معركة مؤتة: [ جمادي الأولى سنة 8 هـ ]
سبق في ذكر كتب رسول الله ﷺ إلى الملوك والأمراء أن شرحبيل بن عمرو الغساني، حمل رسالة النبي الصحابي الحارث بن عمير الأزدي، صحابي بعثه رسول الله ﷺ في سنة 8 هـ/629م، بكتاب إلى ملك بُصرى يدعوه فيه إلى الإسلام فلما نزل مؤتة عَرّضَ له شرحبيل بن عمرو الغساني والي البلقاء، فقال: أين تريد؟ قال الحارث: الشام قال: لعلَّك من رسل محمد، قال: نعم، أنا رسول رسول اللهﷺ، فأمر به فأوثق رباطاً ثم قَدمه فضرب عنقه صبراً- أي قتله-. ولم يقتل لرسول الله رسول غيره، فبلغ رسول اللهﷺ فاشتد عليه ونَدَب الناس وأخبرهم مقتل الحارث ومن قتله، فأسرع الناس وخرجوا فعسكروا بالجُرف فكان ذلك سبب خروجهم إلى غزوة مؤتة.
الاستعداد للمعركة
وصية الرسول لأمراء الجيش
اشتد ذلك على النبيﷺ حين نقلت إليه الأخبار، فجهز جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، وهو أكبر جيش إسلامي لم يجتمع مثله قبل ذلك إلا في غزوة الخندق. وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير – المكان الذي قتل فيه- فيدعوهم على الإسلام، فإن أبوا قاتلوهم
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: ( أَمَّرَ رَسولُ اللَّهِ ﷺَ في غَزْوَةِ مُؤْتَةَجعفر بن أبي طالبفَقَالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ: إنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ، وإنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بنُ رَوَاحَةَ." قَالَ عبدُ اللَّهِ بن عمر رضي الله عنه: كُنْتُ فيهم في تِلكَ الغَزْوَةِ، فَالْتَمَسْنَا جَعْفَرَ بنَ أبِي طَالِبٍ، فَوَجَدْنَاهُ في القَتْلَى، ووَجَدْنَا ما في جَسَدِهِ بضْعًا وتِسْعِينَ؛ مِن طَعْنَةٍ ورَمْيَةٍ.).
وعقد لهم لواءً أبيضَ، ودفعه إلى زيد بن حارثة. وأوصاهم أن يأتوا مقتل- اي مكان ما قتل- الحارث بن عمير، وأمرهم أن يدعوا مَنْ هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعانوا بالله عليهم، وقاتلوهم، وقال لهم: "اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تغدروا ، ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليداً ، ولا امرأة ، ولا كبيراً فانياً ، ولا منعزلاً بصومعة ، ولا تقطعوا نخلاً ، ولا شجرة ، ولا تهدموا بناء ."". (صحيح الترمذي)، وقد خرجت نساء المسلمين لتوديع أزواجهن وهن يقلن (ردكم الله إلينا صابرين) فرد عبد الله بن رواحه وقال (أما أنا فلا ردني الله).
وشيع الجيش إلى ثنية الوداع ، ثم ودعه ، فسار الجيش حتى نزل معان – بجنوب الأردن – فبلغهم أن هرقل نازل بمآب في مائة ألف من الروم .
أحداث المعركة
وحينئذ بعد أن قضى جيش المسلمين ليلتين في معان، تحركوا إلى أرض الروم، حتى لقيتهم جموع هرقل بقرية من قرى البلقاء يقال لها «َشَارِف» ثم دنا منهم، وانحاز المسلمون إلى مؤتة فعسكروا هناك، وتعبأوا للقتال، فجعلوا على ميمنتهم قُطْبَة بن قتادة العُذْرِي، وعلى الميسرة عبادة بن مالك الأنصاري.
أحداث المعركة
وحينئذ بعد أن قضى جيش المسلمين ليلتين في معان، تحركوا إلى أرض الروم، حتى لقيتهم جموع هرقل بقرية من قرى البلقاء يقال لها «َشَارِف» ثم دنا منهم، وانحاز المسلمون إلى مؤتة فعسكروا هناك، وتعبأوا للقتال، فجعلوا على ميمنتهم قُطْبَة بن قتادة العُذْرِي، وعلى الميسرة عبادة بن مالك الأنصاري.
