Sunday 25 July 2021

تفسير وربط للآيات- وبيان المتشابهات- سورة البلد – الإيمان بالله شرط ليثمر العمل الصالح ويجازى عليه

   


تفسير سورة البلد – الإيمان بالله شرط ليثمر العمل الصالح ويجازى عليه

 

التعريف بالسورة:
السورة مكية- من المفصل- عدد آياتها 20 – ترتيبها في المصحف التسعون- نزلت بعد سور (ق ) – بدأت بصيغة القسم:
{لَا أُقْسِمُ بِهَـذَا الْبَلَدِ}  

ما ذكر في اسباب نزول السورة:

تنوَّعتْ أسباب نزول سورة البلد،  فقوله تعالى في سورة البلد: {أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ}  نزلتْ هذه الآية في أبيّ الأشدّ بن كلدة الجُمَحيّ، وكان أبيّ هذا مغرورًا شديد الكبر بقوة جسده، قيل: فأنزل الله تعالى هذه السورة فيه.

 أمَّا قوله تعالى: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا}، قال مقاتل في سبب نزولها: نزلتْ في الحارث بن عامر بن نوفل، أذنب فاستفْتَى النَّبيَّ فأمره أنْ يُكَفِّر، فقال: لقد ذهبَ مالي في الكفّارات والنَّفقات، منذ دخلتُ في دينِ محمد"، وفيه نزلت هذه الآية، ولا يوجد سند صحيح لما ورد ، والله تعالى أعلم.

محور مواضيع سورة البلد

قد تطرَّقت هذه السورة إلى أكثر من  موضوع واحد في محكم آياتها:

فمن الآية 1 حتَّى الآية ١٠ : أقسم الله تعالى بالبلد، والبلد هي مكة المكرمة، ثمَّ أقسم بالإنسان منذ خلق آدم، وبيان أنه خلق في تعب ومشقَّة، فهل يظنُّ من خلق في تعب ومشقة أنَّه غالب ولن يغلبه أحد، فيستكبر بما أنفق من ماله ويحسب أن ماله يحفظه فلا يقدر ربه عليه، بل الله تعالى هو المتفضل فقد أنعم عليه به ، بل و جعل له عينين ولسانًا وشفتين وبيَّن له طريق الخير والشر أيضًا، قال تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا * أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}

ومن الآية ١١ حتَّى الآية ١٦: يقول تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ* أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ}، فهلا اقتحم العقبة ، وهي أن يجاهد الإنسان نفسه  في سبيل فعل الخيرات، ومنها فكُ رقبة أي الإنفاق في سبيل الله تعالى في سبيل عتق الرقِّ والعبيد، والعقبة هي إطعام المساكين والأيتام وقت الجوع والشدائد فالآيات تدعو إلى البذل والعطاء في سبيل الله دون تقتير أو ندم.

 وفي الأربع آيات الأخيرة من الآية ١٦- ٢٠: يؤكد على حقيقة أن العمل الصالح يجب أن يصحبه الإيمان بالله  ليثمر لصاحبه الخير وأن يكون من أصحاب الميمنة، ويعضد ذلك وهو نتيجته؛ الأمر بالمعروف، والتواصي بين المؤمنين بعضهم بعضا على الصبر على مشقة الدعوة إلى الله ، والصبر على فعل الواجبات والأركان، وعلى التراحم فيما بينهم: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ} ومن خلال هذا الأمر بالتواصي بفعل الخير هنا تأكيد على فضل الصبر على مشقة الدعوة إلى الله أو الأمر بالمعروف، وأهمية التواصي بالتراحم بينهم،  والله تعالى أعلم.

 

تفسير سورة البلد:

 

قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ }، هذا قسم من الله عز وجل بمكة أم القرى في حال كون الساكن فيها حالًّا فيها؛ لينبه على عظمة قدرها في حال إحرام أهلها.

عن مجاهد: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ } لا رد عليهم؛ أقسم بهذا البلد. قيل: يجوز أن تكون { لا} زائدة، كما في {لا أقسم بيوم القيامة} (القيامة  ١)؛  والمعنى كما قال الأخفش. أي أقسم؛ لأنه قال { بِهَذَا الْبَلَدِ } وقد أقسم به ، فقال: { وهذا البلد الأمين} (التين٣)، فكيف يَجْحَد القسم به وقد أقسم به. وقيل: حرف { لا} صلة؛ ومنه قوله تعالى { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ} (الأعراف ١٢) بدليل قوله تعالى في (ص) { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} . (ص  75).

