Wednesday 29 November 2017

شرح احاديث الأربعين النووية- الحديث الرابع والعشرون- حديث قدسي (يَا عِبَادِيْ إِنِّيْ حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِيْ وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمَاً فَلا تَظَالَمُوْا..)

 



  





 الحديث الرابع والعشرون- حديث قدسي (يَا عِبَادِيْ إِنِّيْ حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِيْ وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمَاً فَلا تَظَالَمُوْا..)

عَنْ أَبي ذرٍّ الغِفَارْي رضي الله عنه عَن النبي فيمَا يَرْويه عَنْ رَبّه عزَّ وجل أَنَّهُ قَالَ: (يَا عِبَادِيْ إِنِّيْ حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِيْ وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمَاً فَلا تَظَالَمُوْا، يَا عِبَادِيْ كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُوْنِي أَهْدِكُمْ، يَاعِبَادِيْ كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فاَسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِيْ كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُوْنِيْ أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِيْ إِنَّكُمْ تُخْطِئُوْنَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوْبَ جَمِيْعَاً فَاسْتَغْفِرُوْنِيْ أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِيْ إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوْا ضَرِّيْ فَتَضُرُّوْنِيْ وَلَنْ تَبْلُغُوْا نَفْعِيْ فَتَنْفَعُوْنِيْ، يَاعِبَادِيْ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوْا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فَيْ مُلْكِيْ شَيْئَاً.
يَا عِبَادِيْ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوْا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِيْ شَيْئَاً، يَا عِبَادِيْ لَوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوْا فِيْ صَعِيْدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُوْنِيْ فَأَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِيْ إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إَذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يَا عِبَادِيْ إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيْهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيْكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرَاً فَليَحْمَدِ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُوْمَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ) (رواه مسلم.)

تقديم للحديث: ما هو الحديث القدسي؟

"قوله فيمَا يَرْويَهُ" الرواية نقل الحديث "عَنْ رَبِّهِ" أي عن الله عزّ وجل، وهذا الحديث يسمى عند المحدثين قدسياً، والحديث القدسي: كل ما رواه النبي ﷺ عن ربه عزّ وجل.
لأنه منسوب إلى النبي ﷺ تبليغاً، وليس من القرآن بالإجماع، وإن كان كل واحد منهما قد بلغه النبي ﷺ أمته عن الله عزّ وجل.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في لفظ الحديث القدسي: هل هو كلام الله تعالى، أو أن الله تعالى أوحى إلى رسوله ﷺ معناه، واللفظ لفظ رسول الله ﷺ؟ على قولين:
القول الأول: أن الحديث القدسي من عند الله لفظه ومعناه، لأن النبي ﷺ أضافه إلى الله تعالى، ومن المعلوم أن الأصل في القول المضاف أن يكون بلفظ قائله لا ناقله، لا سيما أن النبي ﷺ أقوى الناس أمانةً وأوثقهم روايةً.
القول الثاني: أن الحديث القدسي معناه من عند الله ولفظه لفظ النبي ﷺ، وذلك لوجهين:
الوجه الأول: لو كان الحديث القدسي من عند الله لفظاً ومعنى؛ لكان أعلى سنداً من القرآن؛ لأن النبي ﷺ يرويه عن ربه تعالى بدون واسطة؛ كما هو ظاهر السياق، أما القرآن فنزلل على النبي ﷺ بواسطة جبريل عليه السلام؛ كما قال تعالى: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُس من ربك﴾ (النحل: 102)، وقال: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ*عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ (الشعراء: 193-195).
الوجه الثاني: أنه لو كان لفظ الحديث القدسي من عند الله؛ لم يكن بينه وبين القرآن فرق؛ لأن كليهما على هذا التقدير كلام الله تعالى، والحكمة تقتضي تساويهما في الحكم حين اتفقا في الأصل، ومن المعلوم أن بين القرآن والحديث القدسي فروق كثيرة منها:
1- أن الحديث القدسي لا يتعبد بتلاوته، بمعنى أن الإنسان لا يتعبد الله تعالى بمجرد قراءته؛ فلا يثاب على كل حرف منه عشر حسنات، والقرآن يتعبد بتلاوته بكل حرف منه عشر حسنات.
2- أن الله عزّ وجل تحدى أن يأتي الناس بمثل القرآن أو آية منه، ولم يرد مثل ذلك في الأحاديث القدسية.
3- أن القرآن محفوظ من عند الله عزّ وجل؛ كما قال سبحانه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: 9)؛ والأحاديث القدسية بخلاف ذلك؛ ففيها الصحيح والحسن، بل أضيف إليها ما كان ضعيفاً أو موضوعاً، وهذا وإن لم يكن منها لكن نسب إليها وفيها التقديم والتأخير والزيادة والنقص.
4- أن القرآن لا تجوز قراءته بالمعنى بإجماع المسلمين، أما الأحاديث القدسية؛ فعلى الخلاف في جواز نقل الحديث النبوي بالمعنى والأكثرون على جوازه.
5- أن القرآن تشرع قراءته في الصلاة، ومنه ما لا تصح الصلاة بدون قراءته، بخلاف الأحاديث القدسية.
6- أن القرآن لا يقرأه الجنب حتى يغتسل على القول الراجح، بخلاف الأحاديث القدسية.
7- أن القرآن ثبت بالتواتر القطعي المفيد للعلم اليقيني، فلو أنكر منه حرفاً أجمع القراء عليه؛ لكان كافراً، بخلاف الأحاديث القدسية؛ فإنه لو أنكر شيئاً منها مدعّياً أنه لم يثبت؛ لم يكفر، أما لو أنكره مع علمه أن النبي ﷺ قاله؛ لكان كافراً لتكذيبه النبي ﷺ.
وأجاب هؤلاء عن كون النبي ﷺ أضافه إلى الله، والأصل في القول المضاف أن يكون لفظ قائله بالتسليم أن هذا هو الأصل، لكن قد يضاف إلى قائله معنى لا لفظاً؛ كما في القرآن الكريم؛ فإن الله تعالى يضيف أقوالاً إلى قائليها، ونحن نعلم أنها أضيفت معنى لا لفظاً، كما في قصص الأنبياء وغيرهم، وكلام الهدهد والنملة؛ فإنه بغير هذا اللفظ قطعاً.
وبهذا يتبين رجحان هذا القول، ثم لو قيل في مسألتنا - الكلام في الحديث القدسي -: إن الأَولَى ترك الخوض في هذا؛ خوفاً من أن يكون من التنطّع الهالك فاعله، والاقتصار على القول بأن الحديث القدسي ما رواه النبي ﷺ عن ربه وكفى؛ لكان ذلك كافياً، ولعله أسلم والله أعلم.

