Monday 29 February 2016

الأمثال في القرآن - مقدمة في تعريف الأمثال وأنواعها -1

   

  



الأمثال في القرآن 1
هذه سلسلة  جديدة من سلاسل علوم القرآن وتدبره ، نجوب في دستورنا العظيم ، في طيات كتابنا المكنون نتفكر في نوع محدد من آياته ؛ آيات الأمثال ، نبين معناها ، وفيما ضربت فيه والعبرة منها ، المعنى الجمالي فيها ، وكيف يزيد صورة ما مثل له وضوحا ، وقربا من الأفهام .

فالتمثيل هو القالب الذي يبرز المعاني في صورة حية تستقر في الأذهان، وذلك مثل تشبيه الغائب بالحاضر، والمعقول بالمحسوس، وقيام النظير على النظير، وكم من معنى جميل أكسبه التمثيل روعة وجمالا، فكان ذلك أدعى لتقبل النفس له، واقتناع العقل به، هو من أساليب القرآن الكريم في ضروب بيانه ونواحي إعجازه

الأمثال القرآنية عبر وتذكير للمتدبر:

قد أخبرنا الله تعالى أنه يضرب الأمثال في القرآن الكريم، فقال جل شأنه : ﴿ ولَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾( ٢٧ الزمر) وقال تعالى: ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾( ٢١  الحشر) وبين هذا رسول الله ، أخرج البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله :ـ "  إن القرآن نزل على خمسة أوجه؛ حلال،  وحرام،  ومحكم،ومتشابه،  وأمثال، فأعملوا بالحلال واجتنبوا الحرام، واتبعوا المحكم، وآمنوا بالمتشابه، واعتبروا بالأمثال." وفي مشكاة المصابيح ، قال الماوردي: من أعظم علم القرآن علم أمثاله، والناس في غفلة عنه لاشتغالهم بالأمثال وإغفالهم الممثلات، المثل بلا ممثل كالفرس بلا لجام، والناقة بلا زمام.

اجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام :

-
إيجاز اللفظ
-
إصابة المعنى
-
حسن التشبيه
- جودة الكفاية ، فهو نهاية البلاغة.
وقال ابن الجوزية : ففي الأمثال ما تأنس النفس به ، مما له أثر في سرعة قبولها وانقيادها لما ضرب لها مثله من الحق، مما لا يجحده أحد ولا ينكره،  وكلما ظهرت الأمثال ازداد المعنى ظهورا ووضوحا ، فالأمثال شواهد المعنى المراد، وهي خاصية العقل ولبه وثمرته.

الفوائد من ضرب الأمثال:
 ضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه أمور كثيرة منها:  التذكير والوعظ ، والحث والزجر،  والاعتبار والتقرير،  وتقريب المراد للعقل وتصويره بصورة المحسوس، فإن الأمثال تصور المعاني بصورة الأشخاص لأنها أثبت في الأذهان لاستعانة الذهن فيها بالحواس، وفي المثل تشبيه الخفي بالجلي والغائب بالمشاهد مما يعين على تقريب المعاني وبيانها الخفي منها.
 وتأتي أمثال القرآن مشتملة على بيان بتفاوت الأجر، وعلى المدح والذم، وعلى الثواب والعقاب، وعلى تفخيم الأمر أو تحقيره، وعلى تحقيق أمر أو إبطاله.
 قال تعالى: ﴿ .. وَضَرَبنا لَكُمُ الأَمثال (َ ٤٥ إبراهيم)  فامتن علينا بذلك لما تضمنه من الفوائد..
وقال الزمخشري: التمثيل إنما يصار إليه لكشف المعاني وإدناء المتوهم من الشاهد، فإن كان الممثل له عظيما كان الممثل به مثله، وإن كان حقيرا كان الممثل به كذلك.
 وفي ضرب الأمثال تبكيت للخصم الشديد الخصومة، وفيه أيضا من تقرير المقصود بما لا يخفى، فإنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثر وصف الشيء في نفسه، ولذلك أكثر الله تعالى في كتابه منها ،وفشت في كلام النبي وكلام الأنبياء والحكماء.

