Sunday 31 January 2021

السيرة النبوية الشريف في الطائف وليلة الجن

   


سيرة النبي المختار –تراكم الأحزان عليه بعد فقده لعمه، وزوجته:

 

واشتد البلاء على رسول الله من قومه بعد موت عمه أبي طالب وزوجة خديجة رضي الله عنها  فقد تجرءوا عليه ، وكاشفوه بالأذى، وطفق يتأثر بشدة بكل ما يحدث، ولو كان أصغر وأهون مما سبق . حتى إن سفيها من سفهاء قريش نثر التراب على رأسه، فجعلت إحدى بناته تغسله وتبكي ، وهو يقول لها : لا تبكي يا بُنيَّةُ فإنَّ اللهَ مانعٌ أباك ، ويقول بين ذلك : ما نالت قريش مني شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب .

 

زواجه بسودة ثم بعائشة رضي الله عنهما :

 

وفي شوال – بعد الشهر الذي توفيت فيه خديجة – تزوج رسول الله   بسودة بنت زمعة رضي الله عنها  وكانت تحت ابن عمها : السكران بن عمرو رضي الله عنه وكانا من السابقين الأولين إلى الإسلام . وقد هاجرا إلى الحبشة ، ثم رجعا إلى مكة ، فتوفي بها السكران بن عمرو ، فلما حلت تزوجها النبي وبعد أعوام وهبت نوبتها لعائشة .

أما زواجه بعائشة  رضي الله عنها  فكان أيضاً في شهر شوال ولكن بعد سودة بسنة ، تزوجها بمكة وهي بنت ست سنين، ودخل بها في المدينة في شهر شوال في سنة الأولى من الهجرة وهي بنت تسع سنين، وكانت أحب أزواجه إليه، وأفقه نساء الأمة . لها مناقب جمة وفضائل وافرة .

سيرة السيدة سودة

 

وهي بعدُ: أمُّ المؤمنين سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس، وأمها الشموس بنت قيس بن عمرو، بنت أخي سلمى بنت عمرو بن زيد أمِّ عبد المطلب، تزوَّجها قبل رسول الله ابن عمٍّ لها هو: السكران بن عمرو ، أخو سهل وسهيل وسليط وحاطب، ولكلهم صحبة، وهاجر بها السكران إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، ثم رجع بها إلى مكة فمات عنها

 

فأمست السيدة سودة -رضي الله عنها- بين أهل زوجها المشركين وحيدة لا عائل لها ولا معين؛ حيث أبوها ما زال على كفره وضلاله، ولم يزل أخوها عبد الله بن زمعة على دين آبائه، وهذا هو حالها قبل زواج الرسول منها.

 

وتعدُّ السيدة سودة أوَّل امرأة تزوَّجها الرسول ﷺ بعد خديجة، وكانت قد بلغت من العمر حينئذٍ الخامسة والخمسين، بينما كان رسول الله في الخمسين من عمره، ولما سمع الناس في مكة بأمر هذا الزواج عجبوا؛ لأن السيدة سودة لم تكن بذات جمال ولا حسب، ولا مطمع فيها للرجال، وقد أيقنوا أنه إنما ضمَّها رفقًا بحالها، وشفقة عليها، وحفظًا لإسلامها، وجبرًا لخاطرها بعد وفاة زوجها إثر عودتهما من الحبشة، وكأنهم علموا أنه زواج تمَّ لأسباب إنسانيَّة.

قد جمعت ملامح عظيمة وخصالاً طيبة، كان منها أنها كانت معطاءة تُكْثِر من الصدقة، حتى إنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث إليها بغِرارة  من دراهم، فقالت: ما هذه؟ قالوا: دراهم. قالت: في غرارة مثل التمر؟ ففرَّقتها بين المساكين.

 

وقد وَهَبَتْ رضي الله عنها يومها لعائشة؛ ففي صحيح مسلم أنها: "لَمَّا كَبِرَتْ جَعَلَتْ يَوْمَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِعَائِشَةَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ جَعَلْتُ يَوْمِي مِنْكَ لِعَائِشَةَ. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَيْنِ: يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ"

وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: "مَا رَأَيْتُ امْرَأَةً أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ فِي مِسْلاَخِهَا- في جلدها- مِنْ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ مِنِ امْرَأَةٍ فِيهَا حِدَّةٌ".

وقد ضمَّتْ إلى تلك الصفات لطافةً في المعشر، ودعابةً في الرُّوح؛ مما جعلها تنجح في إذكاء السعادة والبهجة في قلب النبي ، فقد روى ابن سعد في طبقاته عن إبراهيم، قال: قالت سودة لرسول الله : صليت خلفك البارحة فركعت بي حتى أمسكتُ بأنفي مخافة أن يقطر الدم. قال: فضحك. وكانت تُضحكه الأحيان بالشيء

 

السيدة عائشة رضي الله عنها

ولدت السيدة عائشة بعد أربع سنوات من البعثة ، فنشأت في بيت مؤمنٍ بالله تعالى، يحمل همّ الدّعوة.

زواج الرّسول ﷺمن  السيدة عائشة:

 تزوّج النبيّﷺ من عائشة رضي الله عنها قبل الهجرة بسنتين ، وهي ابنة ست سنين، ودخل بها في المدينة وهي ابنة تسع سنين، ولقد كان زواجها بأمرٍ من الله تعالى؛ حيث رُوي في صحيح البخاري عن النبيّﷺ قوله: "أُرِيتُكِ قَبْلَ أنْ أتَزَوَّجَكِ مَرَّتَيْنِ، رَأَيْتُ المَلَكَ يَحْمِلُكِ في سَرَقَةٍ مِن حَرِيرٍ، فَقُلتُ له: اكْشِفْ، فَكَشَفَ فإذا هي أنْتِ، فَقُلتُ: إنْ يَكُنْ هذا مِن عِندِ اللَّهِ يُمْضِهِ، ثُمَّ أُرِيتُكِ يَحْمِلُكِ في سَرَقَةٍ مِن حَرِيرٍ، فَقُلتُ: اكْشِفْ، فَكَشَفَ، فإذا هي أنْتِ، فَقُلتُ: إنْ يَكُ هذا مِن عِندِ اللَّهِ يُمْضِهِ" ،  وفي الحديث الصّحيح أنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قد رأى جبريل -عليه السلام- قد أتاه في هيئة عائشة رضي الله عنها، وأخبره أنّها زوجته في الدّنيا والآخرة، فتزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد كانت عائشة بكراً ولم يتزوّج بكراً غيرها، وقد كانت تفتخر بذلك.

ولعل أن فترة الخطوبة قد طالت الى مايقرب من العامين لصغر سن السيدة عائشة..

 

وقد كان النبى ﷺ يوصي أم رومان  أم السيدة عائشة قائلاً: “يا أم رومان، استوصي بعائشة خيرًا واحفظيني فيها”.

وقد أحبت السيدة عائشة رسول الله ﷺ وأسعدتها زيارته لها حتى أنها كانت تتمنى أن يزرهم ليلا ونهارا  “ألا يخطئ رسول الله أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار إما بكرة وإما عشية”.

 

حتى أن الرسول ﷺ حينما هاجر مع أبى بكر الى المدينة وكانوا قد تركوا أهلهم، فبمجرد استقرارهم بالمدينة أرسلوا من يأتى بأهلهم ليعيشوا معهم فيها.

و في شوال سنة اثنتين للهجرة فى المدينة المنورة اكتملت فرحة المسلمين لانتصارهم في غزوة بدر الكبرى، وزادهم فرحا زواج رسول اللهﷺ بعائشة.

انتقلت أمنا عائشة رضى الله عنها إلى بيت النبوة في شهر شوال. حتى أن  أم المؤمنين أحبت هذا الشهر، وأحبت للنساء الزواج فى مثل تلك الأيام، فهى بالنسبة إليها أيام الخير والبركات.

 وقد عائشة بنت أبي بكر: بلغت السيدة عائشة -رضي الله عنها- مرتبةً رفيعةً في العلم، فكانت من أفقه نساء المسلمين وأكثرهنَّ علماً، فقد كانت من المُكثرين لرواية الحديث، وروى عنها كذلك كثير من كبار التابعين.

 جهاد عائشة رضي الله عنها: شاركت السيدة عائشة في بعض الغزوات كغيرها من أمّهات المؤمنين والصحابيّات رضي الله عنهنَّ، ففي غزوة أُحُد شاركت عائشة -رضي الله عنها- في ملء قِرَب الماء لجنود جيش المسلمين

 وقد حدَّث أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن ذلك، فقال: (ولقد رأيتُ عائشةَ بنتَ أبي بكرٍ وأمَّ سُلَيمٍ، وإنّهما لمُشَمِّرَتانِ، أرَى خَدَمَ سوقِهما، تُنْقِزَانِ القِرَبَ على مُتُونِهما، تُفرِغانِه في أفواهِ القومِ، ثمّ تَرجِعانِ فتَملآنِها، ثمّ تَجيئانِ فتُفرِغانِه في أفواهِ القومِ)
الرسول في الطائف

وفي هذه الظروف قصد رسول الله الطائف رجاء أن يستجيبوا لدعوته ، أو وينصروه ، فخرج إليها ماشياً على قدميه ، ومعه مولاه زيد بن حارثة ، وكان كلما مر على قبيلة في الطريق دعاهم إلى الإسلام حتى بلغ الطائف . ونزل على ثلاثة إخوة من رؤساء ثقيف ، فدعاهم إلى الإسلام وإلى نصرته على تبليغه ، فلم يستجيبوا له ، بل ردوا عليه أسوء رد ، فتركهم وقصد الآخرين ، ودعاهم إلى قبول الإسلام ونصرته ، ولم يزل ينتقل من رئيس إلى رئيس ، فلم يترك أحداً من أشرافهم إلا وكلمه ، وقضى في ذلك عشرة أيام ، لكن لم يجب له أحد ، بل قالوا له : اخرج من بلدنا ، وأغروا به صبيانهم وسفهاءهم وعبيدهم ، فلما تهيأ وخرج وقفوا له في صفين ، وأخذوا يسبونه ويشتمونه ويرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبيه وقدميه وحتى اختضب نعلاه بالدم . وكان زيد بن الحارثة رضي الله عنه يقيه بنفسه ، ويدافع عنه ، فأصابه شجاج في رأسه ، واستمرت هذه السفاهة حتى وصل رسول الله إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة على بعد ثلاثة أميال من الطائف فدخل فيه ، فلما دخل فيه انصرفوا عنه .

وجلس النبي في الحائط تحت ظل حبلة من عنب ، متعمداً إلى جدار ، وقد أثر في نفسه ما لاقاه ، فدعا بالدعاء المشهور :  

" اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس . يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربي ، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني . أم إلى عدو ملكته أمري . إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك . أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك " .

ورآه ابنا ربيعة في هذا الحال فأخذتهما رقة . وأرسلا إليه بقطف من عنب مع مولى لهم نصراني اسمه عداس ، فلما مد النبي يده ليتناوله قال : بسم الله " ثم أكل . فقال عداس ، هذا الكلام ما يقوله أهل  هذه البلاد

  فقال له النبي :" من أي البلاد أنت ؟ وما دينك ؟ "

  فقال : نصراني ، من أهل نينوي .

  فقال : " من قرية الرجل الصالح يونس بن متى ؟ "

  فقال : وما يدريك ما يونس بن متى ؟

  فقال النبي:" ذاك أخي كان نبياً وأنا نبي ". وقرأ عليه قصة يونس  عليه السلام  من القرآن ، فأسلم عداس على ما يقال .

ثم خرج رسول الله من الحائط ، وتقدم في طريقه إلى مكة ، وهو كئيب حزين مهموم ، حتى إذا بلغ قرن المنازل ، أظلته سحابة فيها جبريل ومعه ملك الجبال ، فرفع رأسه ، فناداه جبريل ، قال : أن الله بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت . ثم سلم ملك الجبال وقال : يا محمد ! ذلك ، فما شئت ، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين – وهما جبلا مكة : أبو قبيس والذي يقابله – فقال: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً .

وأفاق رسول الله من همه بمجئ هذا النصر ، وتقدم في طريقه إلى مكة حتى نزل بنخلة ، وأقام بها أياماً ، وأثناء إقامته بها صرف الله إليه نفراً من الجن يستمعون القرآن ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين ، وقد آمنوا به ، ولم يشعر بهم رسول الله حتى نزل بذلك القرآن : آيات من سورة الأحقاف ، وآيات من سورة الجن .

وبعد أيام خرج رسول الله من نخلة يريد مكة ، وهو يرجو من الله الفرج والمخرج ، ويخشى من قريش الشر والبطش ، فأحب أن يحتاط لنفسه>

 فلما دنا من مكة مكث بحراء ، وبعث رجلاً إلى بن شريق ليجيره ، فأعتذر بأنه حليف ، والحليف لا يجير ، فأرسل إلى سهيل بن عمرو ، فاعتذر بأنه من بني عامر بن لؤي، وهم لا يجيرون على بني كعب بن لؤي ، فأرسل إلى المطعم بن عدي ، وهو من بني نوفل بن عبد مناف أخي هاشم بنم عبد مناف جد النبي وعبد مناف أعز بطن في قريش ، فقال المطعم: نعم. وتسلح هو وبنوه ، ثم أرسل إلى رسول الله فجاء ودخل المسجد الحرام ، وطاف بالبيت ، وصلى ركعتين ، ثم انصرف إلى بيته ، والمطعم بن عدي وأولاده محدقون برسول الله بالسلاح . وكان المطعم قد أعلن في قريش أنه أجار محمداً ، فقبلوا ذلك منه .

Thursday 28 January 2021

تفسير سورة التكوير ج2 القرآن الكريم من رسول الملائكة إلى النبي المختار

   

تفسير سورة التكوير - ج٢ – قرآن كريم – من رسول ملك كريم إلى رسول من البشر كريم

 

قوله تعالى { فلا أقسم} أي أقسم، و { لا} زائدة، كما تقدم.

وقال المحققون: لا أقسم: لا ليست نافية لأن المراد إثبات القسم لا نفيه، أي "أقسم" فالجملة ثبوتية وليست نافيةو "لا" هنا للتنبيه، لتنبيه المخاطب، لأن الكلام إذا جاء على غير النسق المعروف فلا بد أن ينتبه الإنسان لماذا جاء على هذا السياق؟

فالمقصود "أُقسم" والله عزّ وجل هو الذي يقسم.

معظم المفسرين يرفضون فكرة وجود أي حرف زائد في القرآن لأنه كلام الله، وكلام الله لا زيادة فيه ولا نقصان.

وقوله تعالى: { بالْخُنَّسِ ، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} ، قالوا هي الكواكب الخمسة الدراري : زحل والمشتري وعطارد والمريخ والزهرة،- هذه الكواكب التي كانوا يرونهافي ذلك الوقت- فيما ذكر أهل التفسير. والله أعلم. وهو مروي عن علي رضي الله عنه،

وقال الحسن وقتادة : هي النجوم التي تخنس بالنهار وإذا غربت، وقاله علي رضي الله عنه، قال: هي النجوم تخنس بالنهار، وتظهر بالليل؛ وتكنس في وقت غروبها :أي تتأخر عن البصر لخفائها، فلا ترى.

وفي اللغة :

كنس الظبي: أي دخل مأواه ليستتر، كناس الظبي : أي بيته الذي يلجأ إليه أو يختفي فيه؛ ومثله: اكتنست الغزالة: دخلت الكناس.

كنس النجوم كنوسا: استمرت في مجاريها ثم انصرفت راجعة( الجوار الكنس)

يقال : خنس عنه يخنس بالضم خُنوسا : تأخر، وأخنسه غيره : إذا خلفه ومضى عنه. والخنس تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع قليل في الأرنبة، والرجل أخنس، والمرأة خنساء، والبقر كلها خنس.

قال القرطبي: والأصح الحمل على النجوم، لذكر الليل والصبح بعد هذا، فذكر النجوم أليق بذلك. وأيضا : لله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته من حيوان وجماد، وإن لم يعلم وجه الحكمة في ذلك.وقال ابن مسعود: أقسم تعالى بالقر الوحشي.

وقد ورد تفسير علمي حديث لقوله تعالى( الجوار الكنس) أي النجوم السوداء- التي فسروها بالثقب الأسود- التي تكنس السماء من بقايا النجوم التي تنفجر أو قال تموت، بمعنى التنظيف حقيقتة، وتبتلعها الثقوب السوداء بفعل الجاذبية، وهذا التفسير بالإضافة إلى أنه يخالف العربية – معنى الخنس والكنس- بالإضافة إلى أن الكنس بمعنى التنظيف معنى مستحدث، فهو لم يدل عليه دليل أكيد على أن هناك نجوم سوداء، بالرغم من تأكيد صاحبها عليه، وأنها هي الثقوب التي ترى في السماء، فهذا من قوله وحده. والله أولى وأعلم.