عن ابن عباس: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} يعني:مكة، { وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ } قال:أنت؛ يا محمد حالٌّ فيه،  وقيل: وأنت يحل لك أن تقاتل فيه. قال الحسن البصري:أحلها الله له ساعة من نهار يوم فتح مكة.

قال ابن جرير: أي أقسم بالبلد الحرام الذي أنت فيه حالٌّ ، لكرامتك علي وحبي لك. وقال مجاهد:ما أصبت فيه فهو حلال لك.

وهذا المعنى الذي قالوه قد وَرَد به الحديث المتفق على صحته، أنه قال يوم فتح مكة: «إنَّ هذا البَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَومَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأرْضَ، فَهو حَرَامٌ بحُرْمَةِ اللَّهِ إلى يَومِ القِيَامَةِ، وإنَّه لَمْ يَحِلَّ القِتَالُ فيه لأحَدٍ قَبْلِي، ولَمْ يَحِلَّ لي إلَّا سَاعَةً مِن نَهَارٍ، فَهو حَرَامٌ بحُرْمَةِ اللَّهِ إلى يَومِ القِيَامَةِ، لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، ولَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، ولَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إلَّا مَن عَرَّفَهَا، ولَا يُخْتَلَى خَلَاهُ فَقالَ العَبَّاسُ: يا رَسولَ اللَّهِ، إلَّا الإذْخِرَ فإنَّه لِقَيْنِهِمْ ولِبُيُوتِهِمْ، قالَ: إلَّا الإذْخِرَ. » ( رواه البخاري)

 وفي لفظ [ آخر ] فإن أحد تَرَخَّص بقتال رسول الله فقولوا: « إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم »

وقوله: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ}  قال ابن جرير: عن ابن عباس في قوله: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ}  الوالد: الذي يلد، وما ولد: العاقر الذي لا يولد له.

وقال الحسن البصري: يعني بالوالد آدم، وما ولد ولده. أقسم بهم لأنهم أعجب ما خلق الله تعالى على وجه الأرض؛ لما فيهم من البيان والنطق والتدبير، وفيهم الأنبياء والدعاة إلى الله تعالى. وقيل : هو إقسام بآدم والصالحين من ذريته.

وهذا الذي ذهب إليه مجاهد وأصحابه حَسَنٌ قوي؛ لأنه تعالى لما أقسم بأم القرى وهي المساكن أقسم بعده بالساكن، وهو آدم أبو البشر وولده.

واختار ابن جرير أنه عام في كل والد وولده. وهو محتمل أيضا.

وقوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ} رُوي عن ابن مسعود، وابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، وخَيْثَمة، والضحاك، وغيرهم:يعني منتصبا - زاد ابن عباس في رواية عنه- في بطن أمه.

والكبد: نـَـصَـب و مشقـّة و مُكابَدة للشّدائد

كبد: شدةُ خَلقٍ، و مشقَّة عظيمة، و مكابدة و عناء. و يقال: إنه خلق يعالج و يكابد أمر الدنيا و أمر الآخرة.

 أو هو اعتدال و استقامة، و الكبد: الإستواء و الإستقامة.

وعلى هذا المعنى:لقد خلقنا الإنسان سويا مستقيما ، يكون كقوله: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} (الانفطار:٦-٧)، وكقوله سبحانه:{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين٤) .

فائدة:

الكبد هو العضو المعروف في جسم الإنسان، وهو في وسط الجسم، ولذلك يقال: كبد السماء: وسطها تشبيها بكبد الإنسان لكونها في وسط البدن.

قال مجاهد: ( فِي كَبَدٍ ) نطفة، ثم علقة، ثم مضغة يتكبد في الخلق - قال مجاهد:وهو كقوله: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} وأرضعته كرها، ومعيشته كره، فهو يكابد ذلك.

وقال سعيد بن جبير: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ} في شدة وطَلَب معيشة. والمعنى واحد.

واختاره ابن جرير.

وقوله: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } قال الحسن البصري:يعني أيحسب أن لن يقدر عليه أحد يأخذ ماله.

