Sunday 20 March 2022

قراءة في أحاديث رياض الصالحين– ج 8 - من باب 89- 91 - في آداب الوعظ للعالم والمتعلم

  


-   باب استحباب بيان الكلام وإيضاحه للمخاطب وتكريره ليفهم إذا لم يفهم إلا بذلك

696- عن أنس رضي الله عنه أن النبى : "كان إذا تكلَّمَ بكلمةٍ أعادَها ثلاثًا، حتى تُفْهَمَ عنه، وإذا أتى على قومٍ فسلَّمَ عليهم، سلَّمَ عليهم ثلاثًا "‏.‏ (‏رواه البخاري)‏‏.‏

كان النبيَّ كانَ يُكرِّرُ كَلامَه ثلاثًا إذا أرادَ المَوعظة؛ مِن أجلِ أن يفهمَه المخاطَبون ويَستوعِبوا معناه؛ لأنّ التَّكرارَ يعين على الحفظِ، وبه يتَّضِحُ اللفظُ، وخاصَة إذا خشِيَ ألَّا يُفهَمَ كَلامه، أو لا يُسمَع، أو إذا أرادَ الإبلاغَ في التَّعليمِ، أو الزَّجرِ ِ،  وهذا مِن أُصولِ التَّربيةِ التعليميةِ في الإسلام؛ لأنَّ الإعادة ثلاثا أحرى للبيانُ والإعذارُ.

إذا أتى على قومٍ سلَّمَ عليهم ثلاثًا"، ولعلَّ هذا كان هَدْيَه في السَّلامِ على الجمْعِ الكثيرِ الَّذين لا يَبلُغُهم سَلامٌ واحدٌ، أو هَدْيَه في إسماعِ السَّلام ،  أو يكونُ إعادةُ السَّلامِ مُرادًا به الاستئذانُ إذا لم يَسمَعِ السَّلامَ الأوَّلَ ولم يُجِبْ.

فأمَّا إذا مرَّ على مَجلسٍ فعَمَّهم بالسَّلامِ، أو أتى دارًا فسلَّمَ فأجابوا؛ فلا وَجْهَ للإعادةِ.،، او أنَّ يكون إذا أتَى على قَومٍ سلَّمَ تسليمةَ الاستئذانِ، وإذا دخَلَ سلَّمَ تَسليمةَ التَّحيَّةِ، ثُمَّ إذا قام مِنَ المجلسِ سلَّم تسليمةَ الوداعِ، وهي في معنى الدُّعاءِ.

وفي الحديث أنه  قال: " إذا انْتَهَى أحَدُكُمْ إلى مجلِسٍ، فأرادَ أنْ يجلِسَ فَلْيُسلِّمْ، فإذا قامَ والقومُ جُلوسٌ فَلْيُسلِّمْ، فإنَّ الأُولَى ليسَتْ بأحقَّ مِنَ الآخِرةِ."( قال عنه شعيب الأرناؤوط أنه حسن)

697- وعن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ كان كلام رسول الله : "كلامًا فصلًا يَفهَمُهُ كلُّ مَن يسمَعُهُ.‏"‏‏ (‏رواه أبو داود‏- حديث حسن)‏‏.‏

كان النبيُّ أفْصحَ الخَلقِ وأعذَبَهم كلامًا، وأسرَعهم أداءً، وأحلاهم مَنطقًا، حتى كان كلامُه يأخذُ بالقلوبِ ويَسبي الأرواحَ، وكان مِن هَدْيِه التأنِّي والهدوءُ في الحديثِ مع تَوضيحِ كلامِه للنَّاسِ؛ حتى يَفهموا ولا يَفوتَهم شيءٌ من قولِه، كما في هذا الحديثِ، حيث تقولُ عائشةُ زَوجُ النبيِّ : "كانَ كلامُ رَسولِ اللهِ أي: في خُطَبِه ومواعِظه معَ الناسِ "كلامًا فَصلًا"، أي: كانَ كلامُه مُفصَّلًا واضحًا مع بَيانِ حُروفِه وألفاظِه. وقيلَ: فاصِلًا بينَ الحقِّ والباطلِ، أوْ مَصونًا عَنه؛ فليسَ في كلامِه باطلٌ أصْلًا، فلا تَلتبِسُ ألفاظُه على أحدٍ، "يَفْهمُه كلُّ مَن سمِعَه"، أي: فيَستطيعُ السَّامعُ فَهْمَه وحِفظَه؛ لِكمال فَصاحتِه على إيضاحِ الكلامِ وتَبيِينِه، وقد أعطاه اللهُ سبحانَه جوامِعَ الكَلِمِ.