موضوعات الحديث وأهدافه:

 اشتمل هذا الحديث على كثير من قواعد الدين وأصوله منها:
1-         نص على تحريم الظلم بين العباد ، وهو من أعظم المقاصد التي جاءت الشريعة بتقريرها .
2-         وفيه التأكيد على أهمية الدعاء ، وطلب الهداية من الله وحده ، وسؤال العبد ربه كل ما يحتاجه من مصالح دينه ودنياه ، والدعاء هو العبادة .
3-         كما أنه تضمن تنزيه الله ، وإثبات صفات الكمال ونعوت الجلال له سبحانه ، وبيان غناه عن خلقه وأنه لا تنفعه طاعة الطائعين ، ولا تضره معصية العاصين.
4-          وفيه أيضاً التنبيه على محاسبة النفس ، وتفقد الأعمال ، والندم على الذنوب ، ولذلك كان أبو إدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه،  وكان الإمام أحمد يقول عنه : " هو أشرف حديث لأهل الشام " .

شرح الحديث:

يبدأ االحديث بنداءٌ من الله عزّ وجل أبلغنا به أصدق المخبرين وهو محمد ﷺ، لعباده المؤمنين،  فقال: " يا عبادي " نسبهم إلى نفسه توددا إليهم، وكرر النداء في الحديث بهذه الصيغة "يَا عِبَادِي" تسع مرات  عاماً فشمل كل من كان عابداً بالعبودية العامة والعبودية الخاصة.
"إِنِّي حَرَّمتُ الظُّلمَ عَلَى نَفسِي" أي منعته مع قدرتي عليه، وإنما قلنا: مع قدرتي عليه لأنه لو كان ممتنعاً على الله لم يكن ذلك مدحاً ولا ثناءً، إذ لا يُثنى على الفاعل إلا إذا كان يمكنه أن يفعل أو لا يفعل.
فلو سألنا سائل مثلاً وقال: هل يقدر الله أن يظلم الخلق؟
فالجواب: نعم، لكن نعلم أن ذلك مستحيل بخبره، حيث قال: ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾ (الكهف 49). وكتب عزّ وجل عنده: "إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي" ( رواه البخاري)
فلو سألنا سائل: هل يحرم على الله شيء، وهل يجب على الله شيء؟
فالجواب: أما إذا كان هو الذي أوجب على نفسه أو حرم فنعم، لأن له أن يحكم بما شاء. وأما أن نحرم بعقولنا على الله كذا وكذا، أو أن نوجب بعقولنا على الله كذا وكذا فلا، فالعقل لا يوجب ولا يحرم، وإنما التحريم والإيجاب إلى الله عزّ وجل.
قال ابن القيم - رحمه الله - في النونية:
ما للعباد عليه حقٌّ واجبٌ ... هو أوجبَ الأجرَ العظيم الشانِ
"وَجَعَلتُهُ بَينَكُمْ مُحَرَّمَاً" أي صيّرته بينكم محرماً.
"فَلا تَظَالَمُوا" هذا عطف معنوي على قوله: "جَعَلتُهُ بَينَكُمْ مُحَرَّمَاً" أي فبناء على كونه محرماً لا تظالموا، أي لا يظلم بعضكم بعضاً.
الظلم : هو : وضع الشيء في غير موضعه ، ويطلق على مجاوزة الحد، والتصرف في حق الغير بغير وجه حق .
الظلم نوعان:
1- ظلم العبد لنفسه: وأعظمه الشرك بالله عز وجل ، قال سبحانه : ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ (لقمان: 13) ، لأن الشرك في حقيقته هو جعل المخلوق في منزلة الخالق ، فهو وضع الأشياء في غير مواضعها ، ثم يليه ارتكاب المعاصي على اختلاف أجناسها من كبائر وصغائر ، فكل ذلك من ظلم العبد لنفسه بإيرادها موارد العذاب والهلكة في الدنيا والآخرة ، قال سبحانه : ﴿ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ ﴾ (البقرة: 231) .
2- النوع الثاني من أنواع الظلم : فهو ظلم الإنسان لغيره بأخذ حقه أو الاعتداء عليه في بدنه أو ماله أو عرضه أو نحو ذلك ،
وقد وردت النصوص كثيرة ترهب من الوقوع في هذا النوع ، من ذلك  قوله  ﷺ في خطبته في حجة الوداع : " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا " .( متفق عليه)
وطلم الإنسان لغيره يكون إما : أن يمنعه حقاً له ، أو يأخذ منه حقاً كان له.