وقال قتادة: ( أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ) قال:ابن آدم يظن أن لن يُسأل عن هذا المال: من أين اكتسبه؟ وأين أنفقه؟

أيظن ابن آدم أن لن يعاقبه الله عز وجل {يَقُولُ أَهْلَكْتُ} أي أنفقت. {مَالا لُبَدًا} أي كثيرا مجتمعا. { أيحسب} أي أيظن. { أن لم يره} أي أن لم يعاينه { أحد} بل علم الله عز وجل ذلك منه، فكان كاذبا في قوله : أهلكت ولم يكن أنفقه. وروى أبو هريرة قال: "إنَّ أوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَومَ القِيامَةِ عليه " وذكر قارىء المجاهد ....، وقاريء القرآن ، ثم قال: "ورَجُلٌ وسَّعَ اللَّهُ عليه، وأَعْطاهُ مِن أصْنافِ المالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قالَ: فَما عَمِلْتَ فيها؟ قالَ: ما تَرَكْتُ مِن سَبِيلٍ تُحِبُّ أنْ يُنْفَقَ فيها إلَّا أنْفَقْتُ فيها لَكَ، قالَ: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقالَ: هو جَوادٌ، فقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ في النَّارِ." ( أخرجه مسلم)

 وقال السدي: ( أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ) قال: الله عز وجل- أي يقدر عليه-

وقوله: { يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُبَدًا } أي:يقول ابن آدم:أنفقت مالا لبدا، أي:كثيرا. وكما ذكرنا أنها نزلت في في الحارث بن عامر بن نوفل، أذنب فاستفتى النبي ﷺ، فأمره أن يُكَفِّر. فقال: لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات، منذ دخلت في دين محمد. وهذا القول منه يحتمل أن يكون   استكثارا بما أنفق، فيكون طغيانا منه، أو أسفا عليه، فيكون ندما منه.

{أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ } قال مجاهد:أي أيحسب أن لم يره الله عز وجل.

وقوله: { أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} أي:يبصر بهما، {وَلِسَانًا } أي:ينطق به، فَيُعبر عما في ضميره، {وَشَفَتَيْنِ }  يستعين بهما على الكلام وأكل الطعام، وجمالا لوجهه وفمه.

( وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) قال سفيان الثوري، عن عاصم، عن زرّ، عن عبد الله بن مسعود : (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) قال:الخير والشر. وكذا رُوي عن علي، وابن عباس: الهدى والضلال.

وقال عبد الله بن وهب:أخبرني بن لَهِيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سِنان بن سعد، عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللهﷺ: « يا أيها الناسُ إنما هما النجدانِ نجدُ الخيرِ ونجدُ الشرِّ، فما يجعلُ نجدَ الشرِّ أحبَّ إليكمْ من نجدِ الخيرِ ؟" (روي عن الحسن البصري مرسلا- وإسناده إلى النبيﷺ ضعيف)

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن عصام الأنصاري، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا عيسى ابن عقال عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: ( وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) قال: وهديناه الثَّديين: سبيلي اللبن الذي يتغذّى به، وينبت عليه لحمه وجسمه"

قال ابن جرير: والصواب القول الأول.

ونظير هذه الآية قوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } (سورة الإنسان ٢-٣).

قال ابن جرير:حدثني عمر بن إسماعيل بن مجالد، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن أبيه، عن عطية، عن ابن عمر في قوله: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ}  قال:جبل في جهنم. العقبة .

العقبة: هو مثل ضربه الله لمجاهدة النفس والهوى في أعمال البر يفسره ما بعده من الآيات. وقالوا هو جبل في جهنم. أو عقبة بين الجنة و النار. أو الصراط، أو طريق النجاة. و العقبة في الأصل: طريق في الجبل وعر، أو الجبل الطويل.

وقال كعب الأحبار: { فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} هو سبعون درجة في جهنم. وقال الحسن البصري: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ } قال:عقبة في جهنم. وقال قتادة:إنها قحمة شديدة فاقتحموها بطاعة الله عز وجل. وقال قتادة {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ } ثم أخبر عن اقتحامها. فقال: { فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ }

وقال ابن زيد: {اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} أي: أفلا سلك الطريق التي فيها النجاة والخير. ثم بينها فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ}

عقب العقب: مؤخر الرجل، وقيل: عقب، وجمعه: أعقاب، وروي: (ويل للإعقاب من النار) (الحديث عن عبد الله بن عمرو قال: تخلف النبي ﷺ عنا في سفرة سافرناها، فأدْرَكَنا وقدْ حَضَرَتْ صَلاةُ العَصْرِ فَجَعَلْنا نَمْسَحُ علَى أرْجُلِنا فَنادَى: ويْلٌ لِلأَعْقابِ مِنَ النَّارِ." ( أخرجه البخاري)