وقوله تعالى: والجواري : جمع جارية من جرى يجري، وهي النجوم تجري في السماء، كما قال تعالى عن الشمس: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ( يس٣٨)

{ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} قال الفراء : أجمع المفسرون على أن معنى عسعس: أدبر؛حكاه الجوهري. وقال بعض أصحابنا : إنه دنا من أوله وأظلم وكذلك السحاب إذا دنا من الأرض. المهدوي قال عسعس: أدبر أو ذهب بظلامه؛ عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وروي عنهما : أقبل بظلامه الفراء : العرب تقول عسعس وسعسع إذا لم يبق منه إلا اليسير. الخليل وغيره : عسعس الليل إذا أقبل أو أدبر. المبرد : هو من الأضداد، والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد، وهو ابتداء الظلام في أوله، وإدباره في آخره؛

ويقال للذئب العسعس والعسعاس والعساس؛ لأنه يعس بالليل ويطلب. ويقال للقنافذ العساعس لكثرة ترددها بالليل. قال أبو عمرو : والتعسعس الشم.

ومنه سمي رجال الشرطة الذين يعملون ليلا: العسس.

قوله تعالى { وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} أي امتد حتى يصير نهارا واضحا؛ أي أضاء، يقال للنهار إذا زاد : تنفس. وكذلك الموج إذا نضح الماء.

ومعنى التنفس : خروج النسيم من الجوف. وقيل { إِذَا تَنَفَّسَ} أي انشق وانفلق؛ ومنه تنفست القوس أي تصدعت.

 أما الزمخشري فقد ذكر فيه وجها آخر،  فقال في الكشاف : " فإن قلت: ما معنى تنفس الصبح؟ قلت: إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح و نسيم عليل جميل، فجعل ذلك نفسا له على المجاز". وقيل: نوع من الاستعارة بتشبيه الصبح، و قد طلع بعد غشيان الظلام للآفاق ، بمن أحاطت به متاعب أعمال شاقة ثم وجد خلاء من الزمان فاستراح فيه، و تنفس ، فعد إضاءته للأفق تنفسا منه.

وهنا كأنما ربنا  أقسم بالليل وظلامه إذا أقبل، وبالفجر وضيائه إذا أشرق، كما قال تعالى: { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ *وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ } ، وقال: { وَالضُّحَىٰ * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ}

قوله تعالى: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} هذا جواب القسم. والرسول الكريم جبريل؛ قال الحسن، والمعنى { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ} عن الله { كَرِيمٍ} على الله. وأضاف الكلام إلى جبريل عليه السلام، ثم عداه عنه بقول { تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} (الواقعة ٨٠) ليعلم أهل التحقيق في التصديق، أن الكلام لله عز وجل.يعني إن هذا القرآن لتبليغ رسول كريم، أي ملك شريف حسن الخلق بهي المنظر، وهو جبريل عليه الصلاة والسلام، {ذِي قُوَّةٍ} كقوله تعالى: { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ ﴿٥﴾ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ} ( النجم ٥- ٦) أي شديد الخلق، شديد البطش والفعل، {عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } أي له مكانة عند اللّه عزَّ وجلَّ ومنزلة رفيعة، { مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} أي له وجاهة وهو مسموع القول مطاع في الملأ الأعلى، قال قتادة: {مُطاعٍ ثَمّ} ثَمَّ: أي في السموات، يعني ليس هو من أفناد الملائكة،  أفناد: جماعات الملائكة، بل هو من السادة والأشراف، معتنى به انتخب لهذه الرسالة العظيمة، وقوله تعالى: {أَمِينٍ} صفة لجبريل بالأمانة، وهذا عظيم جداً، أن الرب عزَّ وجلَّ يزكي عبده ورسوله الملكي جبريل كما زكى عبده ورسوله البشري محمداً بقوله تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ} قال الشعبي وميمون: عني محمداً .

وقوله تعالى: { وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} يعني ولقد رأى محمد جبريل الذي يأتيه بالرسالة عن اللّه عزَّ وجلَّ، على الصورة التي خلقه اللّه عليها له ستمائة جناح، {بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ}  أي البين، أي بمطلع الشمس من قبل المشرق؛ لأن هذا الأفق إذا كان منه تطلع الشمس فهو مبين،  وهي الرؤية الأولى كانت بالبطحاء، وهي المذكورة في قوله: { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ } ( النجم ٥ -٧ ) ، والظاهر أن هذه السورة نزلت قبل ليلة الإسراء، لأنه لم يذكر فيها إلا هذه الرؤية وهي الأولى، وأما الثانية وهي المذكورة في قوله تعالى: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ *وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ*عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ } ( النجم ١٢ -١٤) فتلك إنما ذكرت في سورة النجم، وقد نزلت بعد سورة الإسراء.

وجاء في {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} قالوا كان من شدة قوة جبريل عليه السلام أنه رفع مدائن قوم لوط وكن سبعاً، بمن فيها من الأمم وكانوا قريباً من أربعمائة ألف، وما معهم من الدواب والحيوان وما لتلك المدن من الأراضي والمعتملات والعمارات وغير ذلك، رفع ذلك كله على طرف جناحه حتى بلغ بهن عنان السماء حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم وصياح ديكتهم ثم قلبها فجعل عاليها سافلها فهذا هو شديد القوى

عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الﷺ: « إذا تكلَّم اللهُ بالوَحيِ سَمِعَ أهلُ السَّماءِ للسَّماءِ صلصلةً كجَرِّ السِّلسلةِ على الصَّفا، فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيَهم جبريلُ، حتى إذا جاءهم جِبريلُ فُزِّعَ عن قلوبِهم قال: فيقولون: يا جبريلُ، ماذا قال ربُّك؟ فيقول: الحَقَّ، فيقولون: الحَقّ الحَقّ» رواه أبو داود وصححه الألباني.

وذكر في القرآن باسمه صراحة في سورتي البقرة والتحريم

في التحريم: {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّـهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} ( آية ٤ )

وفي سورة البقرة: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ *مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} (سورة البقرة ٩٧ -٩٨)

وقوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} بالضاد، أي ببخيل بل يبذله لكل أحد، وتقرأ بالظاء {عَلَى الْغَيْبِ بظنين} أي متهم أو فاجر، أي يُظن فيه الظنون السيئة، قال سفيان بن عيينة: ظنين وضنين سواء، أي ما هو بفاجر، والظنين المتهم، والضنين البخيل، وقال قتادة: كان القرآن غيباً فأنزله اللّه على محمد، فما ضنّ به على الناس بل نشره وبلغه وبذله لكل من أراده، واختار ابن جرير قراءة الضاد.( وهي هكذا عند حفص) قلت: وكلاهما متواتر ومعناه صحيح كما تقدَّم.

 وقوله تعالى: { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} أي وما هذا القرآن بقول شيطان رجيم، أي لا يقدر على حمله ولا يريده ولا ينبغي له، كما قال تعالى: { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ* وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ *إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} ( الشعراء٢١٠- ٢١٢).

وقوله تعالى: { فأين تذهبون} ؟ فأين تذهب عقولكم في تكذيبكم بهذا القرآن، مع ظهوره ووضوحه وبيان كونه حقاً من عند اللّه عزَّ وجلَّ! كما قال الصديق رضي اللّه عنه لوفد بني حنيفة حين قدموا مسلمين، وأمرهم فتلوا عليه شيئاً من قرآن مسيلمة الكذّاب الذي هو في غاية الهذيان والركاكة فقال: (ويحكم أين تذهب عقولكم؟ واللّه إن هذا الكلام لم يخرج من إل) أي من إله، وقال قتادة: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ}:  أي عن كتاب اللّه وعن طاعته.

 وقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} أي هذا القرآن ذكر لجميع الناس يتذكرون به ويتعظون {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} أي لمن أراد الهداية فعليه بهذا القرآن فإنه منجاة له وهداية، ولا هداية فيما سواه، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّـهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي ليست المشيئة موكولة إليكم، بل ذلك كله تابع لمشيئة اللّه تعالى رب العالمين، قال سفيان الثوري: لما نزلت هذه الآية: { لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} قال أبو جهل: الأمر إلينا إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فأنزل اللّه تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّـهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}

 

والسورة: قال الصابوني: ثم تناولت أولا ( حقيقة يوم القيامة) ، ثم تناولت (حقيقة الوحي) وصفة النبي الذي يتلقاه، ثم شأن القوم المخاطبين بهذا الوحي، والرسول الذي نزل به لينقلهم من ظلمات الشرك والضلال، إلى نور العلم والإيمان.

* وختمت السورة الكريمة ببيان بطلان مزاعم المشركين، حول القرآن العظيم، وذكرت أنه موعظة من الله تعالى لعباده { فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ* إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ *لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ *وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّـهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}

لله الحمد والفضل والمنة، تم تفسير سورة التكوير