Monday 26 October 2015

فضائل الصحابة -فضائل أبي بكر الصديق رضى الله عنه -قصة الخصومة بين العمرين

  


 




  
قصة الخصومة بين العمرين: أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب

وهذه القصة يرويها أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه يقول: " كانت بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما محاورةٌ، فأغضب أبو بكر عمر ؛ فانصرف عنه عمر مغضباً، فاتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له، فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه، فأقبل أبو بكر إلى رسول الله ﷺ ، فقال أبو الدرداء : ونحن عنده- وفي رواية: "أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته فقال النبي ﷺ: " أما صاحبكم فقد غامر"، فسلم وقال: إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه، ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي، فأبى عليَّ فأقبلت إليك، فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثة، ثم إن عمر ندم على ما كان منه فأتى منزل أبي بكر ، فسأل: أثمَّ أبو بكر ؟ فقالوا: لا. فأتى إلى النبي ﷺ فجعل وجه النبي ﷺ يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه، فقال: يا رسول الله! والله أنا كنت أظلم مرتين، فقال النبي ﷺ: إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركون لي صاحبي، فما أوذي بعدها".

 
شرح ألفاظ حديث الخصومة بين العمرين

هذا الحديث فيه وقُوع شيء من الخلاف -كما يقع بين البشر- بين أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فأخطأ أبو بكر في حق عمر ، ثم ندم أبو بكر فأراد أن يستسمح من عمر فأبي عليه، فذهب أبو بكر إلى النبي حاسراً ثوبه عن ركبتيه، فلما رآه النبي على هذه الحالة قال: " أما صاحبكم فقد غامر " -أي: دخل في غمرة الخصومة، وقيل: سبق بالخير-، فسلم أبو بكر على النبي وجلس إليه وقص عليه القصة وقال: كان بيني وبين ابن الخطاب شيءٌ -أي: محاورة، أو مراجعة، أو مقاولة، أو معاتبة-فأسرعت إليه -أي: فأغضبته- فأغضب أبو بكر عمر فانصرف عنه مغضباً فاتبعه أبو بكر ، قال أبو بكر : ثم ندمت على ما كان، فسألته أن يغفر لي -أي: أن يستغفر لي- فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهي فأبى عليّ- ، وفي رواية: " فتبعته إلى البقيع حتى خرج من داره وتحرز مني بداره، فاعتذر أبو بكر إلى عمر فلم يقبل منه فقال: النبي : "يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثة" -أي:أعاد هذه الكلمة ثلاث مرات- ثم إن عمر ندم فذهب إلى بيت أبي بكر الصديق لكي يصافيه ويعتذر منه فسأل عنه، فقالوا: خرج من المنزل، فذهب إلى النبي ليجده عنده، فلما سلم عمر وجلس جعل وجه النبي يتمعر -أي: تذهب نضارته من الغضب- وكان النبي أبيض جميلاً كأن القمر يجري في وجهه فجعل وجهه يحمر من الغضب وغضب رسول الله - وفي رواية: -فجلس عمر فأعرض عنه النبي ، ثم تحول فجلس إلى الجانب الآخر فأعرض عنه النبي ، ثم قام فجلس بين يديه فأعرض عنه النبي ، فقال عمر : يا رسول الله! ما أرى إعراضك إلا لشيء بلغك عني، فما خير حياتي وأنت معرض عني؟ -أي: أيُ خيرٌ لي في هذه الدنيا وفي هذه الحياة إذا كنت معرضاً عني- فقال: "أنت الذي اعتذر إليك أبو بكر فلم تقبل منه" -أي: طلب أخوك أن تستغفر له فلا تفعل!- فقال: "والذي بعثك بالحق ما من مرةٍ يسألني إلا وأنا أستغفر له، وما خلق الله من أحدٍ أحب إليّ منه بعدك" ، فقال أبو بكر : و" أنا والذي بعثك بالحق كذلك". ولما تمعر النبي أشفق أبو بكر أن يكون من رسول الله على عمر ما يكره، فجثا أبو بكر -أي: برك- على ركبتيه، ويقول للنبي : (والله أنا كنت أظلم) وقال ذلك؛ لأنه كان هو البادئ، فجعل أبو بكر يعتذر حتى لا يجد النبي في نفسه على عمر ، ثم إن النبي بيّن فضل الصديق ، وقال: " إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر : صدق، وواساني بنفسه وماله" - وواساني من المواساة، وسميت مواساة لأن صاحب المال يجعل يده ويد صاحبه في ماله سواء-  ثم يقول النبي : " فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟ "  في رواية: ( تاركو ) وجزم بعضهم بأنها خطأ، ووجه بعضهم بوجه من وجوه اللغة لما قال النبي : "فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟ فما أوذي بعدها".
صحيح البخاري

