعطى؟ وهل لها مقدار مفروض أو مستحب؟-
-الجنف في الوصية ، هل يصحح؟ وممن يصححه؟
قوله تعالى: ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)
كتب عليكم هذه آية الوصية، ليس في القرآن ذكر للوصية إلا في هذه الآية، وفي " النساء " : (من بعد وصية) وفي " المائدة ١٠٦": (إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ). والتي في البقرة هنا أتمها وأكملها، ونزلت قبل نزول الفرائض والمواريث التي في آيات النساء، على ما يأتي بيانه، وفي الكلام تقدير واو العطف، أي وكتب عليكم، فلما طال الكلام أسقطت الواو . ومثله في بعض الأقوال: (لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى ﴿١٥﴾ الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ) ﴿الليل١٦﴾ أي والذي كذب وتولى.
والخير هنا المال من غير خلاف بكل صوره، كقوله : (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ َ) ﴿البقرة ٢٧٢﴾، وقال: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) ﴿العاديات ٨﴾ ولم يبين الله تعالى في كتابه مقدار ما يوصى به من المال، وإنما قال: (إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ)،فما بين مقدار الخير-المال- واختلفوا في مقداره ، فقيل: إن ترك مالاً كيثراًا .
واختار جماعة لمن ماله قليل وله ورثة ترك الوصية، روى ابن أبي شيبة من حديث ابن أبي مليكة عن عائشة أنه قال لها : إني أريد أن أوصي : قالت : وكم مالك ؟ قال : ثلاثة آلاف . قالت : فكم عيالك ؟ قال: أربعة . قالت : إن الله تعالى يقول : إن ترك خيرا وهذا شيء يسير فدعه لعيالك فإنه أفضل لك.
والوصية: تشمل كل شيء يؤمر بفعله ويعهد به في الحياة وبعد الموت، وخصصها العرف بما يعهد بفعله وتنفيذه بعد الموت، والجمع وصايا كالقضايا جمع قضية، والوصي يكون الموصي والموصى إليه، وأصله من وصى مخففا. وتواصى القوم أوصى بعضهم بعضا. وفي الحديث : "واستَوْصوا بالنِّساءِ خيرًا فإنَّما هنَّ عَوانٍ عندَكُم ".(صحيح الترمذي)
والوصية بإجماعهم واجبة على من قبله ودائع وعليه ديون، وأكثر العلماء على أن الوصية غير واجبة على من ليس قبله شيء من ذلك.
فاختلف العلماء في مقدار ذلك، فروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أوصى بالخمس. وقال معمر عن قتادة . أوصى عمر بالربع ، وذكره البخاري عن ابن عباس ، وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع ، ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث .
ذهب الجمهور من العلماء إلى أنه لا يجوز لأحد أن يوصي بأكثر من الثلث، للحديث، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، قال: "كانَ النبيُّ ﷺَ يَعُودُنِي وأَنَا مَرِيضٌ بمَكَّةَ، فَقُلتُ: لي مَالٌ، أُوصِي بمَالِي كُلِّهِ؟ قالَ: لا قُلتُ: فَالشَّطْرِ؟ قالَ: لا قُلتُ: فَالثُّلُثِ؟ قالَ: الثُّلُثُ والثُّلُثُ كَثِيرٌ، أنْ تَدَعَ ورَثَتَكَ أغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِن أنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ في أيْدِيهِمْ" ( البخاري)
- وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الوصية هنا للوالدين اللذين لا يرثان- إذا كانا غير مسلمين، أو قتله- أما للأقرباء الذين لا يرثون جائزة، وقال ابن عباس والحسن أيضا وقتادة : الآية عامة، نسخ منها كل من كان يرث بآية الفرائض، وقد قيل : إن آية الفرائض لم تستقل بنسخها بل بضميمة أخرى، وهي قولهﷺ: "إنَّ اللَّهَ قد أعطى كلَّ ذي حقٍ حقَّهُ، فلا وصيَّةَ لوارِثٍ" (رواه أبو أمامة، أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح ) فنسخ الآية إنما كان بالسنة الثابتة عن رسول الله.