تعريف الأمثال

الأمثال جمع مَثَل، والمِثل والمَثيل: كالشبه والشبه والشبيه لفظا ومعنى، والمراد به هنا إبراز المعنى في صورة حسية تكسبه روعة وجمالا
 والمثل بهذا المعنى لا يشترط إن يكون له مورد ( اي مصدر للمشبه به )  كما لا يشترط أن يكون مجازا مركبا.
وأما المثل في الأدب:ـ  فهو قول محكي سائر بين الناس يقصد به تشبيه حال الذي حكي فيه بحال الذي قيل لأجله، أي يشبه مضربه بمورده ( أو مصدر سابق )  مثل: ( رب رمية من غير رامي ) أي:  رب إصابة للهدف أو الحق حصل من رام شأنه أن يخطئ في معظم أمره أو رميه ، وأول من قال هذا الحكم بن يغوث النقري، يضرب للمخطئ يصيب
 
الأمثال القرآنية لها صور عديدة :

وإذا نظرنا إلى أمثال القرآن التي يذكرها المؤلفون وجدنا أنهم يوردون الآيات، المشتملة على تمثيل حال أمر بحال أمر آخر، سواء أورد هذا التمثيل عن طريق:

أولاً : الإستعارة : ومن أنواعها:
1- الإستعارة التصريحية:
وهي حذف المشبه به ، والإتيان بالمشبه ، مثال قوله تعالى : { الر كِتابٌ أَنزَلناهُ إِلَيكَ لِتُخرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النّورِ } ( إبراهيم 1) ( أي من الكفر إلى الإيمان )

2- الإستعارة المكنية
صورة بيانية يتم فيها تصوير المشبه ، بشيء متعلق بالمشبه به المحذوف ، أو قرينة له أو شيء من صفاته، ومن أمثلتها في الإعجاز القرآني البليغ قول الله سبحانه وتعالى :(وَقَطَّعناهُم فِي الأَرضِ أُمَمًا) ( الأعراف 168)، فقد شبه تفريق الجماعات في الأرض بفصل الأجسام المتماسكة الذي هو التقطيع , واستعار الثاني للأول ، وجعل الجامع بينهما إزالة الاجتماع وهو داخل في مفهوم الطرفين المشبه والمشبه به ( التفريق والتقطيع )، ومثل قوله تعالى :( وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ) ( يس 37 )
فإن المستعار منه هو :كشط الجلد عن نحو الشاة ، والمستعار له : كشف الضوء عن مكان إلقاء ظلمة الليل . فيكون حال النهار حينئذ كحال الشاة تظهر من الجلد وتخرج من الإهاب ويترتب على ذلك ختام الآية ( فإذا هم مبصرون ) ولا يترتب عليه (فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ ).

ثانياً: التشبيه: وهو إما أن يكون :

1-تشبيه صريح: كقوله تعالى: ( إِنَّما مَثَلُ الحَياةِ الدُّنيا كَماءٍ أَنزَلناهُ مِنَ السَّماءِ فَاختَلَطَ بِهِ نَباتُ الأَرضِ) (يونس 24)  حيث أتي بالمشبه وهو الحياة الدنيا ، والمشبه به  وهو الماء ، ومثله قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) ( البقرة 17 ) ، ومثله في الحديث الصحيح، قوله : " إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكان منها طائفة قبلت الماء فانبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها طائفة أمسكت الماء فشرب الناس وسقوا وزرعوا وكانت منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، وذلك مثل ممن فقه في دين الله فنفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به. "  

ب- تشبيه غير صريح: وهو التشبيه الضمني، كقوله تعالى: (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) (  الحجرات 12 ) إذ ليس فيه تشبيه صريح فقد حذف المشبه به ولم يذكره 
.
ثالثاً : ما لم يشتمل على تشبيه ولا استعارة :  

أ-منها قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) ( الحج 73) ، فقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا) قد سماه الله مثلا وليس فيه استعارة ولا تشبيه.

ب- ومن هذا النوع الثالث ما يسمى الأمثال الكامنة: وهي وإن لم يصرح فيها بلفظ المثل: ولكنها عبارات تدل على معان رائعة في إيجاز، يكون لها وقعها إذا نقلت إلى ما يشبهها فإن الله تعالى ابتدأها دون أن يكون لها مصدر ( مورد ) من قبل ، وقد  جرت ( أو أرسلت ) مجرى الأمثال على السنة الناس ( أو كما يقولون : ذهبت مثلا  )

وتسمى ايضا الأمثال المرسلة ويمثلون لهذا النوع بأمثلة منها:
ما في معنى قولهم (خير الأمور أوسطها). ويستنبط من قوله تعالى:ـ
( لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ) ( البقرة 68)
وقوله تعالى: في النفقة: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِ‌فُوا وَلَمْ يَقْتُرُ‌وا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا) ( الفرقان67 )
وقوله تعالى في الصلاة:ـ (وَلَا تَجْهَرْ‌ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا) ( الإسراء 110)
و قوله تعالى في الإنفاق:ـ  (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورً‌) ( الإسراء  29 )

ومن الأمثال المرسلة أيضاً:  

 قوله تعالى على لسان نبيه يعقوب عليه السلام : (قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل) يوسف. وما أشبه ذلك، منها قوله تعالى: --(الآن حصحص الحق)  (يوسف  51)  -( ليس لها من دون الله كاشفة) ( النجم 58)  -( قضي الأمر الذي فيه تستفتيان) ( يوسف 41)  -(أليس الصبح بقريب) ( هود 81)  -(  لكل نبأ مستقر ) ( الأنعام 67)  
-(ولايحيق المكر السيء إلا بأهله ) ( فاطر 43) 
                       
حكم استخدام الأمثال المرسلة من القرآن على ألسنة الناس:

وقد  اختلفوا في حكم استخدام هذا النوع من الأمثال المرسلة من آيات القرآن من الآيات على ألسن الناس في أحاديثهم، فمنهم مؤيد ومعارض: فمن عارض استخدامه من بعض أهل العلم رآه خروجا عن أدب القرآن.       قال الرازي في تفسير قوله تعالى: (لكم دينكم ولي دين) الكافرون: جرت على عادة الناس بأن يتمثلوا بهذه الآية عند التاركة ، وذلك غير جائز لأنه تعالى ما أنزل القرآن ليتمثل به، بل يتدبر فيه، ثم يعمل بموجبه.
أما من أيده فرأى  أنه لا حرج في ما يظهر أن يتمثل الرجل بالقرآن في مقام الجد ، كأن يأسف أسفا شديدا لنزول كارثة قد تقطعت أسباب كشفها عن الناس فيقول: (ليس لها من دون الله كاشفة) ، أو يحاوره صاحب مذهب فاسد يحاول استهواءه إلى باطلة فيقول (لكم دينكم ولي دين)
 ولكن الإثم الكبير في أن يقصد الرجل إلى التظاهر بالبراعة فيتمثل بالقرآن حتى في مقام الهزل والمزاح.

رابعا :  المثل قد يراد به القصة والحال :

ويطلق المثل على الحال والقصة العجيبة الشأن، وبهذا المعنى فسر لفظ المثل في كثير من الآيات كقوله تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير أسن) ( محمد:15) ،  أي قصتها وصفتها التي يتعجب منها، وأشار الزمخشري إلى هذه المعاني الثلاثة في (كشافه) فقال: (والمثل في أصل كلامهم بمعنى المثل والنظير، ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده مثل) ثم قال: وقد استعير المثل للحال أو القصة أو الصفة إذا كان لها شأن وفيها غرابة.

هذه نبذة عن الأمثال ، ونبدأ بعون الله بتتبع أمثال القرآن حسب ورودها فيه ، في المرة القادمة إن شاء الله تعالى
 نسأل الله العون والتوفيق والسداد، فإنه وليّ ذلك والقادر عليه .