Monday 26 November 2018

تفسير وربط للآيات ، وبيان للمتشابهات- سورة ( المعارج)ج1- من أهوال يوم القيامة يود الكافر لو يفتدي من العذاب بأعز ما يملك ببنيه…



  
 





تفسير  وربط للآيات ، وبيان للمتشابهات- سورة ( المعارج)ج1- من أهوال يوم القيامة يود الكافر لو يفتدي من العذاب بأعز ما يملك ببنيه…




سبب التسمية :

سٌميت ‏بهذا ‏الاسم ‏لأنها ‏تَضَمُّن ‏على ‏وصف ‏حالة ‏الملائكة ‏في ‏عروجها ‏إلى ‏السماء، ‏ وتسمى ‏أيضا ‏سورة ( ‏‏سَأَلَ ‏سَائِلٌ).

التعريف بالسورة :
1- مكية .
2-من المفصل .
3- آياتها 44 .
4- ترتيبها السبعون .
5- نزلت بعد الحاقة .
6- بدأت السورة بفعل ماضي " سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ".
7- في الجزء 29 الحزب 57 .

محور مواضيع السورة :

تعالج السورة أصول العقيدة الاسلامية، وقد تناولت الحديث عن القيامة وأهوالها والآخرة ، وما فيها من سعادة وشقاوة، وأحوال المؤمنين والمجرمين في دار الجزاء والخلود، ومحافظة المؤمنين على خصال الخير، وطمع الكفّار في غير مطْمع، وذُلّ الكافرين في يوم القيامة في قوله: {ترْهقُهُمْ ذِلّة}.
والمحور الذي تدور عليه السورة الكريمة هو الحديث عن كفار مكة وإنكارهم للبعث والنشور، واستهزاؤهم بدعوة الرسولﷺ .

سبب نزول السورة :

قال أبو الحسن علي الواحدي في أسباب النزول: نزلت في النضر بن الحارث حين قال :
" ..اللَّـهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ "، فدعا على نفسه وسأل العذاب، فنزل به ما سأل يوم بدر فقتل صبرا ( أي لم يقتل أثناء المعركة) ونزل فيه سأل سائل بعذاب واقع .

تفسير السورة :

قوله تعالى: { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ﴿١﴾ لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ﴿٢﴾ مِّنَ اللَّـهِ ذِي الْمَعَارِجِ ﴿٣﴾ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴿٤﴾ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ﴿٥﴾ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ﴿٦﴾ وَنَرَاهُ قَرِيبًا ﴿٧﴾

 قوله تعالى: { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} ، والسؤال بمعنى الدعاء؛ أي دعا داع بعذاب؛ عن ابن عباس وغيره. يقال : دعا على فلان بالويل، ودعا عليه بالعذاب، وقال: ذلك سؤال الكفّار عن عذاب اللّه وهو واقع بهم، { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ}، أي استعجل سائل بعذاب واقع، كقوله تعالى: {  وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّـهُ وَعْدَهُ } ( الحج 47)
 دعا داع بعذاب واقع يقع لا شك في الآخرة، قال: وهو قولهم: { وَإِذْ قَالُوا اللَّـهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }(الأنفال 32)
ويقال : دعوت زيدا؛ أي التمست إحضاره. أي التمس ملتمس عذابا للكافرين؛ وهو واقع بهم لا محالة يوم القيامة. وعلى هذا فالباء زائدة؛ كقوله تعالى { تَنبُتُ بِالدُّهْنِ } [المؤمنون 20]. وقيل بل معناها عن عذاب واقع، والتفسير الأول { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} أصح وأولى، والله أعلم

وقوله تعالى: { لِّلْكَافِرِينَ } أي على الكافرين، مرصد معد لهم، { لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } أي لا دافع له إذا أراد اللّه كونه، ولهذا قال تعالى: { مِّنَ اللَّـهِ ذِي الْمَعَارِجِ } قال ابن عباس: ذو الدرجات، وعنه: ذو العلو والفواضل والنعم، وقال مجاهد { ذِي الْمَعَارِجِ } معارج السماء، فالمعارج مراتب إنعامه على الخلق.

 في اللغة:

معرج ومعراج ومعارج ومعاريج؛ مثل مفتاح ومفاتيح.
والمعارج الدرجات؛ ومنه { وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } [الزخرف : 33]، ‏ أي سلالم ودرجاً من فضة.