واستعير العقب للولد وولد الولد. قال تعالى:  { وَجَعَلَهَا كَلِمَةَۢ بَاقِيَةً فِى عَقِبِهِۦ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الزخرف ٢٨)

وعقب الشهر، من قولهم: جاء في عقب الشهر، أي: آخره، وجاء في عقبه إذا بقيت منه بقية، ورجع على عقبه: إذا انثنى راجعا، وانقلب على عقبيه، نحو رجع على حافرته (ومثلها يقال: ارتد على أدباره، ونكس على رأسه، وارتكس في أمره.)، ونحو: {فَٱرْتَدَّا عَلَىٰٓ ءَاثَارِهِمَا قَصَصًا } (الكهف٦٤)

قرئ: { فَكُّ رَقَبَةٍ } بالإضافة، وقُرئ على أنه فعل، وفيه ضمير الفاعل والرقبة مفعوله وكلتا القراءتين معناهما متقارب.

قال الإمام أحمد:حدثنا علي بن إبراهيم، حدثنا عبد الله - يعني ابن سعيد بن أبي هند- عن إسماعيل بن أبي حكيم - مولى آل الزبير- عن سعيد بن مرجانة:أنه سمع أبا هُرَيرة يقول:قال رسول اللهﷺ : « مَن أعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، أعْتَقَ اللَّهُ بكُلِّ عُضْوٍ منه عُضْوًا مِنَ النَّارِ، حتَّى يُعْتِقَ فَرْجَهُ بفَرْجِهِ.» ( مسلم)،  فقال علي بن الحسين زين العابدين: أنتَ سَمعتَ هذا من أبي هُرَيرة؟ فقال سعيد: نعم. فقال علي بن الحسين لغلام له : ادعُ مطْرَفًا. فلما قام بين يديه قال:اذهب فأنت حُر لوجه الله.  وقد رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، وعند مسلم أن هذا الغلام الذي أعتقه علي بن الحسين زين العابدين كان قد أعطي فيه عشرة آلاف درهم.

وقال قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن مَعدانَ بن أبي طلحة، عن أبي نَجِيح قال:سمعتُ رسولَ الله ﷺ يقول: " أيُّما رجلٍ مسلمٍ أعتقَ رجلًا مسلمًا ؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ جَاعِلٌ وِقَاءَ كلِّ عَظْمٍ من عِظَامِهِ عَظْمًا من عِظَامِ مُحَرَّرِهِ . وَأيُّما امرأةٍ مَسْلَمَةٍ أعتقَتِ امرأةً مَسْلَمَةً ؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ جَاعِلٌ وِقَاءَ كلِّ عَظْمٍ من عِظَامِها عَظْمًا من عِظَامِ مُحَرَّرِتِها مِنَ النارِ "( صحيح الترغيب والترهيب – عن عمرو  بن عبسة السلمي)، ورواه ابن جرير الطبري.

قال الإمام أحمد:بسنده عن كثير بن مرة، عن عمرو بن عَبسَة أنه حدثهم:أن النبي ﷺ قال: «من رمى بسَهمٍ في سبيلِ اللَّهِ فبلغَ العدوَّ أخطأَ أو أصابَ كانَ لَهُ كعِدلِ رقبةٍ، ومن أعتقَ رقبةً مسلمةً كانَ فداءُ كلِّ عضوٍ منْهُ عضوًا منْهُ من نارِ جَهنَّمَ، ومن شابَ شيبةً في سبيلِ اللَّهِ كانت لَهُ نورًا يومَ القيامةِ"  (صحيح النسائي).

وفي شرح الحديث ، يقول: "ومَن شابَ شَيبةً في سَبيلِ اللهِ"، والشَّيبُ هو تغيُّرُ لونِ الشَّعرِ إلى البَياضِ بسبَبِ كِبَرِ السِّنِّ، والمقصودُ أنَّ مَن عاش عُمرَه وهو يُجاهِدُ ويُقاتِلُ في سَبيلِ اللهِ ،

وايقصد أيضا ويفسر بأنه: ومَن شابَ شَيبةً في سَبيلِ اللهِ بأنْ شابَ شَعرُه، وهو يقومُ بأعمالِ البرِّ والطَّاعاتِ في الإسلامِ..إلى أنْ شاب وتغيَّر لونُ شَعرِه، ولو شَعرةٌ واحِدةٌ كان جزاؤُه أنْ تكونَ هذه الشَّيبةُ له "نورًا يومَ القيامةِ"، أي: يَتحوَّلُ الشَّعرُ نَفسُه إلى نورٍ يَهتدي به صاحبُه يومَ القِيامةِ،