وفيه: إرشادٌ للدَّاعيةِ أنْ يكونَ حَسَنَ المنطقِ، وأنْ يُوضِّحَ كلامَه ويُبيِّن ألفاظَه وحُروفَه للنَّاسِ؛ ليصِلَ إلى مُرادِه في دَعوتِه ويُفهِّم المتلقِّي.

٩٠- باب إصغاء الجليس لحديث جليسه الذي ليس بحرام واستنصات العالم والواعظ حاضري مجلسه

698- عن جرير بن عبد الله :قالَ لي رَسولُ اللَّهِ في حَجَّةِ الوَدَاعِ: "اسْتَنْصِتِ النَّاسَ ثُمَّ قالَ: لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ"  ‏‏‏(‏متفق عليه).

في هذا الحَديثِ يَرْوي جَريرُ بنُ عبدِ اللهِ البَجَليُّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ أمَرَهُ في حَجَّةِ الوداعِ أنْ يَأمُرَ النَّاسَ بالإنصاتِ والإصغاء إلى النبيِّ ، والاستماعِ إلى ما سَيَقولُه لهم بقلْبٍ حاضرٍ وأُذُنٍ واعيةٍ، فلمَّا أنْصَتوا خَطَبَ فيهم وحذَّرَهم أنْ يَرجِعوا بعْدَه كفَّارًا يَضرِبُ بَعضُهم رِقابَ بَعضٍ؛ وذلك بأنْ تَحمِلَهم العداوةُ والبَغضاءُ فيما بيْنهم على استحلالِ بَعضِهم دِماءَ بعضٍ.

 ويَحتمِلُ أنَّه عَلِمَ أنَّ هذا لا يكونُ في حَياتِه، فنَهاهُم عنه بعْدَ وَفاتِه، يعني إذا فارقْتُ الدُّنيا فاثْبُتوا بَعْدي على ما أنتمْ عليه مِن الإيمانِ والتَّقوى، ولا تُحارِبوا المسلِمينَ، ولا تَأخُذوا أموالَهُم بالباطلِ، وقيل: لا تكُنْ أفعالُكم شَبيهةً بأفعالِ الكُفَّارِ في ضَرْبِ رِقابِ المسلمينَ.

وفي الحديثِ: إصْغاءُ الإنسانِ إلى جَليسِه إذا لم يكُنْ يَتكلَّمُ بشَيءٍ مُحرَّمٍ.

٩١- باب الوعظ والأقتصاد فيه

قال الله تعالى‏:‏ {دْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ }‏(‏النحل‏١٢٥‏)‏‏ ‏

هذه الآية نزلت بمكة في وقت الأمر بمهادنة قريش، وأمره أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف ولين دون مخاشنة وتعنيف، وهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة، ومن احتاج منهم إلى مناظرة وجدال، فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب، والموعظة الحسنة فيها أن لا يطيل الكلام مع الطرف الآخر.

699- عن أبى وائل شقيق بن سلمة قال كانَ عبدُ اللَّهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ في كُلِّ خَمِيسٍ فقالَ له رَجُلٌ: يا أبا عبدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أنَّكَ ذَكَّرْتَنا كُلَّ يَومٍ؟ قالَ: أما إنَّه يَمْنَعُنِي مِن ذلكَ أنِّي أكْرَهُ أنْ أُمِلَّكُمْ، وإنِّي أتَخَوَّلُكُمْ بالمَوْعِظَةِ، كما كانَ النبيُّ يَتَخَوَّلُنا بها، مَخافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنا.) (‏متفق عليه‏)‏ ‏.‏