 وقوله تعالى: { َتَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } قال قتادة { َتَعْرُجُ } تصعد، وأما الروح فيحتمل أن يكون المراد به جبريل، ويكون من باب عطف الخاص على العام، فقد سماه الله تعالى بالروح الأمين: { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} ( الشعراء 197-198).
 ويحتمل أن يكون اسم جنس لأرواح بني آدم، فإنها إذا قبضت يصعد بها إلى السماء، كما دل عليه حديث البراء، في قبض الروح الطيبة وفيه: (فيُفتحُ له فيشيِّعه من كلِّ سماءٍ مقرَّبوها إلى السماءِ التي تليها حتَّى يُنتهَى بها إلى السماءِ السابعةِ فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ : اكتبوا كتابَ عبدي في علِّيِّين وأعيدوهُ إلى الأرضِ، فإِنِّي مِنها خَلَقتُهم، وفِيها أُعِيدُهُم ، ومِنها أُخْرِجُهم تارةً أُخْرَى).( صحيح الجامع- الألباني) 
 وقوله تعالى: { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } فيه أقوال، أقتصر على اثنين منها:
أحدها: أن المراد بذلك مسافة ما بين العرش العظيم إلى أسفل السافلين، وهو قرار الأرض السابعة، وذلك مسيرة خمسين ألف سنة، عن ابن عباس في قوله تعالى: { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ }  قال: منتهى أمره من أسفل الأرضين، إلى منتهى أمره من فوق السماوات خمسين ألف سنة "رواه ابن أبي حاتم". ويدل على هذا القول قوله تعالى : { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ ...}، أي عروج الملائكة إلى المكان الذي هو محلهم في وقت كان مقداره على غيرهم لو صعد خمسين ألف سنة.
القول الثاني: أن المراد بذلك مدة بقاء الدنيا منذ خلق اللّه هذا العالم إلى قيام الساعة.
القول الثالث: أن المراد بذلك يوم القيامة، وبه قال الضحّاك وابن زيد وعكرمة، وروي عن ابن عباس في قوله تعالى: { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ }،  قال: هو يوم القيامة جعله اللّه تعالى على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة.
 روى الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } (المعارج: 4)، فقيل : ما أطوَلَ هذا اليومَ ؟ فقال النَّبيُّ : ( والَّذي نفسي بيدِه إنَّه لَيُخفَّفُ على المُؤمِنِ حتَّى يكونَ أخَفَّ عليه مِن صلاةٍ مكتوبةٍ يُصلِّيها في الدُّنيا ) "ابن حبان في صحيحه-وهو صحيح".
أما عن العاصي أو الكافر فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه : (ما مِن صاحبِ ذهَبٍ ولا فِضَّةٍ ، لا يؤدِّي منها حقَّها ، إلَّا إذا كان يومُ القيامةِ ، صُفِّحَتْ له صَفائحُ مِن نارٍ ، فأُحْمِيَ عليها في نارِ جهنَّمَ . فيُكوى بها جَنْبُه وجبينُه وظَهْرُه . كلَّما برَدَتْ أُعيدَتْ له . في يومٍ كان مِقدارُه خمسين ألفَ سنةٍ . حتَّى يُقْضى بينَ العِبادِ . فيرى سبيلَه . إمَّا إلى الجنَّةِ وإمَّا إلى النَّارِ . قيل : يا رسولَ اللهِ ! فالإبِلُ ؟ قال : ولا صاحبُ إبِلٍ لا يؤدِّي منها حقَّها . ومِن حقِّها حَلْبُها يومَ وِردِها . إلَّا إذا كان يومُ القيامةِ . بُطِحَ لها بِقاعٍ قَرْقَرٍ . أوفَرَ ما كانت . لا يُفقِدُ منها فَصيلًا واحدًا . تطَؤُه بأخفافِها وتَعَضُّه بأفواهِها . كلَّما مَرَّ عليه أُولاها ردَّ عليه أُخْراها . في يومٍ كان مِقدارُه خمسين ألَفَ سنةٍ . حتَّى يُقْضى بينَ العِبادِ . فيُرى سبيلَه إمَّا إلى الجنَّةِ وإمَّا إلى النَّار .) "رواه مسلم". قال : فهذا يدل على أنه يوم القيامة.
وقيل : معنى ذكر خمسين ألف سنة تمثيل، وهو تعريف طول مدة القيامة في الموقف، وما يلقى الناس فيه من الشدائد. والعرب تصف أيام الشدة بالطول، وأيام الفرح بالقصر.
وقال إبراهيم التيمي : ما قدر ذلك اليوم على المؤمن إلا قدر ما بين الظهر والعصر. وروي هذا المعنى مرفوعا من حديث معاذ عن النبي أنه قال : حاسبكم الله تعالى بمقدار ما بين الصلاتين ولذلك سمى نفسه سريع الحساب وأسرع الحاسبين). ذكره الماوردي. وقبل : بل يكون الفراغ لنصف يوم، كقوله تعالى { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا } [الفرقان : 24]. ومقيلاً : أي القيلولة وتكون في منتصف النهار، وهذا على قدر فهم الخلائق، وإلا فلا يشغله شأن عن شأن. وكما يرزقهم في ساعة كذا يحاسبهم في لحظة، قال الله تعالى: { مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ۗ } [لقمان : 28].