مثال الأول: أن تمنع شخصاً من دين عليك فلا توفّيه، أو تماطل به، لقول النبي ﷺ: "مطْلُ الغَنِيِّ ظُلمٌ " (البخاري).
ومثال الثاني: كأن تدعي عليه ديناً وتأتي بشهادة زور فيُحكم لك به، فهذا ظلم.
" يَا عِبَاديَ كُلُّكُم ضَالٌّ" أي تائه عن الطريق المستقيم "إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ" أي علمته ووفقته، وعلمته هذه هداية الإرشاد ووفقته هداية التوفيق. فإن قال قائل: هنا إشكال وهو أن النبي ﷺ قال: " كلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفطرةِ ، فأبواه يُهَوِّدانِه ، أو يُنَصِّرانِه ، أو يُمَجِّسانِه ، كمثلِ البَهِيمَةِ تُنْتِجُ البَهِيمَةَ ، هل ترى فيها جَدْعَاءَ ". (رواه البخاري)، وهنا يقول: كلكم ضال؟
فالجواب: أن النبي ﷺ قال: "كُلُّ مَولُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطرَةِ" لكن قال: "أَبَوَاه يُهَوِّدَانِهِ، أَو يُنَصِّرَانِهِ، أَو يُمَجِّسَانِهِ" وهنا يخاطبُ عزّ وجل المكلّفين الذين قد تكون تغيرت فطرتهم إلى ما كان عليه آباؤهم، فهم ضلاَّلٌ حتى يهديهم الله عزّ وجل.
"فَاستَهدُونِي أَهدِكُمْ" أي اطلبوا مني الهداية لا من غيري أهدكم، وهذا جواب الأمر، وهذا كقوله: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ (غافر 60) وفي هذا حث على طلب الهداية من الله .
الهداية نوعان: 1- هداية التوفيق وهذه لا تطلب إلا من الله، إذ لا يستطيع أحد أن يهديك هداية التوفيق إلا الله عزّ وجل.
2- وهداية الدلالة: وهذه تصحّ أن تطلبها من غير الله ممن عنده علم بأن تقول: يا فلان أفتني في كذا، أي اهدني إلى الحق فيه.
وقوله: "فَاستَهدُونِي" يشمل الهدايتين، وهداية التوفيق ، وهداية الدلالة .
وفي هذا أيضاً حثٌّ على طلب العلم، لقوله: "كُلُّكُم ضَالٌّ" فإن طلب العلم من أفضل الأعمال، وقد قال الإمام أحمد  رحمه الله: العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته لاسيما في هذا الزمن الذي كثر فيه الجهل، وكثر فيه الظن وأفتى من لا يستحق أن يفتي، فطلب العلم في هذا الزمان متأكد.
"يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ" أي كلكم جائع إلا من أطعمه الله، وهذا يشمل ما إذا فقد الطعام، أو وجد ولكن لم يتمكن الإنسان من الوصول إليه، فالله هو الذي أنبت الزرع، وهو الذي أدرّ الضرع، وهو الذي أحيا الثمار، فصدق الله تعالى حيث قال: ﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ*أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ* لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ*إِنَّا لَمُغْرَمُونَ* بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ* أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ* لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ* ﴾ (الواقعة: 63-70)، تجد كيف أقرَّ الله الخلق في هذه الآيات بأنه هو وحده الخالق للمأكل، والمشرب، فكلّ الخلق جائع إلا من أطعمه الله.
وقد يكون الطعام موجودا،  ولا يتمكن الإنسان منه: إما لكونه غير قادر على الوصول إليه، أو مصاباً بمرض، أو يحبسه عنه حابس.
"فَاسْتَطْعِمُونِي" أي اطلبوا مني الإطعام، وهو يشمل سؤال الله عزّ وجل الطعام، ويشمل السعي في الرزق وابتغاء فضل الله عزّ وجل كما قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ (الملك: 15) ، فالسماء لا تمطر ذهباً ولا درهماً ولا خبزاً، بل لابد من السعي لطلب الرزق.

