Monday 24 November 2014

تفسير مختصر وربط للآيت وبيان للمتشابهات – سورة الحجرات – ج 6



 


 سورة الحجرات – ج 6

الآيات التالية تبدأ بنداء عام ينادي به رب العالمين الناس أجمعين ، تحقيقا لكون دعوته  عالمية ، وأنه أرسل للناس كافة ، قال تعالى :
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ‌ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَ‌فُوا ۚ إِنَّ أَكْرَ‌مَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ‌ .(13) 
سبب النزول :
ذكروا في سبب النزول عدة أقوال منها:- عن ابن عباس قال: نزلت في ثابت بن قيس وقولِهِ في الرجل الذي لم يفسح له: ابن فلانة، فقال رسول الله : من الذَّاكِرُ فلانة؟ فقام ثابت فقال: أنا يا رسول الله، فقال: انظر في وجوه القوم، فنظر فقال: ما رأيت يا ثابت؟ فقال: رأيت أبيض وأحمر وأسود، قال: فإنك لا تَفْضُلُهم إلا في الدين والتقوى، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
- وقال مقاتل: لما كان يوم فتح مكة، أمر رسول الله بلالاً حتى أذّن على ظهر الكعبة، فقال عَتَّاب بن أَسِيد بن أبي العِيس: الحمد لله الذي قَبَض أبي حتى لم ير هذا اليوم، وقال الحارث بن هشام: أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذناً! وقال سُهَيل بن عَمْرو: إن يرد الله شيئاً يغيره، وقال أبو سفيان: إني لا أقول شيئاً أخاف أن يخبر به رب السماء. فأتى جبريل عليه السلام النبي ، وأخبره بما قالوا، فدعاهم وسألهم عما قالوا: فأقروا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وزجرهم عن التفاخر بالأنساب، والتَّكَاثُر بالأفوال والإزْدرَاءِ بالفقراء.
التفسير :
 هذه الآية ذكر ربنا فيها أدب التعامل مع الناس بشكل عام، وقد أخَّر الله ذكر أدب التعامل مع الناس في السورة وهذا ليرشدنا أنه قبل أن نتعامل مع الناس بأدب، علينا أن نحقق ونكتسب كل الآداب السابقة في التعامل مع رسولنا الكريم، وفيما بيننا، حتى نتميّز بأخلاقنا وآدابنا وحتى نترك عند الناس من غير المسلمين الإنطباع الحسن، لأن الخلق الحسن قد يفتح من البلاد وقلوب العباد ما لا تفتحه الحروب والمعارك. وكم من الناس دخلوا في الإسلام بأخلاق المسلمين الفاتحين لا بالسيف.
ولهذا قال تعالى بعد النهي عن الغيبة، واحتقار بعض الناس بعضاً، منبهاً على تساويهم في البشرية، وأنه خلقهم من نفس واحدة، وجعل منها زوجها وهما آدم وحواء وجعلهم شعوباً وهي أعم من القبائل، فجميع الناس ينسبون إلى آدم وحواء عليهما السلام ، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية، وهي طاعة الله تعالى ومتابعة رسوله ، { لتعارفوا}  أي ليحصل التعارف بينهم كل يرجع إلى قبيلته، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر) "أخرجه الترمذي وقال: حديث غريب". وقوله تعالى: { إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، أي إنما تتفاضلون عند االله تعالى بالتقوى لا بالأحساب. وقد وردت الأحاديث بذلك عن رسول الله ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله : (إن اللّه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) "أخرجه مسلم "  وفي قصة ثابت بن قيس السابقة قول النبي له: (أنظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلاّ أن تفضله بتقوى الله ) ""تفرد به أحمد"".
حديث آخر : وعن حذيفة رضي الله عنه قال، قال رسول الله : (كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على اللّه تعالى من الجعلان) "أخرجه البزار في مسنده"- والجِعْلان هي الخنفساء أو الصرد الأسود تحرك النتن والعذرة بأنفها.
وقوله تعالى: { إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ‌ } أي عليم بكم بأحوالكم خبير بدواخلكم، فيهدي من يشاء ويضل من يشاء، ويرحم من يشاء ويعذب من يشاء، وهو الحكيم العليم الخبير.
ثم يقول تعالى منكراً على الأعراب، الذين ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان، ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم بعد: { قَالَتِ الْأَعْرَ‌ابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَـٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا } ، وقد استفيد أن الإيمان أخص من الإسلام، ويدل عليه حديث جبريل عليه الصلاة والسلام، حين سأل عن الإسلام، ثم عن الإيمان، ثم عن الإحسان، فترقى من الأعم، إلى الأخص.