حديث آخر: قال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن آدم وأبو أحمد قالا حدثنا عيسى بن عبد الرحمن البجلي - من بني بجيلة- من بني سليم - عن طلحة- قال أبو أحمد:حدثنا طلحة بن مصرف - عن عبد الرحمن بن عوسجة، عن البراء بن عازب قال: « جاء أَعرابيٌّ إلى النَّبيِّ ﷺ، قال: عَلِّمْني عَمَلًا يُدخِلُني الجنَّةَ، قال: لَئِن كُنتَ أَقصَرتَ الخُطبةَ لَقد أَعرَضْتَ المَسألةَ: أعتِقْ النَّسَمةَ، وفُكَّ الرَّقبَةَ، قال: أَوَلَيسا واحدًا؟! قال: لا، عِتقُ النَّسَمةِ أنْ تُفرَدَ بِعِتقِها، وفَكُّ الرَّقبةِ أن تُعينَ في ثَمنِها، والمِنحةُ الوَكوفُ، والفَيءُ على ذي الرَّحمِ الظَّالمِ، فإنْ لم تُطِقْ ذلكَ فأَطعِمِ الجائِعَ، واسْقِ الظَّمآنَ، وأْمُرْ بِالمَعروفِ، وانْهَ عنِ المُنكَرِ، فإن لَم تُطِقْ ذلكَ فكُفَّ لِسانَك إلَّا مِن خيرٍ." (صحيح مشكاة المصابيح- الألباني)

وشرح الحديث: "أعتِقِ النَّسَمةَ" وهي الرُّوحُ أوِ النَّفْسُ، والمُرادُ بها هنا: العَبدُ والأَمةُ المَملوكَيْنِ، والمُرادُ بعِتقِهم: تَحريرُهم مِنَ العُبوديَّةِ، بأنْ تَشتَريَه مِن مالِكِه وتُحَرِّرَه، "وفُكَّ الرَّقَبةَ" ادفَعِ المالَ الذي يُخَلِّصُ إنسانًا مِن دَيْنٍ أو رَهْنٍ أو أسْرٍ أو عُبوديَّةٍ ورِقٍّ، فكَأنَّه كانَ مَربوطًا ومَحبوسًا لِحينِ دَفعِ هذا المالِ، "فقالَ: يا رَسولَ اللهِ، أوَلَيسَتا واحِدًا؟" وهذا سُؤالٌ لِبَيانِ اللَّبسِ الحاصِلِ عِندَه في المَعنيَيْنِ، وهلِ الإعتاقُ والفَكُّ بمَعنًى واحِدٍ؟ "فقالَ النبيُّ ﷺ: "لا"؛ فبَيَّنَ النبيُّ ﷺ الفَرقَ بَينَ الكَلِمتَيْنِ، "عِتقُ النَّسَمةِ: أنْ تُفرَدَ بعِتقِها"؛ فتَنفَرِدَ وَحدَكَ بعِتقِها كامِلةً مِن مالِكَ، "وفَكُّ الرَّقَبةِ أنْ تُعينَ في ثَمَنِها"، أنْ تُشارِكَ في عِتقِها، "والمِنحةُ الوَكوفُ"، وهي العَطيُّةُ، والمُرادُ هنا ناقةٌ أو شاةٌ أو حَيوانٌ حَلوبٌ، يُعطيها صاحِبُها لِغَيرِه لِيَنتَفِعَ بلَبَنِها ووَبَرِها مادامَتْ تُدِرُّ لَبَنًا، ثم يَرُدُّها إلى صاحِبِها إذا جَفَّ لَبَنُها، ومعنى (الوَكوفُ): كَثيرةُ اللَّبَنِ "والفَيءُ" التَّعَطُّفُ والرُّجوع بالبِرِّ "على ذي الرَّحِمِ الظَّالِمِ" على القَريبِ الظَّالِمِ لكَ بقَطعِ الصِّلةِ وغَيرِه، "فإنْ لم تُطِقْ" فإن لم يَكُنْ في استِطاعَتِكَ فِعلُ شَيءٍ مِمَّا سَبَقَ، "فكُفَّ لِسانَكَ إلَّا مِن خَيرٍ"، فامنَعْ لِسانَكَ عن قَولِ الشَّرِّ، واكتَفِ بقَولِ الخَيرِ. ( الشرح من الدرر السنية )

وقوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} قال ابن عباس:ذي مجاعة. وكذا قال عكرمة، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وغير واحد. والسَّغَب:هو الجوع.