وفي البخاري عن ابن عباس قال: " كانَ المَالُ لِلْوَلَدِ، وكَانَتِ الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنَسَخَ اللَّهُ مِن ذلكَ ما أحَبَّ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، وجَعَلَ لِلْأَبَوَيْنِ لِكُلِّ واحِدٍ منهما السُّدُسُ، وجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ والرُّبُعَ، ولِلزَّوْجِ الشَّطْرَ والرُّبُعَ. ".
على من تجب الوصية؟
وأكثر العلماء على أن الوصية ليست بواجبة إلا على رجل عليه دين أو عنده مال -ودائع - لقوم، فواجب عليه أن يكتب وصيته ويخبر بما عليه، فأما من لا دين عليه ولا وديعة عنده فليست بواجبة عليه إلا أن يشاء، لأن الله فرض أداء الأمانات إلى أهلها، ومن لا حق عليه ولا أمانة قبله فليس واجب عليه أن يوصي. احتج الأولون بما رواه الأئمة عن ابن عمر، قال رسول الله ﷺ: "ما حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، له شيءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ، إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ. [وفي رواية]: غيرَ أنَّهُما قالَا: وَلَهُ شيءٌ يُوصِي فِيهِ، وَلَمْ يَقُولَا: يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ" (رواه مسلم)
-إن لم يترك الموصي ورثة جاز له أن يوصي بماله كله، وقالوا : إن الاقتصار على الثلث في الوصية إنما كان من أجل أن يدع ورثته أغنياء، للحديث السابق، ومن لا وارث له فليس ممن عني بالحديث
أجمع العلماء على أن من مات وله ورثة فليس له أن يوصي بجميع ماله سواء قصد منعهم، او لم يقصد.
والوصية كما في الآية للأقربين، إن أوصى لغير قرابته فقد ختم عمله بمعصية، وروي عن ابن عمر أنه أوصى لأمهات أولاده لكل واحدة بأربعة آلاف. وروي أن عائشة وصت لمولاة لها بأثاث البيت، وروي عن سالم بن عبد الله بمثل ذلك، وقال الحسن: إن أوصى لغير الأقربين ردت الوصية للأقربين، فإن كانت لأجنبي فمعهم، ولا تجوز لغيرهم مع تركهم.
وأجمع العلماء على أن للإنسان أن يغير وصيته ويرجع فيما شاء منها، وذلك حتى الموت. قالوا : إلا المدبر: في الحديث أن وكانت عائشةُ أعتَقَتْها – جارية لها- عن دُبُرٍ منها. فسحرتها الجارية لتموت، تستعجل عتقها، فلما علمت عائشة قال: "إنَّ للهِ عليَّ ألَّا تُعتَقي أبَدًا"، وهذا تَوعُّدٌ من عائِشةَ رضِيَ اللهُ عنها للجاريةِ جَزاءً على خِسَّةِ فَعْلَتِها، ثُمَّ قالتْ عائِشةُ رضِيَ اللهُ عنها: "انْظُروا أسوَأَ العَرَبِ مَلَكةً"، أي: أشَدُّ وأقْسَى النَّاسِ مُعامَلةً للعَبيدِ وأسوَأُهُم مُعامَلةً لِمَماليكِهِ وخُدَّامِهِ "فَبيعُوها منه"؛ لِتكونَ تحتَ إمْرةِ مَن لا يُحسِنُ إليها، وقيلَ: باعوها للأعْرابِ الَّذين لا يُحسِنونَ إلى المَماليكِ، "واشْتَرَتْ بثَمَنِها جاريةً فأعْتَقَتْها بدلها، حتى لا تنقض دبرها- تدبيرهاالأول.
