Thursday 31 December 2015

تفسير للآيات وبيان المتشابهات ، وربط للآيات – سورة الرحمن ج1

 

   



 سورة الرحمن ج1

التعريف بالسورة : 
1)    سورة مكية في قول جمهور الصحابة والتابعين، وهي في مصحف ابن مسعود أول المفصل.  
ويستدل على كونها مكية أنها هي من أول السور نزولا:  فقد أخرج أحمد في مسنده بسند جيد عن اسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : سمعت رسول الله وهو يصلي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمر والمشركون يسمعون يقرأ :{ فبأي آلاء ربكما تكذبان }
ويؤكده أيضاً ما يروى عن عبد الله بن مسعود أنه أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله ، جهر بفاتحة سورة الرحمن في جمع من قريش، حتى اجتمعوا فانهالوا عليه ضرباً فأبرحوه، محتسباً لله ومتوعداً بمثلها في الغداة. قال الحَافظ ابن حجر في الإصابة، في ترجمة عبد الله بن مسعود:  وهو أول من جهر بالقرآن بمكة،  ذكره ابن إسحاق عن يحيى بن عُروة.
اجتمع يوماً أصحاب رسول الله فقالوا: (والله ما سمعت قريشُ هذا القرآن يُجهرُ لها به قط، فمَنْ رجلٌ يُسمعهم؟)... فقال عبد الله بن مسعود: (أنا)... فقالوا: (إنّا نخشاهم عليك، إنّما نريدُ رجلاً له عشيرة تمنعه من القوم إن أرادوه)... فقال: (دعوني فإنّ الله سيمنعني)... فغدا عبد الله حتى أتى المقام في الضحى وقريش في أنديتها، حتى قام عبد الله عند المقام فقال رافعاً صوته: بسم الله الرحمن الرحيم: {الرّحْمن، عَلّمَ القُرْآن، خَلَقَ الإنْسَان، عَلّمَهُ البَيَان}... فاستقبلها فقرأ بها... الحديث
2) من المفصل .
3) آياتها 78 .
4) مجموع فواصل آياتها في (مرن)( الميم ، ونون ، والراء )
5) ترتيب نزولها على القول أنها مكية ( وهو الأصح) الثالثة والأربعين.
6) نزلت بعد سورة الفرقان وقبل سورة فاطر ومن عدها أنها مدنية قال نزلت بعد الرعد .
7) بدأت السورة باسم من أسماء الله الحسنى" الرحمن " لم يذكر لفظ الجلالة في السورة.
8) الجزء (27) ، الحزب (54) ، الربع ( 5) .

أحاديث لم تثبت في فضل السورة :
- حديث أُبي: "لكلّ شيءٍ عَرُوس، وعروس القرآن سورة الرحمن جلّ ذكره" .
وقال: " مَنْ قرأ سورة الرّحمن رحم الله ضعْفَهُ، وأَدَّى شكر ما أَنعم اللهُ عليه"
وقال: "يا علي، مَنْ قرأها فكأَنَّما أَعتق بكلّ آية في القرآن رَقبة، وله بكلّ آية قرأها مثلُ ثواب امرأَة تموت في نفاسها" . اهـ.
-عن أنس قال:  كان رسول الله ﷺ يوتر بتسع ركعات فلما أسن وثقل أوتر بسبع فصلى ركعتين ، وهو جالس فقرأ فيهما الرحمن والواقعة . ( ضعيف )
-أما حديث  الترمذي:  خرجَ رسولُ اللَّهِ علَى أصحابِهِ فقرأَ عليهِم سورةَ الرَّحمنِ مِن أوَّلِها إلى آخرِها ، فسَكَتوا فقالَ : لقد قرأتُها علَى الجنِّ ليلةَ الجنِّ ، فَكانوا أحسنَ مردودًا منكُم ، كنتُ كلَّما أتَيتُ علَى قولِهِ : فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ، قالوا : لا بشيءٍ من نعمِكَ – ربَّنا نُكَذِّبُ ، فلَكَ الحمدُ" ( رواه الترمذي- وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وضعفه ، حسنه الألباني)
سبب نزول السورة :
-     عن عطاء أن أبا بكر الصديق ذكر ذات يوم القيامة وأهوالها والموازين والجنة والنار فقال : وددت أنى كنت خضراء من هذا الخضر تأتى عَلَىَّ بهيمةٌ فتأكلني، وأنى لم أُخْلَق ، فنزلت هذه الآية { وَلمِنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } .
-     وقد قيل: إن سبب نزولها قول المشركين المحكي في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قالوا وَمَا الرَّحْمَنُ} (الفرقان 60)، فتكون تسميتها باعتبار إضافة سورة إلى الرحمن على معنى إثبات وصف الرحمن.
-     وقيل سبب نزولها قول المشركين: {إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} ( سورة النحل 103)
فرد الله عليهم بأن الرحمن هو الذي علم النبي القرآن.   والله أعلم

مناسبتها بعد سورة القمر :

لما ختم سبحانه القمر بعظيم الملك وبليغ القدرة، وكان الملك القادر لا يكمل ملكه إلا بالرحمة، وكانت رحمته لا تتم إلا بعمومها على خلقه، وصدر السورة بالإسم الدال عليها،كما سيأتي في شرح الإسم {الرَّحْمَنُ}  فإنه سبحانه لما قال :{ في مقعد صدق عند مليك مقتدر} فكان جواباً لمن قال: من هذا المليك المقتدر؟ فأجابهم بنفسه عن نفسه : {الرَّحْمَنُ}  
قصر تعالى هذه السورة على تعداد نعمه على خلقه في الدارين، وذلك من آثار الملك، وفصل فيها ما أجمل في آخر القمر من مقر الأولياء والأعداء في الآخرة، وافتتحها بأعظم النعم وهو تعليم الذكر الذي حث ذوي الهمم العالية في{ القمر} إلى الإقبال عليه بقوله: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر}  
 التفسير :
قال الله تعالى : { الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ الْقُرْآنَ . خَلَقَ الإنْسَانَ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } الرحمن1-4.
في هذه السورة العظيمة من سور القرآن الكريم يتعرف الله سبحانه وتعالى إلى خلقه بنعمه عليهم ، وآلائه التي ملأت أرجاء السماء والأرض ، يذكرهم بها عبوديتهم له عز وجل ، ويلزمهم طاعته وابتغاء مرضاته .
ولما كان القرآن الكريم النعمة الكبرى والآية العظمى التي أنزلت على الإنسانية جمعاء ، بدأ بها عز وجل ، وقدمها على كل شيء ، حتى على خلق الإنسان نفسه ، ليوحي بذلك إلى الغاية التي خلق الإنسان من أجلها ، وهي معرفة وحي الله والالتزام به ، فلا يشتغل الإنسان بالخلق عن الخالق ، ولا بالوسيلة عن المقصد .
وذكر الله تعالى خلق الإنسان بعد ذِكْر تعليم القرآن ليبين أن الإنسان هو المقصود بتعليم القرآن .
قال أبو حيان الأندلسي رحمه الله :
"ولما عدّد نعمه تعالى ، بدأ مِن نِعَمه بما هو أعلى رتبها ، وهو تعليم القرآن ، إذ هو عماد الدين ونجاة من استمسك به.
ولما ذكر تعليم القرآن ولم يذكر المعلَّم ، ذكره بعد في قوله : (خَلَقَ الإنْسَانَ) ، ليُعلم أنه المقصود بالتعليم" انتهى “.البحر المحيط.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
وبدأ الله تعالى بتعليم القرآن قبل خلق الإنسان إشارة إلى أن نعمة الله علينا بتعليم القرآن أشد وأبلغ من نعمته بخلق الإنسان ، وإلا من المعلوم أن خلق الإنسان سابقٌ على تعليم القرآن ، لكن لما كان تعليم القرآن أعظمَ مِنَّةٍ من الله عز وجل على العبد قدمه على خلقه " انتهى.