" أُطْعِمْكُمْ" أطعم: فعل مضارع مجزوم على أنه جواب الأمر. "يَا عِبَادِي كُلُّكُم عَارٍ" فكل البشر عراة خرجوا كذلك من ارحام أمهاتهم، وكذلك يبعثون .
"إِلاّ مَنْ كَسَوتُهُ فَاستَكْسُونِي أَكْسُكُمْ" فاطلبوا مني الكسوة أكسوكم، وربما يقال: إنه يشمل لباس الدين، فيشمل الكسوتين: كسوة الجسد الحسيّة، وكسوة الروح المعنوية.
وفي هذه الموضع من الحديث يحث الله عباده على سؤاله كل شيء، يسأله الهداية ، والمغفرة ، والطعام والشراب، فعلى العباد  سؤال ربهم جميع مصالح دينهم ودنياهم، وفي الحديث: " يسأَلْ أحَدُكم ربَّه حاجتَه كلَّها حتَّى شِسْعَ نَعْلِه إذا انقطَع " (رواه ابن حبان في صحيحه  عن أنس بن مالك) ، وكان بعض السلف يسأل الله في صلاته كل حوائجه حتى ملح عجينه وعلف شاته .
"يَا عِبَادي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ" أي تجانبون الصواب، لأن الأعمال إما خطأ وإما صواب، فالخطأ مجانبة الصواب وذلك إما بترك الواجب، وإما بفعل المحرّم.
وقوله: "بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ"  الباء هنا بمعنى: (في) كما هي في قول الله تعالى: ﴿وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ* وَبِاللَّيْل﴾ (الصافات: 137-138) أي وفي الليل.
"وَأَنَا أَغفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعَاً" أي أسترها وأتجاوز عنها مهما كثرت، ومهما عظمت، فأنا أغفرها ، وما عليكم إلا أن تطلبوا مني المغفرة.
"فَاستَغفِرُونِي أَغْفِر لَكُم" أي اطلبوا مغفرتي، وذلك بوجهين:
الوجه الأول: طلب المغفرة باللفظ بأن يقول: اللهم اغفر لي، أو أستغفر الله.
الوجه الثاني: طلب المغفرة بالأعمال الصالحة التي تكون سبباً لذلك كقوله: "مَنْ قَالَ: سُبحَانَ اَلله وَبِحَمْدِهِ في اليَوم مائَةَ مَرةَ غُفِرَت خَطَايَاه ُوَإِنْ كَانَت مِثْلُ زَبَدِ البَحْرِ"( رواه البخاري)
ومن لأعمال الصالحة قول النبي ﷺ: "الصلَواتِ الخَمسُ وَالجُمُعَة إِلى الجُمُعَةِ وَرَمَضَان إِلى رَمَضَان مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَينَهُنَّ مَا اجتَنَبَ الكَبَائِرَ" (رواه مسلم)، وأما الكبائر فلابد لها من توبة خاصة بالجنان واللسان والعزم، فلا تكفرها الأعمال الصالحة.
"يَا عِبَاديَ إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّيْ فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفعِي فَتَنْفَعُونِي" أي لن تستطيعوا أن تضروني ولا أن تنفعوني، لأن الضار والنافع هو الله عزّ وجل والعباد لا يستطيعون هذا، وذلك لكمال غناه عن عباده عزّ وجل.
" يَا عِبَادِيَ لَو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتقَى قَلبِ رَجُلٍ وَاحدٍ مِنكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئَاً" يعني لو أن كل العباد من الإنس والجن الأولين والآخرين كانوا على أتقى قلب رجل ما زاد ذلك في ملك الله شيئاً، أي لا يزيد تقوى التقى لله في ملك الله شيء، وبالمثل لا ينقص كفر من كفر من ملك الله شيئاً.
بينما ملوك الدنيا يتعاظمون ويزيد اتساع أملاكهم كثرة جنودهم وأعوانهم واتباعهم،فلو كان للملك من ملوك الدنيا جنود كثيرون فإن ملكه يتسع بجنوده.