واختلفوا في الرجل يوصي لبعض ورثته بمال-أو غير الورثة-، ويقول في وصيته: إن أجازها الورثة فهي له، وإن لم يجيزوه فهو في سبيل الله، فلم يجيزوه. فقال مالك: إن لم تجز الورثة ذلك رجع إليهم، وفي قول الشافعي وأبي حنيفة ومعمر صاحب عبد الرزاق يمضي في سبيل الله – إذا كانت في حدود الثلث.
قوله تعالى : (بِالْمَعْرُوفِ ۖ) يعني بالعدل، لا وكس فيه ولا شطط، وكان هذا موكلا إلى اجتهاد الميت ونظر الموصي ، ثم تولى الله سبحانه تقدير ذلك على لسان نبيه فقال ﷺ: الثلث والثلث كثير ، وقد تقدم ما للعلماء في هذا ، وقال ﷺ: " إنَّ اللهَ تصدَّق عليكم بثلُثِ أموالِكم عند وفاتِكم زيادةً في حسناتِكم ليجعلَها زيادةً لكم في أعمالِكم" ( رواه الشوكاني- في إسناده ضعف)
وقوله تعالى: (حَقًّا) يعني: ثابتا ثبوت نظر وتحصين، لا ثبوت فرض ووجوب بدليل قوله : (عَلَى الْمُتَّقِينَ)، وهذا يدل على كونه ندبا؛ لأنه لو كان فرضا لكان على جميع المسلمين، فلما خص الله من يتقي، أي يخاف تقصيرا، دل على أنه غير لازم إلا فيما يتوقع تلفه إن مات، فيلزمه فرضا المبادرة بكتبه والوصية به.
قوله تعالى: (فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)
(فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) ۚفمن بدله شرط، وجوابه فإنما إثمه على الذين يبدلونه و (سَمِعَهُ) يحتمل أن يكون سمعه من الوصي نفسه، ويحتمل أن يكون سمعه ممن يثبت به ذلك عنده، وذلك عدلان ، والضمير في إثمه عائد على التبديل ، أي إثم التبديل عائد على المبدل لا على الميت، فإن الموصي خرج بالوصية عن اللوم وتوجهت على الوارث أو الولي . وقيل: إن هذا الموصي إذا غير الوصية أو لم يجزها على ما رسم له في الشرع فعليه الإثم .
وفي الآية دليل على أن الدين إذا أوصى به الميت خرج به عن ذمته وحصل الولي مطلوبا به، له الأجر في قضائه، وعليه الوزر في تأخيره .(..إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) إن الله سميع عليم صفتان لله تعالى لا يخفى معهما شيء من جنف الموصين وتبديل المعتدين .
وقوله تعالى: (فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)
(فَمَنْ خَافَ..) بمعنى خشي ، وقيل: علم، (مُّوصٍ جَنَفًا)، قرأت بالتخفيف للتكثير، وبالتشديد (موَّصٍ).وجنفًا : جنفا من جنف يجنف إذا جار، " الجنف " الميل.
فمن خاف أي من خشي أن يجنف الموصي ويقطع ميراث طائفة لطائفة أخرى، ويتعمد الأذية، أو يأتيها دون تعمد، وذلك هو الجنف دون إثم، فإن تعمد فهو الجنف في إثم ، فالمعنى من وعظ في ذلك ورد عنه فأصلح بذلك ما بينه وبين ورثته وبين الورثة في ذاتهم فلا إثم عليه . إن الله غفور رحيم عن الموصي إذا عملت فيه الموعظة ورجع عما أراد من الأذية .
الخطاب بقوله : (فَمَنْ خَافَ..) لجميع المسلمين إن خفتم من موص ميلا في الوصية وعدولا عن الحق ووقوعا في إثم ولم يخرجها بالمعروف، وذلك بأن يوصي بالمال إلى زوج ابنته أو لولد ابنته لينصرف المال إلى ابنته، أو إلى ابن ابنه، والغرض أن ينصرف المال إلى ابنه، أو أوصى لبعيد وترك القريب ، فبادروا إلى السعي في الإصلاح بينهم، فإذا وقع الصلح سقط الإثم عن المصلح.
No comments:
Post a Comment