فوائد حادثة الخصومة بين العمرين:

هذه الحادثة يؤخذ منها فوائد متعددة، فمن هذه الفوائد

الفائدة الأولي: فضل الصديق ومكانته في الإسلام

الصديق رضي الله عنه هو السابق إلى الإسلام وهو أكثر الصحابة نفعاً للدعوة على الإطلاق، واسى النبي بأهله وماله ونفسه، ولما جعل الكافر يخنق النبي ، وأبو بكر يذب عنه، ويقول: { أتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ}  [غافر:28]. وهو الذي دفع ماله كله في سبيل الله، وحمى النبي في الهجرة، وكان يبذل ماله للمسلمين، وكان يدعو إلى الله، وأسلم على يديه عدد من كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وهو الوزير الأول للنبي ، وصاحب الرأي الأعظم بعد النبي ، وأفضل الأمة بعد النبي ، وهو خليفته من بعده، وهو الذي تصدى للمرتدين لما غُمّي الأمر على عددٍ من الناس بعد النبي فقام بالأمر، وهو الذي وقف ذلك الموقف المشهود، وكان أفقه الصحابة لما مات عليه الصلاة والسلام واضطرب الأمر، ثم تلا عليهم قول الله:{ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } ( الزمر:30) فكأن الناس سمعوها لأول مرة، ويظنونها نزلت الآن، فلما تلا عليهم الآية علم الناس أن النبي قد مات، وهو الذي قال في ذلك الموقف العظيم: " والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه للنبي ﷺ لقاتلتهم عليه". فلما رأى عمر إصرار أبي بكر علم أنه هو الحق، وأن الله قد شرح صدر أبي بكر للحق، وهو الذي أنقذ المسلمين في سقيفة بني ساعدة من التفرق رضي الله عنه، وهو الذي استتب بسببه الأمن في الجزيرة لما كفر العرب أجمعون، إلا أهل المدينة ومكة ، وطائفة قليلة من العرب. وبدأ في عهده التجهيز لغزو بلاد فارس والروم.هذا الصديق هو أحب الرجال إلى النبي ، وبنته أحب النساء إلى النبي ، حدث بينه وبين عمر هذه الخصومة

 الفائدة الثانية: ترك إغضاب الفاضل لمن هو أفضل منه :

أن الفاضل لا ينبغي له أن يغاضب من هو أفضل منه، وينبغي أن يحفظ له حقه، وأن الشخص الفاضل ينبغي أن يكون له مكانة في المجتمع، ولا يرد عليه، ولا يمنع طلبه، وإنما يعطى حقه ويلبى طلبه لفضله ومكانته

 
الفائدة الثالثة : جواز مدح المرء عند أمان الفتنة :

يجوز مدح المرء في وجهه إذا أُمنت الفتنة، فإن الأصل عدم جواز مدح المرء في وجهه، ولكن إذا أمنت الفتنة جاز ذلك كما مدح النبي أبا بكر في محضرٍ من الصحابة، لما علم الله أن أبا بكر من الأتقياء، الذين لا يغترون بالمدح، والنبي -وهو الذي يوحى إليه والمؤيد من ربه- مدح الصديق في حضرة الصحابة، فإذا أمن الافتتان والاغترار بالشخص جاز مدحه للمصلحة، كتبيان فضله حتى لا يعتدى عليه.
 
مفاسد الغضب
والفائدة الرابعة: مفاسد الغضب :


أن الغضب يحمل الإنسان على ارتكاب خلاف الأولى وترك الأفضل،أو ترك ما ينبغي أن يكون في ذلك الموقف، لكن الغضب يصرف الإنسان عن الرؤية الصحيحة فلا يتخذ الموقف الصحيح.    