ثم قال: "يَا عِبَادِيَ لَو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفجَرِ قَلبِ رَجُلٍ وَاحدٍ مِنكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِن مُلْكِي شَيْئَاً" ووجه ذلك: أن الفاجر عدو لله عزّ وجل فلا ينصر الله، ومع هذا لا ينقص من ملكه شيئاً لأن الله تعالى غني عنه. فالعباد لا يستطيعون أن يوصلوا لله نفعا ولا ضرا ، بل هو سبحانه غني عنهم وعن أعمالهم، لا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضره معصية العاصين، ولكنه يحب من عباده أن يتقوه ويطيعوه، ويكره منهم أن يعصوه، مع غناه عنهم، وهذا من كمال جوده وإحسانه إلى عباده ، ومحبته لنفعهم ودفع الضر عنهم ، قال سبحانه : ﴿ مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ (فصلت: 46) .
"يَا عِبَادِيَ لَو أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلونِي فَأَعطَيتُ كُلَّ وَاحِدٍ مَسأَلَتَهُ" أي إذا قاموا في أرض واحدة منبسطة، وذلك لأنه كلما كثر الجمع كان ذلك أقرب إلى الإجابة.
"مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحرَ" وهذا من باب المبالغة في عدم النقص، لأن كل واحد يعلم أنك لو أدخلت المخيط وهو الإبرة الكبيرة في البحر ثم أخرجتها فإنها لا تنقص البحر شيئاً ولا تغيره، وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "يَدُ اللهِ مَلأى سحَّاءَ" أي كثيرة العطاء "الَّليلَ والنَّهَارَ" أي في الليل والنهار "أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرض فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ" أي لم ينقص "مَا فِي يَمِيْنِهِ" ( أخرجه البخاري ومسلم) .
"يَا عِبَادِيَ إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ"  هذه جملة فيها حصر طريقه: (إنما) أي ما هي إلا أعمالكم أُحْصِيْهَا لَكُمْ أي أضبطها تماماً بالعدّ لا زيادة ولا نقصان، قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾ (الزلزلة: 7، 8)
وقال " أحصيها " لأنهم كانوا في الجاهلية لا يعرفون الحساب فيضبطون الأعداد بالحصى.  
"ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا" أي في الدنيا والآخرة، وقد يكون في الدنيا فقط، وقد يكون في الآخرة فقط.
قد يكون في الدنيا فقط: فإن الكافر يجازى على عمله الحسن لكن في الدنيا لا في الآخرة، والمؤمن قد يؤخر له الثواب في الآخرة، وقد يجازى به في الدنيا وفي الآخرة، قال الله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾ (الشورى 20)، وقال عزّ وجل: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيد﴾ (الاسراء 18) وقال عزّ وجل: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً﴾ (الاسراء 19)
إذاً فالتوفية تكون في الدنيا دون الآخرة للكافر، أما المؤمن فتكون في الدنيا والآخرة جميعاً، أو في الآخرة فقط.
" فَمَنْ وَجَدَ خَيْرَاً فَليَحْمَدِ اللهَ" أي من وجد خيراً من أعماله فليحمد الله على الأمرين: على توفيقه للعمل الصالح، وعلى ثواب الله له.
"وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ" أي وجد شراً أو عقوبة "فَلا يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفسَهُ" لأنه لم يُظلم، واللوم: أن يشعر الإنسان بقلبه بأن هذا فعل غير لائق وغير مناسب، وربما ينطق بذلك بلسانه.