وللجمع بين هذة الآية وبين قوله { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} في سورة السجدة:

قال أما قوله: { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ }، من منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق السماوات خمسون ألف سنة، وهو طول يوم القيامة على الكافرين.
 وقوله تعالى في آلم تنزيل :{ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (السجدة  5)، يعني بذلك نزول الأمر من سماء الدنيا إلى الأرض، ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد فذلك مقدار ألف سنة لأن ما بين السماء الدنيا إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام.( قالها القرطبي في تفسيره)

وقوله تعالى: { فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا } أي اصبر يا محمد على تكذيب قومك لك، واستعجالهم العذاب استبعاداً لوقوعه كقوله تعالى: {  يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ ۗ }( الشورى 18)، ولهذا قال: { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا } أي وقوع العذاب، وقيام الساعة يراه الكفرة بعيد الوقوع ، والبعيد هنا بمعنى مستحيل الوقوع ، { وَنَرَاهُ قَرِيبًا}  أي المؤمنون يعتقدون كونه قريباً وإن كان له أمد لا يعلمه إلا اللّه عزَّ وجلَّ، ولكن كل ما هو آت فهو قريب وواقع لا محالة.

يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ﴿٨﴾ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ﴿٩﴾ وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ﴿١٠﴾

يخبرنا سبحانه وتعالى عن أحول يوم القيامة: { يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ } العامل في { يوم} { واقع} ؛ تقديره يقع بهم العذاب يوم: { تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ }، والمهل: دردي الزيت وعكره؛ في قول ابن عباس وغيره. وقال ابن مسعود : ما أذيب من الرصاص والنحاس والفضة، وقال مجاهد { كَالْمُهْلِ }كقيح من دم وصديد.
 { وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ } أي كالصوف المصبوغ، ولا يقال للصوف عهن إلا أن يكون مصبوغا. وقال الحسن { وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ } وهو الصوف الأحمر، وهو أضعف الصوف،  واحده عهنة. وقيل : العهن الصوف ذو الألوان؛ فشبه الجبال به في تلونها ألوانا. والمعنى : أنها تلين بعد الشدة، وتتفرق بعد الاجتماع.

ما ورد في القرآن من تغيير الجبال يوم القيامة :

- أول أحوالها أن تسير الجبال: { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} (الكهف47) ، وقوله تعالى: { يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} ( الطور 9-10)، وقوله تعالى: { وَسُيّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَاباً} ( النبأ 20 )، تذهب من مكانها وتزول،  فيحتمل أنه تعالى يسيرها إلى الموضع الذي يريده ولم يبين ذلك الموضع لخلقه ،والأولى أن المراد أنه تعالى يسيرها إلى العدم وهذا ما يظهر من آية سورة النبأ: { وَسُيّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَاباً}.
- ثم  تتغير الجبال تصير رملا مهيلا، كما قال تعالى: { يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا } ( المزمل 13 )، قال تعالى: { وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً } ( الواقعة 5).
 -ثم عهنا منفوشا، { وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} ( القارعة 5)
 -ثم هباء منبثا.{ فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنبَثًّا} (الواقعة: 6)

ثم إنَّ الناس عند ذلك ما يكون حالهم ؟ :{ وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا } أي  لا يسأل أنسان غيره عن شأنه، لشغل كل إنسان بنفسه، قاله قتادة. كما قال تعالى { لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [عبس : 37]،وقيل : لا يسأل حميم عن حميم، فحذف الجار ووصل الفعل.
قراءات:
قراءة العامة { يَسْأَلُ } بفتح الياء. وقرأ شيبة والبزي عن عاصم { ولا يُسأل} بالضم على ما لم يُسم فاعله، أي لا يُسأل حميمٌ عن حميمِه، ولا ذو قرابة عن قرابته، بل كل إنسان يسأل عن عمله، ونظيره هذا قوله تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } [المدثر : 38].