بدء القتال وتناوب القادة
وهناك في مؤتة التقى الفريقان، وبدأ القتال المرير، ثلاثة آلاف رجل يواجهون مائتي ألف مقاتل. أخذ الراية زيد بن حارثة وجعل يقاتل بضراوة بالغة، فلم يزل يقاتل حتى شاط في رماح القوم، وخر صريعاً. وحينئذ أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، وطفق يقاتل قتالاً منقطع النظير، حتى إذا أرهقه القتال اقتحم عن فرسه الشقراء فعقرها، ثم قاتل حتى قطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله، ولم يزل بها حتى قطعت شماله، فاحتضنها بعضديه، فلم يزل رافعاً إياها حتى قتل.- وسماة النبي ﷺ – جعفر الطيار- قال عنه: " رأيتُ جعفرًا يطيرُ في الجنةِ مع الملائكةِ" ( ضعيف)
ولما قتل جعفر بعد أن قاتل بمثل هذه الضراوة والبسالة، أخذ الراية عبد الله بن رواحة، وتقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعض التردد، حتى حاد حيدة ثم قال:
أقسمت يا نفس لتنزلنه إن أجلب الناس وشدوا الرنة
كارهة أو لتطاوعنه مالي أراك تكرهين الجنة
ثم نزل فأتاه ابن عم له بعَرْق من لحم فقال: شد بهذا صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده فانتهس منه نَهْسَة، ثم ألقاه من يده، ثم أخذ سيفه فتقدم، فقاتل حتى قُتل.
الراية إلى خالد بن الوليد
تقدم رجل من بني عَجْلان ـ اسمه ثابت بن أقرم ـ فأخذ الراية وقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية قاتل قتالاً مريراً، فقد روى البخاري عن قيس بن حازم قال: (سَمِعْتُ خَالِدَ بنَ الوَلِيدِ يقولُ: لَقَدِ انْقَطَعَتْ في يَدِي يَومَ مُؤْتَةَ تِسْعَةُ أسْيَافٍ، فَما بَقِيَ في يَدِي إلَّا صَفِيحَةٌ يَمَانِيَةٌ.) - يَحْكي خالدُ بنُ الوَليدِ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه قدْ تَكسَّرَتْ وتحطَّمَتْ في يَدِه يَومَ مُؤْتةَ تِسْعةُ أسْيافٍ؛ وذلك مِن قوَّةِ بأْسِهِ، وشِدَّتِه في القِتالِ، فما ثبَتَتْ في يَدِه رَضيَ اللهُ عنه إلَّا صَفيحةٌ يَمانيَةٌ، وهي سَيفٌ نَصْلُه عَريضٌ مِن صُنعِ اليَمنِ، وهذا يدُلُّ على أنَّ الحرْبَ كانت شَديدةً-
وقد قال النبي يوم مؤتة مخبراً بالوحي، قبل أن يأتي إلى الناس الخبر من ساحة القتال، ورى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أنَّ النبيَّ ﷺ نَعَى زَيْدًا، وجَعْفَرًا، وابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ قَبْلَ أنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ، فَقالَ: (أخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أخَذَ ابنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ وعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ: حتَّى أخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِن سُيُوفِ اللَّهِ، حتَّى فَتَحَ اللَّهُ عليهم، وقال: قالَ: ما يَسُرُّهُمْ أنَّهُمْ عِنْدَنَا وعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ.) (البخاري) هنا يبين أنَّه بيْنَما كان النَّبيُّ ﷺ يَخطُبُ النَّاسَ في مَسجدِه بالمدينةِ، أطلَعَه اللهُ تعالَى على استشهادِ القادة الثَّلاثةِ في غَزوةِ مُؤتةَ، وكانت بالبَلْقَاءِ على أطْرافِ الشَّامِ، وكانت في السَّنةِ الثَّامنةِ مِن الهِجرةِ، وكانت بيْن المسلمينَ والرُّومِ، فنَعَاهُم إلى أصحابِه الذين معه في المدينةِ، وأخبَرَهم عن استشهادِهم جَميعًا مِن فَوقِ مِنْبرِه الشَّريفِ، حيث أخَذَ الرَّايةَ زَيدُ بنُ حارثةَ رَضيَ اللهُ عنه فأُصيبَ وقُتِلَ، والرَّايةُ العَلَمُ الَّذي يَتَّخِذُه الجيشُ شِعارًا له، ولا يَمسِكُها إلَّا قائدُ الجيشِ، ثمَّ أخَذَها بعْدَه جَعفَرُ بنُ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنه، وهو ابنُ عمِّ النَّبيِّ ﷺ، فأُصيبَ وقُتِلَ، ثمَّ أخَذَها عبدُ اللهِ بنُ رَوَاحَةَ رَضيَ اللهُ عنه، فأُصيبَ وقُتِلَ، وكانت عَيْناهُ ﷺ تَذْرِفان، أي: تَفِيضَانِ بالدُّموعِ حُزنًا عليهم، وبعْدَ فَراغِه ﷺ مِن نَعيِهم، قال: وما يَسُرُّنا أنَّهم -أي: هؤلاء الشُّهداءُ- عِندَنا، باقونَ معنا أحياءٌ؛ لعِلمِه ﷺ بما صاروا إليه مِن الكَرامةِ والدَّرجةِ العُلْيا، وفي رِوايةٍ: «ما يَسُرُّهم أنَّهم عِندَنا»، أي: إنَّهم لَمَّا رَأَوا مِن الكرامةِ بالشَّهادةِ، فَلا يُعجِبُهم أنْ يَعودوا إلى الدُّنيا كما كانوا مِن غيرِ أنْ يُستشهَدوا مرَّةً أُخرى.