يقال: سَغَبَ الوَلَدُ : جَاعَ مَعَ تَعَبٍ {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ}

ساغب لاغب: مُصاب بالإعياء من شدّة الجوع.

وقال إبراهيم النَّخَعِي: في يومٍ الطعامُ فيه عزيزٌ. وقال قتادة:في يوم يُشتهى فيه الطعام.

وقوله: {يَتِيمًا} أي:أطعم في مثل هذا اليوم يتيما، {ذَا مَقْرَبَةٍ} أي: ذا قرابة منه. قاله ابن عباس، و في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: عن سليمان بن عامر قال:سمعت رسول الله ﷺ يقول: «الصَّدقةُ على المسكينِ صدقةٌ وهي على ذي الرَّحمِ اثنتانِ: صدقةٌ وصِلةٌ ». (وقد رواه الترمذي والنسائي وهذا إسناد صحيح.)

وقوله: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} أي: فقيرا مُدقعًا لاصقا بالتراب، وهو الدقعاء أيضا.

قال ابن عباس: {ذَا مَتْرَبَةٍ} هو المطروح في الطريق الذي لا بيت له، ولا شيء يقيه من التراب - وفي رواية: هو الذي لصق بالدقعاء من الفقر والحاجة، ليس له شيء - وفي رواية عنه: هو البعيد التربة. قال ابن أبي حاتم: يعني الغريب عن وطنه. وقال عكرمة: هو الفقير المديون المحتاج.

وقال سعيد بن جبير:هو الذي لا أحد له. وقال ابن عباس، وسعيد، وقتادة، ومقاتل بن حيان:هو ذو العيال. وكل هذه قريبة المعنى.

وقوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا } أي: ثم هو مع هذه الأوصاف الجميلة الطاهرة مؤمنٌ بقلبه، محتسب ثواب ذلك عند الله عز وجل. كما قال تعالى:  {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } (الإسراء ١٩) فالإيمان بالله مع العمل هو ما يميز العمل المقبول من غيره.

وقال: {مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ } ( النحل٩٧).

وقوله: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } أي:كان من المؤمنين العاملين صالحا، المتواصين بالصبر على أذى الناس، وعلى الرحمة بهم. كما جاء في الحديث: «الراحمون يرحمُهم الرحمنُ، ارحموا من في الأرضِ يرحمُكم من في السماءِ» ( صحيح من تخريج المشكاة)

 في الحديث الآخر: « لا يَرْحَمُ اللَّهُ مَن لا يَرْحَمُ النَّاسَ». (البخاري عن جرير بن عبد الله)

وقال أبو داود:حدثنا [ أبو بكر ] بن أبي شيبة، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نَجِيح، عن ابن عامر عن عبد الله بن عَمْرو - يرويه- قال: « مَن لم يَرْحَمْ صغيرَنا، ويَعْرِفُ حقَّ كبيرِنا؛ فليس منا ».

( صحيح أبي داوود – عن عبد الله بن عمرو)

وقوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} أي:المتصفون بهذه الصفات من أصحاب اليمين.

ثم قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} أي:أصحاب الشمال، {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} أي: مطبقة عليهم، فلا محيد لهم عنها، ولا خروج لهم منها. وقال: مغلقة الأبواب. وقال مجاهد:أصد الباب بلغة قريش: أي أغلقه.

وقال الضحاك: {مُؤْصَدَةٌ } حيط لا باب له.

وقال قتادة: {مُؤْصَدَةٌ } مطبقة فلا ضوء فيها ولا فُرَج، ولا خروج منها آخر الأبد.

وقال أبو عمران الجوني:إذا كان يوم القيامة أمر الله بكل جبار وكل شيطان وكل من كان يَخاف الناس في الدنيا شره، فأوثقوا في الحديد، ثم أمر بهم إلى جهنم، ثم أوصدوها عليهم، أي:أطبقوها - قال:فلا والله لا تستقر أقدامهم على قرار أبدا، ولا والله لا ينظرون فيها إلى أديم سماء أبدا، ولا والله لا تلتقي جفون أعينهم على غمض نوم أبدا،. ولا والله لا يذوقون فيها بارد شراب أبدا. رواه ابن أبي حاتم.

 

آخر تفسير سورة « البلد » ولله الحمد والمنة