يُبَصَّرُونَهُمْ ۚ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ﴿١١﴾ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ﴿١٢﴾ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ﴿١٣﴾ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ ﴿١٤﴾

قوله تعالى { يُبَصَّرُونَهُمْ ۚ } أي يرونهم. وليس في القيامة مخلوق إلا وهو نصب عين صاحبه من الجن والإنس. فيبصر الرجل أباه وأخاه وقرابته وعشيرته ولا يسأله ولا يكلمه؛ لاشتغالهم بأنفسهم، ولذلك لم تأت بصيغة ( يبصرونهم) فإن كل منهم منشغل بنفسه ، ولا يريد أن يرى غيره، أو أنه مخزي من أن يراه قريبه أو صاحبه على ما هو عليه، فكل يريد أن يفر من أقاربه، {فيُبَصِرهم }أي ربهم بعضهم بعضا، ليزيد خوفه أن يفضح أمامهم، وفي بعض الأخبار : أن أهل القيامة يفرون من المعارف مخافة المظالم، وقال ابن عباس أيضا { يُبَصَّرُونَهُمْ ۚ }يبصر بعضهم بعضا فيتعارفون ثم يفر بعضهم من بعض. فالضمير في { يُبَصَّرُونَهُمْ ۚ } على هذا للكفار، والميم للأقرباء، أي يبصِّر الله الكفار المؤمنين، فيفرون منهم خوفا أن يطالبوهم بالمظالم التي لهم عليهم.
قال ابن كثير: { يبصّرونهم} أي لا يسأل القريب قريبه عن حاله، وهو يراه في أسوأ الأحوال فتشغله نفسه عن غيره. يؤيده قوله اللّه تعالى: { لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } ، وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا ۚ }( لقمان 33) ، فيومها تكون: { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} .
  وقال مجاهد : المعنى يُبَصِّر الله المؤمنين الكفار في يوم القيامة؛ فالضمير في {يُبَصَّرُونَهُمْ}، للمؤمنين، والهاء والميم للكفار.
ومعنى ثالث: قاله ابن زيد : المعنى يُبَصِّر الله الكفار في النار الذين أضلوهم في الدنيا؛ فالضمير المستتر في { يُبَصَّرُونَهُمْ ۚ } عائد للتابعين، والهاء والميم للمتبوعين.
وقيل : إنه يبصر المظلوم ظالمه والمقتول قاتله.
وقيل { يُبَصَّرُونَهُمْ ۚ }يرجع إلى الملائكة؛ أي يعرفون أحوال الناس فيسوقون كل فريق إلى ما يليق بهم.
وتم الكلام عند قوله { يُبَصَّرُونَهُمْ ۚ}.فالوقف عليها تام.
 وكل هذه الأقوال جائزة يوم القيامة، والله أعلم.
فعندها وفي هذا الموقف: { يَوَدُّ الْمُجْرِمُ } أي يتمنى الكافر. { لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ } يعني من عذاب جهنم بأعز من كان له في الدنيا من أقاربه فلا يقدر،  ثم ذكرهم فقال { وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ } زوجته ، وأخيه، { وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ } أي عشيرته التي تنصره وتضمه إليها وتؤمنه من خوف إن كان به.

الفرق بين القبيلة والفصيلة:

 وقال أبو عبيدة : الفصيلة دون القبيلة. وقال ثعلب : هم آباؤه الأدنون ، لا يدخل فيها الآباء الذين علو،  وقال المبرد : الفصيلة القطعة من أعضاء الجسد،  وسميت عترة الرجل فصيلته تشبيها بالبعض منه.
وهنا مسألة فقهية، وهي : إذا حبس المتوفى من تركته على فصيلته،  أو أوصى لها ؛ فمن ادعى العموم حمله على العشيرة كلها، ومن ادعى الخصوص حمله على الآباء؛ الأدنى فالأدنى. والأول أكثر في النطق. والله أعلم.