والفائدة الخامسة: الرجوع عن الخطأ من صفات الفضلاء:

 أن الفاضل في الدين يُسرع بالرجوع، فإن الناس يخطئون والصحابة بشر يخطئون، ولكن ما هو الفرق بيننا وبين الصحابة؟ أنهم أقل أخطاءً منا بكثير، ولكن إذا أخطئوا سرعان ما يرجعون إلى الصواب وإلى الحق رضي الله عنهم. فالمشكلة حصلت بين أبي بكر وعمر ولكن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما رجعا بسرعة، فندم أبو بكر ليس بعد هذه الخصومة بساعات طويلة أو أيام أو شهور وإنما ندم مباشرةً، فرجع إلى بيت عمر ، ولما أخطأ عمر ولم يقبل اعتذار أبي بكر ، ندم عمر بسرعة وذهب إلى بيت الصديق ، وهذه السرعة العجيبة في الرجوع إلى الحق هي التي ميزت أولئك القوم؛ حتى صاروا أفضل هذه الأمة، واختارهم الله لصحبة نبيه ونصرة دينه، والجهاد مع محمدٍ ومعايشة التنزيل ونزول الوحي، فهم أنصاره ووزراؤه رضي الله تعالى عنهم، وهم أفقه الأمة وأعلمها بالحلال والحرام وأبرها قلوباً، ولا يبغضهم إلاَّ منافق ولا يسبهم إلا ملعون.وينطبق في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما قول الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } [الأعراف:201] أي: هؤلاء المتقون إذا مسهم طائف من الشيطان كغضب في خصومة، أو سوء تفاهم فإنهم سرعان ما يرجعون، ولذلك قال الله: { تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } [الأعراف:201] وسرعة رجوعهم إلى الحق هذه من مناقبهم وفضائلهم رضي الله تعالى عنهم.إن الصحابة بشر يخطئون، وهل هناك أعظم من أبي بكر وعمر -رضي الله تعالى عنهما- بعد النبي ؟!! ومع ذلك حصل منهم ما يحصل من البشر من سوء التفاهم والخصومة، فهم بشر! وليسوا ملائكة، وهم يخطئون ويقع منهم الخطأ، لكنهم رجاعون إلى الحق، وهذه هي الميزة العظيمة التي عندهم

الفائدة السادسة:  التحلل من المظالم

الاستغفار والتحلل من المظلوم؛ فإن الإنسان إذا ظلم أخاه وتعدى عليه وأساء إليه وأخطأ في حقه؛ فإن المندوب له أن يأتيه ويطلب منه أن يستغفر له، وأن يتحلل من هذا المظلوم ويقول له: سامحني وحللني واستغفر لي وتجاوز عني ونحو ذلك ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من كانت له عند أخيه مظلمة -من ظلم أخاه- فليتحلل منه اليوم قبل ألا يكون دينارٌ ولا درهم ولكن بالحسنات والسيئات".

الفائدة السابعة: ترك ذكر الاسم مباشرة عند الغضب

أن الإنسان إذا غضب على صاحبه ربما لم يذكر اسمه مباشرة، وإنما ينسبه إلى أبيه أو جده، كما قال أبو بكر رضي الله عنه: "كان بيني وبين ابن الخطاب شيء".

والفائدة الثامنة: الركبة ليست عورة :

أن الركبة ليست بعورة، لأن أبا بكر جاء وقد حسر عن ركبتيه والنبي لم ينكر عليه

والفائدة التاسعة: قبول اعتذار المخطئ:
 
أن الإنسان لا ينبغي له أن يرد اعتذار من اعتذر إليه، ويغلق الباب في وجهه، أو يرفض قبول الاعتذار، وهذا يفعله عدد من الناس من فجورهم في الخصومة، فتراهم لا يقبلون الاعتذار ولا يرجعون ويبقون سنوات على ذلك، وكلما حاول فيهم الشخص أن يعتذر إليهم لم يقبلوا منه، بل ربما ظلوا على ذلك حتى الممات لا يقبلون المعذرة ولا يسامحونه، وليست هذه من شيم المؤمنين ولا من أخلاق المتقين؛ بل هذه من صفات المعاندين الذين ركب الشيطان في رءوسهم فنفخهم فجعلوا يرفضون الاعتذارات، ويرفضون العودة والقبول، وإن من شيم المؤمن أن يكون هيناً ليناً يقبل اعتذار أخيه.    ( منقول بتصرف من محاضرة للسيخ محمد المنجد، من فتح الباري في شرح أحادبث البخاري)

اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، اللهم اجعلنا هادين مهتدين ولا تجعلنا ضالين ولا مضلين