معنى ‏{ ‏علم القرآن‏} أي سهّله لأن يذكر ويقرأ، وعلم النطق بالحروف، كما قال: ‏ { ‏ولقد يسرنا القرآن للذكر‏} [‏القمر‏ 17‏]‏‏، وقيل‏:‏ جعله علامة لما تعبد الناس به ‏{خلق الإنسان‏} يعني آدم عليه السلام وذريته منه، وقيل: يراد به جميع الناس فهو اسم للجنس، { ‏علمه البيان‏} ‏ أسماء كل شيء، علمه اللغات كلها، أي علمه الكلام والفهم، وهو مما فضل به الإنسان على سائر الحيوان‏.‏ وقال السدي‏:‏ علم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به‏.‏ وقال‏:‏ الكتابة والخط بالقلم‏،‏ نظيره قوله: { ‏علم بالقلم‏.‏ علم الإنسان ما لم يعلم‏} [العلق‏:‏ 4‏]‏‏،‏  {الشمس والقمر بحسبان‏} ‏ أي يجريان بحساب معلوم ، قال ابن عباس: أي يجريان بحساب في منازل لا يعدوانها ولا يحيدان عنها، وقال السدي: { ‏بحسبان‏} تقدير آجالهما أي تجري بآجال كآجال الناس، فإذا جاء أجلهما هلكا، ويشهد له قوله تعالى:  { ‏كل يجري لأجل مسمى‏} ‏[الزمر‏:‏ 5‏]‏‏. فالحساب في هذا التفسير لآجال الشمس والقمر.
وفي تأويل غيره قال ابن، كيسان‏:‏ يعني أن بهما تحسب الأوقات والآجال والأعمار، ولولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب شيئا لو كان الدهر كله ليلا أو نهاراً‏، فالحساب بهذا التفسير لآجال كل شيء مخلوق، والسياق يتسع للمعنيين . ‏
في اللغة:
الحُسبان قد يكون مصدر حسبته أحسبته بالضم حُسبا وحُسبانا، مثل الغُفران والكُفران والرُجحان، وحسابة أيضا أي عددته‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ ويكون جماعة الحِساب بالكسر-مثل شِهاب وشهبان‏.‏ والحُسبان أيضا بالضم العذاب والسهام القصار، والواحدة حسبانة، والحسبانة أيضا الوسادة الصغيرة، تقول منه‏:‏ حسبته إذا وسدته.
وقوله تعالى: { ‏والنجم والشجر يسجدان‏} ‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ النجم ما لا ساق له من النبات، والشجر ما له ساق من النبات، فيكون سجودهما بسجود ظلالهما.وقال الفراء‏:‏ سجودهما أنهما يستقبلان الشمس إذا طلعت ثم يميلان معها حتى ينكسر الفيء، ‏فسجودهما دوران الظل معهما، كما قال تعالى: { ‏يتفيأ ظلاله} [النحل‏48‏]‏‏.‏وقد اختار هذا المعنى وعززه القرطبي.
في اللغة :
اشتقاق النجم من نَجَم الشيء ينجُم بالضم نُجوما، أي ظهر وطلع.
وقال الحسن ومجاهد‏:‏ النجم نجم السماء، وسجوده دوران ظله، وهو اختيار الطبري، وقيل‏:‏ سجود النجم أفوله، وسجود الشجر إمكان الاجتناء لثمرها، والسجود هو الخضوع، وأصل السجود في اللغة الاستسلام والانقياد لله عز وجل، فهو من الأشياء كلها استسلامها لأمر الله عز وجل وانقيادها له، ومن الحيوان كذلك، { ‏والسماءَ رفعها‏} بالنصب على إضمار فعل أي هو سبحانه رفع السماء،وكذلك فإنه { ‏ووضع الميزان‏} أي العدل، أي وضع في الأرض العدل الذي أمر به، ووضع فلان كذا أي ألقاه، وهو خبر بمعنى الأمر بالعدل، يدل عليه قوله تعالى: ‏ { ‏وأقيموا الوزن بالقسط‏} والقسط العدل‏.‏ وقيل‏:‏ هو الحكم‏، وقيل‏:‏ أراد وضع الميزان في الآخرة لوزن الأعمال‏.‏ وأصل كلمة ميزان هو موزان.