ومعنى { تُؤْوِيهِ } تضمه وتؤمنه من خوف إن كان به. { وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } ، أي ويود لو فدي بهم لافتدى { ثُمَّ يُنجِيهِ } أي يخلصه ذلك الفداء. فلا بد من هذا الإضمار، كقوله { وإنه لفسق} [الأنعام  121] أي:  وإن أكله لفسق. وقيل { َيوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي } يقتضي جوابا بالفاء؛ كقوله { وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (القلم  9)، والجواب في هذه الآية { ثُمَّ يُنجِيهِ } لأنها من حروف العطف؛ أي يود المجرم لو يفتدى فينجيه الافتداء.

متشابه ، ولمسات بيانية في ترتيب ذكر القرابات في سورتي: (عبس ) و ( المعارج )للدكتور: فاضل السامرائي:

في سورة المعارج يقول تعالى: (يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ *وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ)
قال د. السامرائي: فالمشهد في المعارج مشهد فِداء وذَكَر القرابات: في الفداء يفتدي المرء بالأقرب فالأقرب عاطفة، ونسبًا، وحسيًا، وأقرب القرابة الأبناء، وقد خلق الله تعالى الإنسان هلوعاً (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا }(المعارج 19-20) إذا رأى مشهد العذاب أدركه الهلع،  فبدأ بالأقرب ، وهذا يوحي أن العذاب فوق ما يتصور الإنسان فافتدى بأعزّ ما يملك وهم أبناؤه.
 ولم يذكر في الآية الافتداء بالأم أو الأب،  لأن الله تعالى أمر بالإحسان إليهما ودلّ على عظيم مكانة الأبوين،  فلا يمكن أن تفتدي بما يُتقرّب إليه فهل يُعقل أن يفتدي إلى الله تعالى بأبويه ، لو فعل ما تقبل منه، فليس هذا هو الإحسان إليهما الذي أمر الله به، أن يضعهما مكانه في جهنم؟ فإن فعل فلا يقبل منه، قد يفرّ منهما لكن لا يفتدي بهما أبدا.
اما آية سورة ( عبس) (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ *وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ *لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ }( عبس 34-37)، فالآيات في الفرار يوم القيامة والمشهد مشهد فِرار وأن يخلو الواحد إلى نفسه،  وعادة الفِرار يبدأ من الأبعد إلى الأقرب ( حسيًا ، أي مكاناً) فيكون الأقرب حسياً آخر من يفرّ منه الإنسان،  وأبعد المذكورين في الآية مكاناً وليس مكانة: هو الأخ  لغالب أنه لا يسكن معه، وأحياناً لا يرى الإنسان أخاه أشهراً فبدأ بالفرار منه .
 ثم الأم والأب، وقدّم الأم على الأب في الفرار لأن الأم لا تستطيع أن تدفع عنه أو تنصره ، لكن الأب ينصره، وقد قال أعرابي عندما بُشّر بمولودة قال "والله ما هي بنعم الولد نصرُها بُكاء وبِرّها سرقة" إذا أرادت أن تنصر تبكي وإن أرادت أن تبِرّ تسرق من زوجها لتعطي.
 ثم صاحبته، وسماها الله تعالى في سورة النساء :{ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ} ( النساء 34)أي أنها قريبة منه مكاناً،  ثم أخّر الأبناء لأنهم ألصق شيء بالإنسان. والله أعلم.

وأقول: أنه قرَّب الأبناء بالفداء في سورة المعارج لأنه يملكهم وما عندهم من المال، فقد جاء في الحديث عن عبد الله بن عمرو : جاءَ رجلٌ إلى النَّبيِّ فقالَ إنَّ أبي اجتاحَ مالي فقالَ :"أنتَ ومالُكَ لأبيكَ" ، وقالَ رسولُ اللَّهِ :" إنَّ أولادَكم من أطيبِ كسبِكُم فَكلوا من أموالِهم."( ابن ماجة ، وصححه الألباني في صحيح بن ماجة)، فاعتقد أنه يمكنه أن يفتدي بهم، ثم أن الرجل يعتقد أنه يملك زوجته ايضا، فتأتي بالمرتبة الثانية في الفداء،  ثم يذكر أخيه لما يرى له عليه من حق، ثم القبيلة، والله أعلم.
وقال بعضهم : لتيسير الحفظ، والتفريق بين المذكورين في السورتين، المعارج ، وعبس:
الفداء( المعارج)  يكون بالأغلى (البنين )، أما الفرار ( في عبس ) يكون من الأبعد الأخ.


اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل ، وتعود بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل