Tuesday 13 February 2024

الشيرة النبوية الشريفة رسول الله إلى الرفيق الأعلى ح2


رسول الله ﷺإلى

الرفيق الأعلى

 

عهده ووصيته :

قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَقَالَ النبيُّبَعْدَ ما دَخَلَ بَيْتَهَا، واشْتَدَّ به وجَعُهُ:" هَرِيقُوا عَلَيَّ مِن سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أوْكِيَتُهُنَّ، لَعَلِّي أعْهَدُ إلى النَّاسِ" قَالَتْ: فأجْلَسْنَاهُ في مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ زَوْجِ النبيِّ ثُمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ عليه مِن تِلكَ القِرَبِ، حتَّى جَعَلَ يُشِيرُ إلَيْنَا: أنْ قدْ فَعَلْتُنَّ قَالَتْ: وخَرَجَ إلى النَّاسِ، فَصَلَّى لهمْ وخَطَبَهُمْ." ( البخاري)

وعن جندب بن عبد الله قال :" سَمِعْتُ النبيَّ قَبْلَ أنْ يَمُوتَ بخَمْسٍ-أي أيام-، وهو يقولُ: "إنِّي أبْرَأُ إلى اللهِ أنْ يَكونَ لي مِنكُم خَلِيلٌ، فإنَّ اللهِ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا، كما اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، ولو كُنْتُ مُتَّخِذًا مِن أُمَّتي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، ألَا وإنَّ مَن كانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أنْبِيَائِهِمْ وصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، ألَا فلا تَتَّخِذُوا القُبُورَ مَسَاجِدَ، إنِّي أنْهَاكُمْ عن ذلكَ. وقال: "لَعْنةُ اللهِ على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وقال:" لا تتخذوا قبري وثناً يعبد". (رواه مسلم)

وأوصى بالأنصار خيراً، ثم قال: " إنَّ عبدًا خيَّرَهُ اللَّهُ بينَ أن يُؤْتيَهُ من زَهْرةِ الدُّنيا ما شاءَ وبينَ ما عندَهُ، فاختارَ ما عندَهُ " فقالَ أبو بَكْرٍ: فدَيناكَ يا رسولَ اللَّهِ بآبائنا وأمَّهاتِنا. قالَ-راوى الحديث ابو سعيد الخدري: فعَجبنا، فقالَ النَّاسُ: انظُروا إلى هذا الشَّيخِ يخبرُ رسولُ اللَّهِ عن عبدٍ خيَّرَهُ اللَّهُ بينَ أن يُؤْتيَهُ من زَهْرةِ الدُّنيا ما شاءَ وبينَ ما عندَ اللَّهِ وَهوَ يقولُ: فَديناكَ بآبائنا وأمَّهاتنا قالَ: فَكانَ رسولُ اللَّهِ هوَ المخيَّرُ، وَكانَ أبو بَكْرٍ هوَ أعلَمَنا بِهِ، فقالَ النَّبيُّ: إنَّ مِن أمنِّ النَّاسِ عليَّ في صُحبتِهِ ومالِهِ أبو بَكْرٍ، ولو كُنتُ متَّخذًا خليلًا لاتَّخذتُ أبا بَكْرٍ خليلًا ولَكِن أخوَّةُ الإسلامِ، لا تَبقينَّ في المسجدِ خَوخةٌ إلَّا خَوخةُ أبي بَكْرٍ" (البخاري)

وكان ذلك يوم الأربعاء، فلما كان يوم الخميس وقد أشتد به الوجع، قال " لَمَّا حُضِرَ رَسولُ اللَّهِوفي البَيْتِ رِجَالٌ، فيهم عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، قَالَ النبيُّ : هَلُمَّ أكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لا تَضِلُّوا بَعْدَهُ فَقَالَ عُمَرُ: إنَّ النبيَّ قدْ غَلَبَ عليه الوَجَعُ، وعِنْدَكُمُ القُرْآنُ، حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ. فَاخْتَلَفَ أهْلُ البَيْتِ فَاخْتَصَمُوا، منهمْ مَن يقولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمُ النبيُّ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، ومِنْهُمْ مَن يقولُ ما قَالَ عُمَرُ، فَلَمَّا أكْثَرُوا اللَّغْوَ والِاخْتِلَافَ عِنْدَ النبيِّ ، قَالَ رَسولُ اللَّهِ: قُومُوا، قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَكانَ ابنُ عَبَّاسٍ يقولُ: إنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ ما حَالَ بيْنَ رَسولِ اللَّهِ وبيْنَ أنْ يَكْتُبَ لهمْ ذلكَ الكِتَابَ، مِنَ اخْتِلَافِهِمْ ولَغَطِهِمْ."    

وأوصى في ذلك اليوم بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، وبإيجاز الوفود بنحو ما كان يجيزهم، وأكد لهم أمر الصلاة، وما ملكت أيمانهم، وقال :" تركتُ فيكم أمرينِ؛ لن تَضلُّوا ما إن تمسَّكتُم بهما : كتابَ اللَّهِ وسُنَّتي، ولن يتفَرَّقا حتَّى يرِدا عليَّ الحوضَ "(عن أبي هريرة- صحيح)

استخلاف أبي بكر رضي الله عنه على الصلاة :  

وكان النبي ﷺ مع شدة مرضه يصلي بالناس، فلما كان ذلك اليوم يوم الخميس وحان وقت صلاة العشاء اغتسل ﷺ في مخضب ليتخفف، ثم ذهب ليقوم فأغمي عليه، ثم أفاق فاغتسل ثانياً، ثم ذهب ليقوم فأغمي عليه، ثم أفاق فاغتسل ثالثاً فلما ذهب ليقوم أغمي عليه، فأرسل إلى أبي بكر أن يصلي بالناس، فصلى أبو بكر تلك الأيام، وجملة الصلوات التي صلاها أبو بكر بالناس سبع عشرة صلاة .

(ثُمَّ إنَّ رَسولَ اللهِ وجَدَ مِن نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ بيْنَ رَجُلَيْنِ أحَدُهُما العَبَّاسُ، لِصَلَاةِ الظُّهْرِ وأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بالنَّاسِ فَلَمَّا رَآهُ أبو بَكْرٍ ذَهَبَ لِيَتَأَخَّرَ فأوْمَأَ إلَيْهِ النبيُّ أنْ لا يَتَأَخَّرَ وقالَ لهمَا: أجْلِسَانِي إلى جَنْبِهِ فأجْلَسَاهُ إلى جَنْبِ أبِي بَكْرٍ، وكانَ أبو بَكْرٍ يُصَلِّي وهو قَائِمٌ بصَلَاةِ النبيِّوالنَّاسُ يُصَلُّونَ بصَلَاةِ أبِي بَكْرٍ)( صحيح مسلم)

ويوم السبت أو الأحد وجد رسول الله ﷺ في نفسه خفة فخرج بين رجلين لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، فأجلساه إلى يساره، فكان أبو بكر يقتدي بصلاة رسول الله ﷺ والناس يقتدون بأبي بكر، يسمعهم التكبير .

تصدقه بما لديه:  

ويوم الأحد أعتق النبي ﷺ غلمانه، وتصدق بسبعة دنانير كانت عنده، ووهب المسلمين سلاحه، وجاء الليل فأرسلت عائشة رضي الله عنها  بمصباحها إلى امرأة وقالت: أقطري لنا في مصباحنا من عكتك السمن، وكانت درعه ﷺ مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من الشعير .

آخر يومه في الدنيا :

ولما أصبح يوم الاثنين – وكان يوم نوبة عائشة – روى أنس بن مالك قال: ( أنَّ المُسْلِمِينَ بيْنَا هُمْ في صَلَاةِ الفَجْرِ مِن يَومِ الِاثْنَيْنِ، وأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي لهمْ، لَمْ يَفْجَأْهُمْ إلَّا رَسولُ اللَّهِ قدْ كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، فَنَظَرَ إليهِم وهُمْ في صُفُوفِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ، فَنَكَصَ أبو بَكْرٍ علَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ، وظَنَّ أنَّ رَسولَ اللَّهِ يُرِيدُ أنْ يَخْرُجَ إلى الصَّلَاةِ، فَقَالَ أنَسٌ: وهَمَّ المُسْلِمُونَ أنْ يَفْتَتِنُوا في صَلَاتِهِمْ، فَرَحًا برَسولِ اللَّهِ ، فأشَارَ إليهِم بيَدِهِ رَسولُ اللَّهِ : أنْ أتِمُّوا صَلَاتَكُمْ ثُمَّ دَخَلَ الحُجْرَةَ وأَرْخَى السِّتْرَ.) (البخاري)

وفي هذا اليوم – أو في هذا الأسبوع – أنَّ رَسُولَ اللهِ دَعَا فَاطِمَةَ ابْنَتَهُ فَسَارَّهَا فَبَكَتْ، ثُمَّ سَارَّهَا فَضَحِكَتْ فَقالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلتُ لِفَاطِمَةَ: ما هذا الذي سَارَّكِ به رَسُولُ اللهِ ، فَبَكَيْتِ، ثُمَّ سَارَّكِ فَضَحِكْتِ؟ قالَتْ: سَارَّنِي فأخْبَرَنِي بمَوْتِهِ، فَبَكَيْتُ، ثُمَّ سَارَّنِي، فأخْبَرَنِي أَنِّي أَوَّلُ مَن يَتْبَعُهُ مِن أَهْلِهِ فَضَحِكْتُ.(مسلم)

وبشرها أيضاً أنها سيدة نساء العالمين.

ورأت فاطمة ما برسول الله ﷺ من شدة الكرب، فقالت: " وا كرب أباه" ، فقال :" ليسَ علَى أبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ اليَومِ"، ودعا الحسن والحسين فقبلهما، ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن .

وطفق الوجع يشتد ويزيد، وانتقض السم الذي أكله بخيبر، فأخذ يحس بشدة ألمه، وكان قد طرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم كشفها عن وجهه، فقال وكان آخِرُ ما تَكلَّمَ به أنْ قال : "قاتَلَ اللهُ اليهودَ و النَّصارَى اتَّخذُوا قُبورَ أنْبيائِهِمْ مَساجِدَ -يحذر ما صنعوا–"لا يَبْقَيَنِّ دِينانِ بِأرْضِ العَرَبِ"، وكان هذا من آخر ما تكلم وأوصى به الناس، وكرر مراراً : "الصَّلاةَ الصَّلاةَ وما ملكَتْ أيمانُكم".

الاحتضار والموت :  

وبدأ الاحتضار فأسندته عائشة رضي الله عنها إلى صدرها بين سحرها ونحرها .

وَالسَّحْر : هُوَ الصَّدْر، وَهُوَ فِي الْأَصْل الرِّئَة. وَالنَّحْر: الْمُرَاد بِهِ مَوْضِع النَّحْر-أسفل الرقبة-"

وجاء أخوها عبدالرحمن بسواك من جريدة رطبة، فأخذ رسول اللهﷺ ينظر إلى السواك ، ففهمت عائشة أنه يريدة ، فسألته فأشار برأسه: أن نعم، فأخذته ومضغته حتى لينته، فاستاك به رسول الله ﷺكأحسن ما كان يستاك، وبين يديه ركوة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء، ويسمح به وجهه، ويقول: لا إله إلا الله، إن للموت سكرات.

ثم رفع يديه أو إصبعه وشخص بصره نحو السقف، وتحركت شفتاه، فأصغت إليه عائشة فسمعته يقول:"مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي وارْحَمْنِي، وأَلْحِقْنِي بالرَّفِيقِ، اللهم الرفيق الأعلى".

وكرر الكلمة الأخيرة ثلاثاً، وفاضت روحه، وعنَ عائِشةَ رضي الله عنها أنَّها سَمِعَتِ النبيَّ وأَصْغَتْ إلَيْهِ قَبْلَ أنْ يَمُوتَ، وهو مُسْنِدٌ إلَيَّ ظَهْرَهُ يقولُ:"اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي وارْحَمْنِي، وأَلْحِقْنِي بالرَّفِيقِ الأَعْلى". (البخا ري)

ومالت يده، ولحق بالرفيق الأعلى، وذلك يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة 11هـ حين اشتد الضحى، وقد تم له ثلاث وستون سنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.