{ ‏ألا تطغوا في الميزان‏} معناه‏:‏ لئلا تطغوا في الميزان، كقوله تعالى{ ‏يبين الله لكم أن تضلوا‏} [النساء‏:‏ 176‏] ‏‏أي: لئلا تضلوا،‏ والطغيان مجاوزة الحد‏.‏ فمن قال‏:‏ الميزان العدل قال طغيانه الجور‏،‏ ومن قال‏:‏ إنه الميزان الذي يوزن به قال طغيانه البخس‏ فيه.‏ قال ابن عباس‏:‏ أي لا تخونوا من وزنتم له‏.‏ وفي الكلام إضمار، أي وضع الميزان وأمركم ألا تطغوا فيه‏،‏ { ‏وأقيموا الوزن بالقسط‏} أي أقيموا لسان الميزان مستقيما بالعدل‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ القسط العدل بالرومية‏، وقيل‏:‏ هو كقولك أقام الصلاة أي أتى بها في وقتها، أي لا تدعوا التعامل بالوزن بالعدل‏.‏ { ‏ولا تخسروا الميزان‏} ‏قراءة العامة ‏{تُخسِروا‏} بضم التاء وكسر السين‏. ولا تنقصوا الميزان ولا تبخسوا الكيل والوزن، وهذا كقوله‏: { ‏ولا تنقصوا المكيال والميزان‏} [هود‏ 84‏]‏‏.‏ وقال قتادة في هذه الآية‏:‏ اعدل يا ابن آدم كما تحب أن يُعدل لك، وأوف كما تحب أن يُوفى لك، فإن العدل صلاح الناس‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ولا تخسروا ميزان حسناتكم يوم القيامة فيكون ذلك حسرة عليكم‏.
مسالة:
يلاحظ أن الله تعالى جاء بلفظ (الميزان) في ختام ثلاث آيات متتالية ، فماذا يستفاد من ذلك ؟ 
قيل : تكرار لفظ الميزان لحال رؤوس الآي‏- أي مراعاة لنهايات الآيات -وقيل‏:‏ التكرير تأكيد للأمر بإيفاء الوزن ورعاية العدل فيه‏.
وقيل: أكد عليه للتوكيد على إيفاء الحقوق، وعدم التطفيف،  لفرط الحاجة إليه في المعاملات الجارية بين الناس، وقيل: لأَنَّ كلّ واحد غير الآخر: الأَوّل ميزان الدّنيا، والثاني ميزان الآخرة، والثالث ميزان العقل.