كان النبيُّ أحسنَ الناسِ تَعليمًا وتربيةً لأصحابِه؛ فكان يُعلِّمُهم بالقولِ والفِعلِ، وقد نقَلَ الصَّحابةُ الكِرامُ هَدْيَه في الموعظةِ.وفي هذا الحديثِ يَحكي عبدُ اللهِ بنُ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ كان مِن شِدَّةِ حِرصِه على انتفاعِ أصحابِه واستفادتِهم مِن وَعْظِه وإرشادِه؛ أنَّه لم يكُنْ يُكثِرُ عليهم مِن ذلك، وإنَّما يَتعهَّدُهم بالمَوعظةِ في بعضِ الأيَّامِ دونَ بعضٍ، ويَتحرَّى الأوقاتَ المناسبةَ، الَّتي هي مَظنَّةُ استعدادِهم النَّفسيِّ لها، وإنَّما كان يَقتصِرُ على الوقتِ المناسبِ خَوفًا على نُفوسِهم مِن الضَّجَرِ والملَلِ، الَّذي يُؤدِّي إلى استثقالِ المَوعظةِ وكَراهتِها ونُفورِها، فلا تَحصُلُ الفائدةُ المَرجوَّةُ.وفي الحديثِ: بيانُ رِفقِ النبيِّ وعَظيمِ شَفقتِه بأُمَّتِه؛ ليَأخُذوا الأعمالَ بنَشاطٍ وحِرصٍ عليها، لا عن ضَجَرٍ ومَلَلٍ.

700- وعن أبى اليقظان عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال‏:‏ سمعت رسول الله يقول‏:‏ ‏"‏ إنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ، مَئِنَّةٌ مِن فِقْهِهِ، فأطِيلُوا الصَّلَاةَ، وَاقْصُرُوا الخُطْبَةَ، وإنَّ مِنَ البَيَانِ سِحْرًا. ‏"‏ ‏‏‏(‏رواه مسلم‏)‏

وقد كانتْ صَلاةُ النَّبيِّ وخطبتُه معتدلتَينِ، ليس فيهما تَطويلٌ مُملٌّ، ولا تَقصيرٌ مُخلٌّ، وعلى هذا سارَ صحابةُ النَّبيِّ ﷺ،  فهذا عمَّارٌ خطَبَ النَّاسَ فأوجَزَ وأبلَغَ، وأوصَلَ ما أرادَهُ بألفاظٍ قَليلةٍ، فلمَّا نزَل مِن على المِنبَرِ قالَ النَّاسُ له: يا أبا اليَقظانِ- وهيَ كنيةُ عمَّارٍ- لقد أبلغَتَ وأوجزْتَ، فلو كُنتَ تنفَّستَ، أي: أطلْتَ قَليلاً، فقالَ: إنِّي سمعتُ رسولَ اللهِ يقولُ: "إنَّ طولَ صَلاةِ الرَّجلِ وقِصَرَ خُطبتِهِ" الحديث، والمَقصودُ: أنَّ تُطوَّلَ الصَّلاةُ عن الخُطبةِ، تَطويلاً لا يَشقُّ على المأمومينَ، حتَّى تكونَ مُعتدلةً بينَ التَّطويلِ والتَّقصيرِ. وقولُه: "مئنَّة مِن فقهِه"، أي: علامَةٌ يُستدَلُّ بها على فقهِ الخَطيبِ.  وقوله:" وإنَّ مِنَ البَيَانِ سِحْرًا ‏"‏: البَيانُ إظهارُ المقصودِ بأبلغِ لفظٍ، وهو مِن الفَهمِ وذَكاءِ القَلبِ

701- وعن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال‏:‏ "‏ بيْنَا أنَا أُصَلِّي مع رَسولِ اللهِ ﷺ، إذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ، فَقُلتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَرَمَانِي القَوْمُ بأَبْصَارِهِمْ، فَقُلتُ: واثُكْلَ أُمِّياهْ، ما شَأْنُكُمْ؟ تَنْظُرُونَ إلَيَّ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بأَيْدِيهِمْ علَى أفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسولُ اللهِ ﷺ، فَبِأَبِي هو وأُمِّي، ما رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ ولَا بَعْدَهُ أحْسَنَ تَعْلِيمًا منه، فَوَاللَّهِ، ما كَهَرَنِي ولَا ضَرَبَنِي ولَا شَتَمَنِي، قالَ: إنَّ هذِه الصَّلَاةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شيءٌ مِن كَلَامِ النَّاسِ، إنَّما هو التَّسْبِيحُ والتَّكْبِيرُ وقِرَاءَةُ القُرْآنِ"  أَوْ كما قالَ رَسولُ اللهِ ﷺ قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي حَديثُ عَهْدٍ بجَاهِلِيَّةٍ، وقدْ جَاءَ اللَّهُ بالإِسْلَامِ، وإنَّ مِنَّا رِجَالًا يَأْتُونَ الكُهَّانَ، قالَ: فلا تَأْتِهِمْ قالَ: ومِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ، قالَ: ذَاكَ شيءٌ يَجِدُونَهُ في صُدُورِهِمْ، فلا يَصُدَّنَّهُمْ، قالَ ابنُ الصَّبَّاحِ: فلا يَصُدَّنَّكُمْ، قالَ قُلتُ: ومِنَّا رِجَالٌ يَخُطُّونَ، قالَ: كانَ نَبِيٌّ مِنَ الأنْبِيَاءِ يَخُطُّ، فمَن وافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ قالَ: وكَانَتْ لي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لي قِبَلَ أُحُدٍ والْجَوَّانِيَّةِ، فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَومٍ فَإِذَا الذِّيبُ قدْ ذَهَبَ بشَاةٍ مِن غَنَمِهَا، وأَنَا رَجُلٌ مِن بَنِي آدَمَ، آسَفُ كما يَأْسَفُونَ، لَكِنِّي صَكَكْتُهَا صَكَّةً، فأتَيْتُ رَسولَ اللهِ فَعَظَّمَ ذلكَ عَلَيَّ، قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أفلا أُعْتِقُهَا؟ قالَ: ائْتِنِي بهَا فأتَيْتُهُ بهَا، فَقالَ لَهَا: أيْنَ اللَّهُ؟ قالَتْ: في السَّمَاءِ، قالَ: مَن أنَا؟ قالَتْ: أنْتَ رَسولُ اللهِ، قالَ: أعْتِقْهَا، فإنَّهَا مُؤْمِنَةٌ. ‏‏(‏رواه مسلم‏)‏‏

702- عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسولُ اللهِ موعظةً بليغةً وَجِلَت منها القلوبُ وذرفت منها العيونُ فقلنا: يا رسولَ اللهِ كأنها موعظةُ مودِّعٍ فأوصِنا " وذكر الحديث وقد سبق بكماله في باب الأمر بالمحافظة على السنة، وذكرنا أن الترمذي قال‏:‏ ‏‏‏(‏إنه حديث حسن صحيح‏)‏‏.‏

الحديث: وَعَظَنا رسولُ اللهِ موعِظَةً بليغَةً، وَجِلتْ منها القلوبُ، وذَرَفتْ منها العُيونُ، فقُلنا: يا رسولَ اللهِ كأنَّها موعِظَةُ مُودِّعٍ فأوْصِنا. قال: "أُوصيكُم بتَقوى اللهِ، والسَّمعِ والطاعَةِ وإنْ تأمَّر عليكم عبدٌ حبشيٌّ، وأنَّه مَن يَعِشْ منكم فسَيَرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الراشِدينَ المْهدِيِّينَ، عَضُّوا عليها بالنواجِذِ، وإياكم ومُحدثاتِ الأُمورِ؛ فإنَّ كلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ".

Thursday 17 March 2022

تفسير سورة البقرة ح 12 أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض

  
  

تفسير سورة البقرة-ح ١٢- أخذ الله عليهم المواثيق في كل ما أنزله عليهم من الأوامر والنواهي، فما رعوها، وقالوا قلوبنا غلف، بل لعنهم الله بكفرهم.

محور مواضيع هذا الجزء:

-أخذ الله على بني إسرائل العهود والمواثيق في كل أمر أو نهي، لأنهم قوم بهت ينكرون.

- وإن ما شملته المواثيق هو من أساس الدين إلى المعاملات، لم يدع ما يصلح القوم إلا جمعه.

- وقوم إسرائيل يستكبرون حتى على خالقهم، فيختاروا ما يأخذون، ويدعون ما لا يناسبهم.

- تكبر بني إسرائيل على الأنبياء من بعد موسى عليه السلام برد كل ما جاءوهم به، وهم يعلمون أنه الحق من ربهم، قد أخبرهم به على لسان موسى عليه السلام.

التفسير:

 

قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) (٨٣ )

وهذه الشرائع التي شرعها الله تعالى لبني إسرائيل هي من أصول الدين، التي أمر الله بها في كل شريعة، لاشتمالها على المصالح العامة في كل زمان ومكان، فلا يدخلها نسخ كأصل الدين، ولهذا أمرنا بها ، وبدأ بؤسها الذي تبني عليه بقية الأحكام، ويُتقبل من ممن عمل بها عمله، كما في قوله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا )

وهنا يُذكّر تبارك وتعالى بني إسرائيل بما أمرهم به من الأوامر، وأخذ ميثاقهم على ذلك، وأنهم تولوا عن ذلك كله، وأعرضوا قصدًا وعمدًا، وهم يعرفونه ويذكرونه، فأمرهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ ) وبهذا أمر جميع خلقه، ولذلك خلقهم كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) (الأنبياء ٢٥) وقال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل٣٦)، وعبادة الله إثبات توحيده، وتصديق رسله، والعمل بما أنزل في كتبه.

وفي صيغة هذا -الأمر- قوله: (لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ) قال الزمخشري: هو خبر بمعنى الطلب، وهو آكد للطلب.

قال سيبويه { لا تعبدون}: متعلق بقسم، والمعنى وإذ استخلفناهم: والله لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ، وأجازه المبرد والكسائي والفراء. وقرأ أبي وابن مسعود {لا تعبدوا} على النهي.

 ولبيان وتأكيد على أنها أمر وصل الكلام بالأمر فقال: وقولوا، وأقيموا، وآتوا.

وقال الكسائي: وقرأها : (يعبدون) بالياء، وقالوا- الفراء وغيره- : المعنى أخذنا ميثاقهم بألا يعبدوا إلا الله، وبأن يحسنوا للوالدين، وبألا يسفكوا الدماء، ثم حذفت أن والباء فارتفع الفعل لزوالهما.

 ثم أردف من بعده بحق المخلوقين، وبدأ بآكدهم وأولاهم بذلك حق الوالدين، و الله تعالى يقرن بين حقه وحق الوالدين، كما قال تعالى: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ) ( لقمان ١٤)، وقال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ...) (الإسراء ٢٣)

وفي الصحيحين، عن ابن مسعود، قلت: " يا رسولَ اللهِ أيُّ العملِ أفضلُ قال : الصلاةُ على وقتِها قال : قلتُ : ثم أيُّ قال : برُّ الوالدِّيَنِ،  قال : قلتُ : ثم أيُّ قال : الجهادُ في سبيلِ اللهِ عزَّ وجلَّ،  ولو استزدتهُ لزادني» (البخاري ومسلم)، وجاء في الحديث الصحيح: أن رجلا قال: «يا رسول الله، من أبر؟ قال: «أمك» . قال:ثم من ؟ قال: « أمك » . قال:ثم من؟ قال: « أباك . ثم أدناك أدناك» .

والإحسان إلى الوالدين : معاشرتهما بالمعروف، والتواضع لهما، وامتثال أمرهما، والدعاء بالمغفرة بعد مماتهما، وصلة أهل ودهما.

قوله تعالى: (وَذِي الْقُرْبَى)  عطف ذي القربى على الوالدين لأنها السبب في هذه القرابة، والقربى : بمعنى القرابة، وهو مصدر كالرجعى والعقبى، أي وأمرناهم بالإحسان إلى القرابات بصلة أرحامهم بكل ما تقدم من الإحسان، وحسن المعاملة، وقال تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ) (الإسراء  ٢٦)

قال: ( وَالْيَتَامَى ) وهم:الصغار الذين لا كاسب لهم من الآباء.

 من هو اليتيم؟

قال أهل اللغة: اليتيم في بني آدم من الآباء، وفي البهائم من الأم، وحكى الماوردي أن اليتيم أطلق في بني آدم من الأم أيضا.

والأغلب على أنَّ (اليتيم) يطلق على من فَقَدَ أباه فقط،  أما (اللطيم) فيطلق على من فقد أبويهم معاً ، وأما (العجيّ) فيطلق على من فقد أمّه فقط.

 وكلّ شيء مفرد يَعزّ نظيره فهو (يتيم) يقال: «دُرّة يتيمة».

 واليتيم شرعاً هو: من مات عنه أبوه وهو صغير لم يبلغ الحلم، ويستمر وصفه باليتم حتى يبلغ، لقول النبيﷺ: "ولا يُتْمَ بعدَ احْتِلامٍ " (رواه أبو داود وضعف إسناده الألباني).

وعن مالك بن الحارث، عن رسول الله ﷺ قال:" مَن ضَمَّ يتيمًا بين أبَوينِ مُسلمينِ إلى طَعامِه وشَرابِه حتى يَستغنيَ عنه، وَجَبتْ له الجَنَّةُ ألبتَةَ، وَمَنْ أعتَقَ امرَأً مُسلِمًا كان فِكاكَه من النَّارِ، يُجزَى بكُلِّ عُضوٍ منه عُضوًا." ( صحيح الترغيب والترهيب) ، وفي البخاري عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، قال رسول الله ﷺ:" أنا وكافِلُ اليَتِيمِ في الجَنَّةِ هَكَذا وقالَ بإصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ والوُسْطَى." ، وتسميتها بالسبابة في الجاهلية لاقتران السباب بها، وفي الإسلام هذا الأصبع هو الشاهد.

 (وَالْمَسَاكِينَ ) الذين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم، المسكين مأخوذ من السكون وعدم الحركة، ويطلق على صاحب الحاجة، الذي ليس له من المال إلا اليسير الذي لا يسد حاجته.

وعرفه النووي بأنه هو الذي يملك ما يقع موقعا من كفايته ولا يكفيه، بأن احتاج إلى عشرة وعنده سبعة أو ثمانية.
سواء كان ما يملكه من المال نصابا أو أقل أو أكثر ولا يعتبر في المسكين السؤال، قطع به أكثر الأصحاب، ومنهم من نقل عن القديم

واشترك الفقير والمسكين، في أن كلاهما صاحب حاجة للمال، قال الطبري: «"المسكنة" مصدر "المسكين" يقال: "ما فيهم أسكن من فلان وما كان مسكينا،  ومن العرب من يقول: "تمسكن تمسكنا"، والمسكنة في هذا الموضع مسكنة الفاقة والحاجة، وهي خشوعها وذلها».

قال ابن منظور: عن الأصمعي أنه قال: "المسكين أحسن حالا من الفقير" وهو القول الصحيح كما قال القرطبي، ا لأن الله تعالى قال: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) (الكهف ٧٩) ، فأخبر أنهم مساكين وأثبت أن لهم سفينة يعملون عليها في البحر.

 وقال : (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) (البقرة ٢٧٣)‏،  فهذه الحال التي أخبر بها عن الفقراء هي دون الحال: أي أضعف  من التي أخبر بها عن المساكين. ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) (البلد١٦)، ‏فأكد عز وجل سوء حاله بصفة الفقير لأن المتربة الفقر، ولا يؤكد الشيء إلا بما هو أوكد منه

و(مَتْرَبَةٍ ): ذو اللصوق بالتراب، أو الذي ليس له مأوى إلا التراب.

في قوله: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) ، وهذه قاعدة من القواعد  القرءانية المهمة في باب التعامل بين الناس، إنها قاعدة تكرر ذكرها في القرآن في أكثر من موضع إما صراحة أو ضمنا ً:

فمن المواضع التي توافق هذا اللفظ تقريباً: قوله تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (الإسراء ٥٣ )

وقريب من ذلك أمره سبحانه بمجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، فقال سبحانه: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (العنكبوت ٤٦).