نهاية المعركة
من المستغرب أن ينجح هذا الجيش الإسلامي بعدده القليل في الصمود أمام ذلك الجيش الكبير من الروم، ففي ذلك الوقت أظهر خالد بن الوليد مهارته في تخليص المسلمين مما لقوه في تلك المعركة. واختلفت الروايات كثيراً فيما آل إليه أمر هذه المعركة أخيراً. ويظهر بعد النظر في جميع الروايات أن خالدا بن الوليد نجح في الصمود أمام جيش الرومان طول النهار، في أول يوم من القتال. وكان يفكر بمكيدة حربية تلقي الرعب في قلوب الرومان بحيث ينجح في الانحياز بالمسلمين من غير أن يقوم الرومان بحركات المطاردة. فقد كـان يعرف جيداً أن الإفلات منهم صعب جداً لو انكشف المسلمون، وقام الرومان بالمطاردة.
فلما أصبح اليوم الثاني اعتمد خالد بن الوليد في خطته على الحرب النفسية حيث أمر عددا من الفرسان بإثارة الغبار خلف الجيش، وأن تعلو أصواتهم بالتكبير والتهليل وقام كذلك بتبديل الرايات وغير أوضاع الجيش، وعبأه من جديد، فجعل مقدمته ساقة، وميمنته ميسرة، وهكذا دواليك، فلما رآهم الروم أنكروا حالهم، وقالوا: جاءهم مدد، فرعبوا، وسار خالد ـ بعد أن تراءى الجيشان وهجم على الروم وقاتلهم ، ثم أمر خالد بانسحاب الجيش بطريقة منظمة ـ وأخذ يتأخر بالمسلمين قليلاً قليلاً، مع حفظ نظام جيشه، ولم يتبعهم الرومان ظناً منهم أن المسلمين يخدعونهم، ويحاولون القيام بمكيدة ترمي بهم في الصحراء ولم يتبعوا خالدا في انسحابه. فانحاز الرومان إلى بلادهم ، ولم يفكروا في القيام بمطاردة المسلمين ونجح المسلمون في الانحياز سالمين، حتى عادوا إلى المدينة.
قتلى الفريقين
استشهد من المسلمين اثنا عشر رجلاً، أما الرومان فقتل منهم ثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمسون رجل.
عودة الجيش إلى المدينة
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير، قال (لما دنوا من حول المدينة تلقاهم الرسول والمسلمون، قال ولقيهم الصبيان يشتدون والرسول مقبل مع القوم على دابة فقال «خذوا الصبيان فاحملوهم، وأعطوني ابن جعفر. فأتى بعبد الله فأخذه فحمله بين يديه. قال وجعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون يا فرار فررتم في سبيل الله، قال فيقول رسول اللهﷺ: " ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله»
سبب تسميتها غزوة ولم يحضرها النبي ﷺ:
لفظ غزوة يطلق على أي قتال لكفار، قاده الرسول ﷺ بنفسه أو بجيش من قبله ولو لم يشارك فيه. ففي غزوة مؤته لم يشارك النبي في أحداثها، لكن الأمر انطلق منه تحت إشرافه مباشرة. وقد وضح الحافظ بن حجر في شرح كتاب المغازي في صحيح البخاري: (المغازي جمع مغزى، يقال: غزا يغزو غزوا ومغزى. والمراد بالمغازي هنا ما وقع من قصد النبي ﷺ الكفار لنفسه أو بجيش من قبله ، وقيل لكثرة عدد الجنود من الطرفين- والله أعلم)
أثر المعركة
وهذه المعركة وإن لم يحصل المسلمون بها على الثأر، الذي عانوا مرارتها لأجله، لكنها كانت كبيرة الأثر لسمعة المسلمين، إذ أدهشت العرب كلها بقبائلها، فقد كانت الدولة البيزنطية أكبر وأعظم قوة على وجه الأرض، وكانت العرب تظن أن قتالها هو القضاء على النفس ، فكان لقاء هذا الجيش الصغير ـ ثلاثة آلاف مقاتل ـ مع ذلك الجيش الكبير ـ مائتا ألف مقاتل ـ ثم الرجوع عن الغزو من غير أن تلحق به خسارة كبيرة ، يعد عظيما مما رفع من شأن الدولة الإسلامية الناشئة.
وكانت هذه المعركة بداية لسلسلة معارك كثيرة بين المسلمين والرومان، انتهت بانهيار الدولة البيزنطية على يد الدولة العثمانية وذلك عند سقوط مدينة القسطنطينية على يد محمد الثاني عام 1453م.
أسماء شهداء المسلمين من الصحابة
زيد بن حارثة جعفر بن أبي طالب عبد الله بن رواحة مسعود بن الأسود وهب بن سعد
عبادة بن قيس عمرو بن سعد الحارث بن النعمان بن إساف سراقة بن عمرو
أبو كلاب بن أبي صعصعة جابر بن أبي صعصعة عامر بن سعد.
No comments:
Post a Comment