 ويحسن أن نزيد في القول : في الآية الأولى جاء بمعنى مخالف للمعنين في الآيتين التاليتين، ففيها أن الميزان في السماء ( قد يقصد به ما توزن به أعمال الناس يوم القيامة ) أو أن يكون دليل على أصل العدل من السماء، أو أن العدل موجود حتى في السماء، وسبحانه لا يسأل عن عدله ولو جار. ومن المعاني التي ساقها المفسرون للميزان منها ؛ الميزان الحقيقي الذي يوزن به الإشياء ، وعليه مدار التجارة بين الناس ، وقيل هو رمز للعدل – فإنه يرمز إلى إيفاء الحقوق لأهلها كاملا، فهذه ثلاث معاني للميزان مختلفة، ومتقابلة في نفس الوقت، فالقول عندي أن  تكرار لفظ الميزان ليؤكد كل مرة على معنى من هذه المعاني.... والله أعلم
عودة للتفسير:
وقال تعالى:{ ‏والأرض وضعها للأنام‏}؛الأنام الناس، وقيل بل الأولى أنها تشمل كل ما دبَّ على وجه الأرض،وهم الخلائق المختلفة أنواعهم وأشكالهم وألوانهم في سائر أقطارها وأرجائها من إنسان وجان وحيوان، قوله تعالى:{ ‏فيها فاكهة‏} أي كل ما يتفكه به الإنسان من ألوان الثمار‏.{ ‏والنخل ذات الأكمام‏} الأكمام جمع كم بالكسر‏.‏
في اللغة:
 قال الجوهري‏:‏ والكمة بالكسر والكمامة وعاء الطلع وغطاء النَوَر والجمع كِمام وأكِمة وأكمام والأكاميم أيضا‏.‏ ‏ وأكمت النخلة وكممت أي أخرجت أكمامها‏.‏ والكِمام بالكسر والكِمامة أيضا ما يكم به فم البعير لئلا يعض، تقول منه‏:‏ بعير مكموم أي محجوم‏.‏ وكممت الشيء غطيته‏.‏ والكم ما ستر شيئا وغطاه، ومنه كُم القميص بالضم والجمع أكمام وكممة، مثل حب وحببة‏.‏ والكُمة القلنسوة المدورة، لأنها تغطي الرأس‏.‏ قال‏:‏ فقلت لهم كيلو بكمة بعضكم دراهمكم إني كذلك أكيل .
‏ { ‏والحب ذو العصف والريحان‏} ‏ الحب الحنطة والشعير ونحوهما، والعصف التبن، وعن ابن عباس‏:‏ تبن الزرع وورقه الذي تعصفه الرياح‏، أو العصف: ورق الزرع الأخضر إذا قطع رؤوسه ويبس، نظيره قوله تعالى: {‏فجعلهم كعصف مأكول‏} ‏ [الفيل‏‏5‏]‏‏.‏  والعصيفة الورق المجتمع الذي يكون فيه السنبل‏.‏ وقال الهروي‏:‏ والعصف والعصيفة ورق السنبل‏.‏
والريحان الرزق، تقول‏:‏ خرجت أبتغي ريحان الله، عن ابن عباس هي لغة حمير‏.‏ وعنه‏:‏ أنه الريحان الذي يشم، وكل بقلة طيبة الريح سميت ريحانا، لأن الإنسان يراح لها رائحة طيبة‏.‏ أي يشم فهو فعلان روحان من الرائحة، وأصل الياء في الكلمة واو قلب ياء للفرق بينه وبين الروحاني وهو كل شيء له روح‏.‏ وفي الصحاح‏:‏ والريحان نبت معروف، وقوله تعالى‏: { ‏فبأي آلاء ربكما تكذبان‏} ‏ خطاب للإنس والجن، لأن الأنام واقع عليهما‏.‏ وهذا قول الجمهور، وذلك أنه لما قال‏: { ‏خلق الإنسان‏}، { ‏وخلق الجان‏} ‏ دل ذلك على أن ما تقدم وما تأخر لهما‏،‏ وأيضا قال: ‏{سنفرغ لكم أيها الثقلان‏}، خطاب للإنس والجن، وقال أيضاً:‏ { ‏يا معشر الجن والإنس‏}
ومعنى { ‏ والآلاء } في اللغة النعم، وهو قول جميع المفسرين، واحدها إِلًى وأَلًى مثل مِعىً وعصًا.
  ثم ذكر خلق الإنسان من صلصال، وذكر خلق الجان من مارج من نار، ثم سألهم فقال‏: { ‏فبأي آلاء ربكما تكذبان‏} أي بأي قدرة ربكما تكذبان.