وقد جاء قوله تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) في سياق أمر بني إسرائيل بجملة من الأوامر  في سورة مدنية سورة البقرة ـ وقال قبل ذلك في سورة مكية، وهي سورة الإسراء، أمراً عاماً : (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (الإسراء  ٥٣)، فهذا إذاً  أمر محكم، ولا يستثنى منه شيء إلا في حال مجادلة أهل الكتاب ـ كما في آية العنكبوت.

قال أهل العلم: والقول الحسن يشمل: الحسن في هيئته؛ وفي معناه

ففي هيئته: أن يكون باللطف، واللين، وعدم الغلظة والشدة، وفي معناه: بأن يكون خيراً؛ لأن كل قولٍ حسنٍ فهو خير؛ وكل قول خير فهو حسن، ففي (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) جمع بين المعنى الحسن بـــ  كلموهم طيبًا، والهيئة الحسنة بــ  لينُوا لهم جانبًا.  

والحُسْن من القول: أن يأمُر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحلم، ويعفو، ويصفح، ويقول للناس حسنًا كما قال الله، وهو كل خُلُق حسن رضيه الله.

وفي صحيح الإمام مسلم من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، عن النبي ﷺ أنه قال: « لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعروفِ شيئًا، ولو أنْ تَلْقَى أخاكَ بوَجْهٍ طَلْقٍ»

وناسب أن يأمرهم بأن يقولوا للناس حسنًا، بعد ما أمرهم بالإحسان إليهم بالفعل، فجمع بين طرفي الإحسان الفعلي والقولي.

ثم أكد الأمر بعبادته والإحسان إلى الناس بالمُعيّن من ذلك، وهو الصلاة والزكاة، فقال: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ) وأخبر أنهم تولوا عن ذلك كله، أي:تركوه وراء ظهورهم، وأعرضوا عنه على عمد بعد العلم به، إلا القليل منهم، :قوله تعالى: ( ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) الخطاب لمعاصري محمد ﷺ، وأسند إليهم تولي أسلافهم إذ هم كلهم بتلك السبيل في إعراضهم عن الحق مثلهم، كما قال:  شنشنة أعرفها من أخزم .[ وهذا مثل دارج، قصته:أن أبا أخزم الطّائي، وهو جد أبي حاتم الطائي، كان له ابن يُقال له أخزم، وقيل: إنه كان عاقًا، فمات وترك بنين فوثبوا يومًا على جدهم أبي أخزم فأدموه، والبيت الشعري، يقول: إنّ بَنيّ ضرجوني بالدم، شنشنة أعرفها من أخزم، يعني هذا العقوق أعرفه من أبيهم أخزم.]

(لا قَلِيلا مِنْكُمْ)، كعبدالله بن سلام وأصحابه.وقوله: (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) والإعراض والتولي بمعنى واحد، مخالف بينهما في اللفظ. وقيل : التولي فيه بالجسم، والإعراض بالقلب.

وقد أمر تعالى هذه الأمة بنظير ذلك في سورة النساء، بقوله: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا ) (النساء٣٦)

فقامت هذه الأمة من ذلك بما لم تقم به أمة من الأمم قبلها، ولله الحمد والمنة.

(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ)

يقول تبارك وتعالى، منكرًا على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله ﷺبالمدينة، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج، وذلك أن الأوس والخزرج، وهم الأنصار، كانوا في الجاهلية عُبَّاد أصنام، وكانت بينهم حروب كثيرة، وكانت يهود المدينة ثلاثَ قبائل:بنو قينقاع. وبنو النضير حلفاء الخزرج. وبنو قريظة حلفاء الأوس. فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه، فيقتل اليهودي أعداءه، وقد يقتل اليهوديّ الآخرُ من الفريق الآخر، وذلك حرام عليهم في دينه ونص كتابه، ويخرجونهم من بيوتهم وينهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال، كما قال تعالى: ( ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ )

ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكّوا الأسارى من الفريق المغلوب، عملا بحكم التوراة؛ ولهذا قال تعالى: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) ولهذا قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ) أي:لا يقتل بعضكم بعضًا، ولا يخرجه من منـزله، ولا يظاهر عليه، كما قال تعالى: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ)[ البقرة:54 ]

وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنـزلة النفس الواحدة، كما قال ﷺ: " تَرَى المُؤْمِنِينَ في تَراحُمِهِمْ وتَوادِّهِمْ وتَعاطُفِهِمْ، كَمَثَلِ الجَسَدِ، إذا اشْتَكَى عُضْوًا تَداعَى له سائِرُ جَسَدِهِ بالسَّهَرِ والحُمَّى." (صحيح البخاري )

وقوله: ( ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ) أي:ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به.