 روى الإمام أحمد، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: أعطى رسول اللهِ رجالاً ولم يعط رجلاً منهم شيئاً، فقال سعد رضي اللهُ تعالى عنه: يا رسول اللّه أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً شيئاً وهو مؤمن، فقال النبي : (أو مسلم؟) حتى أعادها سعد رضي اللهُ عنه ثلاثاً والنبي يقول: (أو مسلم؟) ثم قال النبي : (إني لأعطي رجالاً وأدع من هو أحبُّ إليَّ منهم، فلم أعطه شيئاً مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم) فقد فرق النبي بين المؤمن والمسلم، فدل على أن الإيمان أخص من الإسلام، ودل على أن ذاك الرجل كان مسلماً ليس منافقاً، لأنه تركه من العطاء، ووكله إلى ما هو فيه من الإسلام، فهنا هؤلاء الأعراب المذكورون في هذه الآية ليسوا بمنافقين، وإنما هم مسلمون لم يستحكم الإيمان في قلوبهم، فادعوا لأنفسهم مقاماً أعلى مما وصلوا إليه، فأدبهم الله في ذلك، وقد روي عن سعيد بن جبير ومجاهد { وَلَـٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} : أي استسلمنا خوف القتل والسبي، قال قتادة: نزلت في قوم امتنوا بإيمانهم على رسول الله ، فأدبهم الله تعالى فقال: { قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَـٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ  } أي لم تصلوا إلى حقيقة الإيمان بعد، وهو قد نفي حدوث الإيمان في الزمن الماضي على التكلم، وهذه الصيغة تعطي معنى آخر هو احتمال حدوث الفعل بعد ذلك، كما تقول مثلاً حينما تدخل البستان: البستان لمَّا يثمر بعد. أي: أنه سوف يُثمر فيما بعد.
لذلك قال العلماء في هذه الآية: أنها لم تُغلق في وجوههم باب الإيمان، وبشَّرت بأنهم سيؤمنون فيما بعد، ثم إن كشف القرآن لمستور قلوبهم وإخبار الرسول لهم بذلك هو الذي جعلهم يعيدون النظر في حالهم ويصلحون منها،ويدخل من شاءمنهم واتعظ ساحةَ الإيمان. ثم قال تعالى: { وَإِن تُطِيعُوا الله وَرَ‌سُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ} " يلتكم"  أي لا ينقصكم من أجوركم شيئاً كقوله عزَّ وجلَّ: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّ‌يَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّ‌يَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِ‌ئٍ بِمَا كَسَبَ رَ‌هِينٌ ﴿الطور ٢١﴾} ، وقوله تعالى: { إِنَّ اللهَ غَفُورٌ‌ رَّ‌حِيمٌ }  أي لمن تاب وأناب إليه سبحانه.
 وقوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ } أي إنما المؤمنون الكُمَّل { الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَ‌سُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْ‌تَابُوا} أي لم يشكوا ولا تزلزلوا، بل ثبتوا على حال واحدة، وهي التصديق المحض، { وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ۚ} أي وبذلوا مهجهم ونفائس أموالهم في طاعة اللهِ ورضوانه، { أُولَـٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } أي في قولهم إذا قالوا إنهم مؤمنون، لا كبعض الأعراب الذين ليس لهم من الإيمان إلا الكلمة الظاهرة.
آية وحيدة بهذا البيان:
في هذه الآية ميز الله تعالى أهل الإيمان وعرفهم بأنهم بعد إيمانهم بالله ورسوله بأنهم { ثُمَّ لَمْ يَرْ‌تَابُوا}، ثم جاء بميزة أخرى بأنهم لما لم يرتابوا، أنهم { وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ۚثم وصفهم بأنهم { أُولَـٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ }، وغالب ما يأتي هذا الوصف للمهاجرين ، كما قال سبحانه في سورة الحشر { للفقراء المهاجرين }، وفي آخر الآية قال عنهم، كما قال هنا { أُولَـٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ }( الحشر آية 9)  
 وقوله سبحانه وتعالى:  { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ االلهَ بِدِينِكُمْ }  أي أتخبروه بما في ضمائركم؟ { وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْ‌ضِ }  أي لايخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، { وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ، ثم قال تعالى:{ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا }  يعني الأعراب الذين يمنُّون بإسلامهم ومتابعتهم على الرسول ، يقول الله تعالى رداً عليهم:{  قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم }  فإن نفع ذلك إنما يعود عليكم وللهِ المنة عليكم فيه وليس العكس ، { بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }  أي في دعواكم ذلك، كما قال النبي للأنصار يوم حنين: " يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضُلاَّلاً فهداكم اللهُ بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم اللهُ  بي؟ وكنتم عالة فأغناكم اللهُ بي؟"  كلما قال شيئاً قالوا: اللهُ ورسوله أمنّ.
 وروى الحافظ البزار، عن ابن عباس رضي اللهُ عنهما قال: جاءت بنو أسد إلى رسول اللهِ فقالوا: يا رسول اللهِ أسلمنا، وقاتلتك العرب ولم نقاتلك، فقال رسول اللهِ : " إن فقههم قليل، وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم"  ونزلت هذه الآية،  ثم أعاد سبحانه وأكد الإخبار بعلمه بجميع الكائنات، وبصره بأعمال المخلوقات فقال { إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْ‌ضِۚ وَاللهُ بَصِيرٌ‌ بِمَا تَعْمَلُونَ

نهاية تقسير سورة الحجرات ، فلله الحمد والمنة

اللهم أنا نسألك بكل اسم هو لك ، سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، ـأو علمته أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ، وجلاء همومنا وأحزاننا ، اللهم علمنا منه ما جهلنا، وذكرنا منه ما نُسينا، وارزقنا حسن تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الحال الذي يرضيك عنا .... اللهم آمين