تكرار آية { فبأي آلاء ربكما تكذبان‏} :
إن لله في كل خلق بعد خلق قدرة بعد قدرة، فالتكرار في هذه الآيات للتأكيد والمبالغة في التقرير، واتخاذ الحجة عليهم بما وقفهم على خلق الخلق‏.‏ وقال القتبي‏:‏ إن الله تعالى عدد في هذه السورة نعماءه، وذكر خلقه آلاءه، ثم أتبع كل خلة وصفها ونعمة وضعها بهذه وجعلها فاصلة بين كل نعمتين لينبههم على النعم ويقررهم بها، كما تقول لمن تتابع فيه إحسانك وهو يكفره ومنكره‏:‏ ألم تكن فقيرا فأغنيتك أفتنكر هذا‏؟‏‏!‏ ألم تكن خاملا فعززتك أفتنكر هذا‏؟‏‏!‏ ألم تكن راجلا فحملتك أفتنكر هذا‏؟‏‏!‏ والتكرير حسن في مثل هذا‏.‏ وقال الحسين بن الفضل‏:‏ التكرير طردا للغفلة، وتأكيدا للحجة‏.
عودة للتفسير:
قال تعالى : لما ذكر سبحانه خلق العالم الكبير من السماء والأرض، وما فيهما من الدلالات على وحدانيته وقدرته ذكر خلق العالم الصغير فقال: { ‏خلق الإنسان‏} باتفاق من أهل التأويل يعني آدم‏،‏ يذكر تعالى أنه خلقه { ‏من صلصال كالفخار‏} والصلصال الطين اليابس الذي يسمع له صلصلة، شبهه بالفخار الذي طبخ،‏ وقيل‏:‏ هو طين خلط برمل‏.
أختلاف ألفاظ خلق آدم في القرآن:
قال الله تعالى هنا‏: { ‏من صلصال كالفخار‏} وقال في الحجر: { ‏من صلصال من حمأ مسنون‏} [‏الحجر26‏]‏‏، وقال: ‏{ ‏إنا خلقناهم من طين لازب‏} [‏الصافات‏ 11‏]‏‏.‏ وقال:{ ‏كمثل آدم خلقه من تراب‏}[‏آل عمران‏ 59‏]‏ وذلك متفق المعنى، وذلك أنه أخذ من تراب الأرض فعجنه فصار طينا، ثم انتقل فصار كالحمأ المسنون، ثم انتقل فصار صلصالاً كالفخار‏.‏
وقال تعالى:{ ‏وخلق الجان من مارج من نار‏} قال الحسن‏:‏ الجان إبليس وهو أبو الجن‏، فكما ذكر الله خلق آدم أبو البشر ، أردف بخلق أبليس أبو الجن، ‏عن ابن عباس، وقال‏:‏ خلق الله الجان من خالص النار‏.‏ وعنه أيضا من لسانها الذي يكون في طرفها إذا التهبت‏،‏وقال أيضاَ: أنه اللهب الذي يعلو النار فيختلط بعضه ببعض أحمر وأصفر وأخضر،والمارج خلط النار، وأصله من مرج إذا اضطرب واختلط، ويروى أن الله تعالى خلق نارين فمرج إحداهما بالأخرى، فأكلت إحداهما الأخرى وهي نار السموم فخلق منها إبليس‏.‏ قال القشيري والمارج في اللغة المرسل أو المختلط، والمعنى ذو مرج، قال الجوهري في الصحاح‏:‏ و{ ‏مارج من نار‏} نار لا دخان لها خلق منها الجان‏، وروى الإمام أحمد عن عائشة قالت، قال رسول اللّه : (خُلِقت الملائكةُ من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم) "أخرجه مسلم والإمام أحمد" ‏{ ‏فبأي آلاء ربكما تكذبان‏}؟ ثم يقرر الله ربوبيته لكل شيء قال:{ رب المشرقين ورب المغربين} يعني مشرقي الصيف والشتاء، ومغربي الصيف والشتاء، وقال في موضع غيره :{ فلا أقسم برب المشارق والمغارب}( المعارج 40) وذلك باختلاف مطالع الشمس وتنقلها في كل يوم وبروزها منه إلى الناس، وقال: { رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً}( المزمل 9 والمراد منه جنس المشارق والمغارب، ولما كان في اختلاف هذه المشارق والمغارب مصالح للخلق من الجن والإنس قال: { فبأي آلاء ربكما تكذبان} ؟ا