ثم يقول الله تعالى ذكره حيث أَنَّبهم بذلك: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) أي:يفاديه بحكم التوراة ويقتله، وفي حكم التوراة ألا يفعل، ولا يُخرج من داره، ولا يُظَاهَر عليه من يُشْرك بالله، ويعبد الأوثان من دونه، ابتغاء عرض الدنيا. ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج - فيما بلغني- نـزلت هذه القصة .

وقال أسباط عن السدي:كانت قريظة حلفاء الأوس، وكانت النضير حلفاء الخزرج، فكانوا يقتتلون في حرب سُمَير، فيقاتل بنو قريظة مع حلفائها النضيرَ وحلفاءهم، وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها، ويغلبونهم، فيخربون ديارهم، ويخرجونهم منها، فإذا أسر رجل من الفريقين كليهما، جمعوا له حتى يفدوه. فتعيرهم العرب بذلك، ويقولون:كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا:إنا أمرنا أن نفديهم، وحرّم علينا قتالهم، قالوا:فلم تقاتلونهم؟ قالوا:إنَّا نستحيى أن تُسْتَذلّ حلفاؤنا . فذلك حين عيَّرهم الله، فقال: ( ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ )

وقال شعبة، عن السدي:نـزلت هذه الآية في قيس بن الخَطيم: ( ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ )

وقال أسباط، عن السدي، عن عبد خير، قال:غزونا مع سلمان بن ربيعة الباهلي فحاصرنا أهلها ففتحنا المدينة وأصبنا سبايا واشترى عبد الله بن سلام يهودية بسبعمائة، فلما مرّ برأس الجالوت نـزل به، فقال له عبد الله:يا رأس الجالوت، هل لك في عجوز هاهنا من أهل دينك، تشتريها مني؟ قال: نعم. قال:أخذتها بسبعمائة درهم. قال:فإني أرْبحُك سبعمائة أخرى. قال:فإني قد حلفت ألا أنقصها من أربعة آلاف. قال:لا حاجة لي فيها، قال: والله لتشترينها مني، أو لتكفرن بدينك الذي أنت عليه. قال: ادن مني، فدنا منه، فقرأ في أذنه التي في التوراة: إنك لا تجد مملوكًا من بني إسرائيل إلا اشتريته فأعتقته ( وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ) قال:أنت عبد الله بن سلام؟ قال:نعم. قال: فجاء بأربعة آلاف، فأخذ عبد الله ألفين، ورد عليه ألفين.

وقال لربيع بن أنس، أخبرنا أبو العالية: أن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة، وهو يفادي من النساء من لم يقع عليها العرب، ولا يفادي من وقع عليها العرب، فقال عبد الله بن سلام: أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن.

والذي أرشدت إليه الآية الكريمة، وهذا السياق، ذم اليهود في قيامهم بأمر التوراة التي يعتقدون صحتها، ومخالفة شرعها، مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له بالصحة، فلهذا لا يؤتمنون على ما فيها ولا على نقلها، ولا يصدقون فيما يكتمونه من صفة رسول الله ﷺ ونعته، ومبعثه ومخرجه، ومهاجره، وغير ذلك من شؤونه، التي قد أخبرت بها الأنبياء قبله. واليهود عليهم لعائن الله يتكاتمونه بينهم، ولهذا قال تعالى ( فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) أي:بسبب مخالفتهم شرع الله وأمره ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ ) جزاء على ما كتموه من كتاب الله الذي بأيديهم ( وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ* أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ ) أي:استحبوها على الآخرة واختاروها ( فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ ) أي:لا يفتر عنهم ساعة واحدة ( وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ )

أي:وليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدي، ولا يجيرهم منه.

اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار