Thursday, 25 November 2021

تفسير سورة الكافرون - نم على خاتمتها فإنها براءة من الشرك

   
  

 

التسمية :

 

تُسَمَّى ‏‏ ‏المُقَشْقِشَةُ ‏‏، ‏ وتُسَمَّى‏‏: ‏العِبَادَةُ ، ‏وَالإِخْلاَصُ.

والمقشقشة؛ أَيْ ‏‏: ‏المُبَرِّئـَةُ ‏مِنَ ‏الشِّرْكِ ‏وَالنِّفَاقِ .

 في اللغة:  الفعل: قَشْقَشَ : أي تهيَّأَ للبُرء

تقَشقَش الجُرْحُ: تقَشَّرَ للبُرء

والقشقشة: صوت القش

فسميت السورة المقشقشة؛ لأنها المبرئة من الشرك.

وسميت أربع سور من القرآن بهذا الاسم: -التوبة وهي الأشهر بهذا الاسم من بين الأربعة، وسورة الكافرون، وسورة الفلق، وسورة الناس، جاء ذلك في تفسير القرطبي وتفسير التحرير والتنوير لابن عاشور عن ابن عباس.

التعريف بالسورة :

 

-سورة مكية – من المفصل –  من الجزء (٣٠) عم- الحزب (٦٠) -عدد آياتها (٦) آيات- ترتيبها بالمصحف التاسعة بعد المائة  - نزلت بعد سورة الماعون - .بدأت بفعل أمر " قُلْ يَأَيـُّهَا الكَافِرُونَ"-  لم يذكر فيها لفظ الجلالة .

 

محور مواضيع السورة :

 

السورة تنبيء عن هدفها في كل آية وكل كلمة من كلماتها، فإن كل ما فيها مدارُهُ على التوحيد والتبرئ من الكفر وأعماله، وتبين أن المداهنة في الدين مرفوضة، فلا مساومة ولا مهادنة، ولا حل وسط يرضى الطرفين، فالحق بيِّن، والثبات على هذا الأمر هو غاية الرشد.

سبب نزول السورة:

دعا  المشركون رسول الله ﷺ إلى المهادنة، وطلبوا منه أن يعبد آلهتهم عاما، ويعبدوا إلهه عاما آخر،  فنزَلتِ السُّورَة تقطع أطماع الكافرين، وتفصل النزاع بين الفريقين: (أَهْلِ الإِيمَانِ ـ وَعَبَدَةِ الأَوْثَانِ )، وَترد على الكافرين تلك الفكرة السخيفة في الحال والإستقبال.

سبب نزول السورة :

وعند الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن قريش دعت رسول الله إلى أن يعطوه مالاً فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوجوه ما أراد من النساء ، فقالوا : هذا لك يا محمد وتكف عن شتم آلهتنا ولا تذكرها بسوء ، فإن لم تفعل فاعبد آلهتنا سنة، قال : حتى أنظر ما يأتيني من ربي، فأنزل الله (قل يأيها الكافرون) إلى أخر السورة

فضل السورة :

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ إِنَّ رَسُولَ لَّلهِ ﷺ قَالَ لِرَجُل مِنْ أَصْحَابـِهِ: " هَلْ تَزَوَّجْتَ يَا فُلاَن ؟" قَالَ : لاَ وَالَّلهِ يَا رَسُولَ الَّلهِ ، وَلاَ عِنْدِي مَا أَتـَزَوَّجُ بـِهِ ، قَالَ : " أَلَيْسَ مَعَكَ ( قُلْ هُوَ الَّلهُ أَحَدٌ )؟ " قَالَ : بَلَى ، قَالَ: " ثُلُثُ القُرآنِ " ، قَالَ : " أَلَيْس َ مَعَكَ (إِذَا جَاءَ نَصْرُ الَّلهِ وَالفَتْحُ )؟ قَالَ :

بَلَى ، قَالَ : " رُبـْعُ القُرآنِ " ، قَالَ ، " أَلَيْس َ مَعَك َ( قُلْ يَأَيـُّهَا الكَافِرُونَ)؟ " قَالَ : بَلَى ، قَالَ : "رُبـْعُ القُرآنِ " ، قَالَ : " أَلَيْسَ مَعَكَ (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا)؟ قَالَ : بَلَى ، قَالَ : " رُبـْعُ القُرآنِ ، تـَزَوَّجْ " ( أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ) 

ما ورد في مواضع قراءتها:

ثبت في صحيح مسلم، عن جابر: أن رسول الله ﷺ قرأ بهذه السورة، وبـ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } في ركعتي الطواف.

وفي صحيح مسلم، من حديث أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ قرأ بهما في ركعتي الفجر.

وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع بسنده... عن ابن عمر: أن رسول الله ﷺ قرأ في الركعتين قبل الفجر والركعتين بعد المغرب، بضعا وعشرين مرة - أو: بضع عشرة مرة { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. .

وقال الإمام أحمد أيضا: عن ابن عمر قال:رمقت النبي ﷺ أربعا وعشرين - أو: خمسا وعشرين- مرة، يقرأ في الركعتين قبل الفجر، والركعتين بعد المغرب ب { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}.

وقال أحمد والترمذي: عن ابن عمر قال: رَمقتُ النبيﷺ  شهرًا، وكان يقرأ في الركعتين قبل الفجر بـ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}.(قال الترمذي:هذا حديث حسن.)

فهذه ثلاث مواضع، قرا فيها رسول الله بسورتي ( الكافرون، والإخلاص)، وقال ابن القيم

وأما الحكمة من قراءة هاتين السورتين في هذه المواضع؛ فلأنهما قد اشتملتا على أنواع التوحيد الثلاثة ، ولأن التوحيد هو المنجاة الأولى للمرء يوم القيامة، ولا يقبل سواه بدونه، ويتجاوز عن غيره بتمامه وإخلاصه

فسورة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} اشتملت على توحيد الربوبية والأسماء والصفات، فأثبتت أن الله تعالى إله واحد، ونفت عنه الولد والوالد والنظير، وهو مع هذا "الصَّمَدُ" الذي اجتمعت له صفات الكمال كلها .

وسورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} تضمنت توحيد العبادة  وأن لا يُعبد سواه سبحانه؛ إلا الله، ولا يُشرك به في عبادته أحداً ، فلذلك " كان الرسولﷺ يفتتح بهما النهار في سنة الفجر، ويختم بهما في سنة المغرب، وفي السنن أنه كان يوتر بهما ، فيكونان خاتمة عمل الليل كما كانا خاتمة عمل النهار" أهـ،  قاله ابن القيم في "بدائع الفوائد"

وأقول: ان سورة الإخلاص في العقيدة محضة، وسورة الكافرون في العمل تطبيقا للعقيدة، فإذا جمع بينهما في صلاة فقد جمع بين الحث على التوحيد، وعلى العمل للإله وحده خالصا من دون شركاء.

ما ورد في فضل السورة:

وقد تقدم في الحديث أنها تعدل ربع القرآن، و « إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا» تعدل ربع القرآن.

وقال الإمام أحمد: عن فروةَ ابن نَوفل وهو ابن معاوية، عن أبيه- أي معاوية-، أن رسول الله ﷺ قال له: « هل لك في ربيبة لنا تكفلها؟» قال: أراها زينب. قال:ثم جاء فسأله النبيﷺ عنها، قال: « ما فعلت الجارية؟ » قال:تركتها عند أمها. قال: « فمجيء ما جاء بك؟ » قال: جئت لتعلمني شيئًا أقوله عند منامي. قال: « اقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ثمَّ نَمْ على خاتِمَتِها فإنَّها بَراءةٌ من الشِّركِ» . تفرد به أحمد.

 

وقال أبو القاسم الطبراني:حدثنا أحمد بن عَمرو القطراني، حدثنا محمد بن الطفيل، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن جبلة بن حارثة - وهو أخو زيد بن حارثة- أن النبي ﷺ قال: « إذا أخذتَ مَضجعَكَ من الليلِ فاقْرأْ : {قُلْ يَا أيُّهَا الْكَافِرُونَ} ثمَّ نَمْ على خاتِمَتِها فإنَّها بَراءةٌ من الشِّركِ» ( حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة)

وقال الإمام أحمد: عن فروة بن نوفل، عن الحارث بن جبلة قال: قلت: يا رسول الله، علمني شيئا أقوله عند منامي، قال: «إذا أخذتَ مَضجعَكَ من الليلِ فاقْرأْ: « قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ» . فإنها براءة من الشرك» .

 

تفسير سورة البراءة:

 

قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴿١﴾‏ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴿٢﴾‏ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴿٣﴾‏ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴿٤﴾‏ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴿٥﴾‏ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴿٦﴾‏

هذه السورة سورة البراءة من العمل الذي يعمله المشركون، وهي آمرة بالإخلاص فيه، فقوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) شمل كل كافر على وجه الأرض، ولكن المواجهين بهذا الخطاب هم كفارُ قريش.

وقيل: إنهم من جهلهم دَعَوا رسول الله ﷺ إلى عبادة أوثانهم سنة، ويعبدون معبوده سنة، فأنـزل الله هذه السورة، وأمر رسوله ﷺ فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية، فقال: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} يعني: من الأصنام والأنداد.

 وكلمة تعبدون وهي فعل مضارع يعني ما تعبدون من قبل واليوم وغدًا من دون الله سبحانه.

 وأمَّا الآية الثالثة: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} فغاية هذه الآية من  سورة الكافرون أن ينكر رسول اللهﷺ على الكافرين عبادتهم لهذه الآلهة من غير الله تعالى، فلستم تعبدون ما أعبد طالما أنكم مداومون على عبادة هذه الآلهة التي لا تغني عنكم من الله شيئًا.

{وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} ، فقوله: (ما أعبد) وهو الله وحده لا شريك له. ف « ما » هاهنا بمعنى « من » .

ثم قال: {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} أي: ولا أعبد عبادتكم، أي: لا أسلكها ولا أقتدي بها، وإنما أعبد الله على الوجه الذي يحبه ويرضاه؛ ولهذا قال: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } أي: لا تقتدون بأوامر الله وشرعه في عبادته، بل قد اخترعتم شيئًا من تلقاء أنفسكم، كما قال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} ( النجم ٢٣) فتبرأ منهم في جميع ما هم فيه، فإن العابد لا بد له من معبود يعبده، وعبادة يسلكها إليه، فالرسول ﷺوأتباعه يعبدون الله بما شرعه؛ ولهذا كان كلمة الإسلام « لا إله إلا الله محمد رسول الله » أي:لا معبود إلا الله ولا طريق إليه إلا بما جاء به الرسول ﷺ، والمشركون يعبدون غير الله عبادة لم يأذن بها الله؛ ولهذا قال لهم الرسول ﷺ: ( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) كما قال تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} ( يونس٤١) وقال سبحانه: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} (القصص ٥٥).

 

وقال البخاري: يقال: ( لَكُمْ دِينَكُمْ ) الكفر، ( وَلِيَ دِينِ ) الإسلام. ولم يقل: « ديني » لأن الآيات بالنون، فحذف الياء، كما قال: {فَهُوَ يَهْدِينِ } ( الشعراء٧٨) وقال: {فهو يَشْفِينِ} (الشعراء ٨٠)

وقال غيره: لا أعبد ما تعبدون الآن، ولا أجيبكم فيما بقي من عمري، ولا أنتم عابدون ما أعبد، وهم الذين قال: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا } (المائدة٦٤) .انتهى ما ذكره.

ونقل ابن جرير عن بعض أهل العربية أن ذلك من باب التأكيد، كقوله: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } (الشرح٥-٦) ، وكقوله: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} ( التكاثر٦-٧) وحكاه بعضهم - كابن الجوزي، وغيره- عن ابن قتيبة، فالله أعلم.

فهذه ثلاثة أقوال: أولها ما ذكرناه أولا من بيان الإخلاص في العبادة لله وحده، وعدم المداهنة في ذلك.

الثاني: ما حكاه البخاري وغيره من المفسرين أن المراد: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}  في الماضي، { وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} في المستقبل.

 الثالث:أن ذلك تأكيد محض.

وثم قول رابع، نصره أبو العباس بن تَيمية في بعض كتبه، وهو أن المراد بقوله: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} نفى الفعل لأنها جملة فعلية، {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ}  نفى قبوله لذلك بالكلية؛ لأن النفي بالجملة الاسمية آكد فكأنه نفى الفعل، وكونه قابلا لذلك ومعناه نفي الوقوع ونفي الإمكان الشرعي أيضا. وهو قول حسن أيضا، والله أعلم.

وقد استدل الإمام أبو عبد الله الشافعي وغيره بهذه الآية الكريمة: { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } على أن الكفر كله ملة واحدة ، فقال: ترث اليهود من النصارى، وبالعكس؛ إذا كان بينهما نسب أو سبب يتوارث به؛ لأن الأديان ما عدا الإسلام، كلها كالشيء الواحد في البطلان.

وذهب أحمد بن حنبل ومن وافقه إلى عدم توريث النصارى من اليهود وبالعكس؛ لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال:قال رسول الله ﷺ: « لا يَتوارثُ أَهْلُ ملَّتينِ شتَّى» (صحيح أبي داوود)

 

آخر تفسير سورة « قل يا أيها الكافرون » ولله الحمد والمنة.

 

No comments:

Post a Comment