Thursday 31 March 2016

تفسير وربط للآيات وبيان المتشابهات – سورة المجادلة –ج 1




  



تفسير  وربط للآيات وبيان المتشابهات سورة المجادلة ج 1


سبب التسمية :
سُميتالمجادلة ‏لبيان قصة ‏المرأة ‏التي جادلت ‏النبي ‏وهى:‏‏ ‏خولة ‏بنت ‏ثعلبة ‏‏ ‏‏. ‏وتسمى ‏أيضا ‏‏" ‏ قد ‏سمع ‏‏" ‏‏، ‏‏" ‏الظهار"‏ ‏ .
التعريف بالسورة : 
1- سورة مدنية . 2-   من المفصل.  3- آياتها 22.
4-  ترتيبها الثامنة والخمسون          5- نزلت بعد " المنافقون "
6- بدأت باسلوب توكيد " قد سمع " ، ذُكِرَ لفظ الجلالة في كل آية من السورة ، اسم السورة " المجادِلة "
محور مواضيع السورة :

-هذه السورة لها أهداف كثيرة ، أول ما يظهر منها : تأكيد الله تعالى لأسماءه وصفاته، وبيان موجباتها وتوضيح لمعاني كثبر منها – سأشير إلى كل منها في موضعه.
-تناولت السورة أحكاما تشريعية كثيرة : منها : أحكام الظهار، والكفارة التي تجب على المُظَاهِر.
-حكم التناجي بين المؤمنين، ومنها الأمر بتقديم الصدقة عند مناجاة الرسول ، ونسخه.
- آداب المجالس.
-الأمر بعدم موادة أعداء الله ، وأحكامها، كما تحدثت عن المنافقين وعن اليهود .

التفسير :

قال تعالى : ( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ )
سبب نزول الآية :
قال الإمام أحمد: عن عُرْوَة، عن عائشة قالت:الحمد لله الذي وَسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلةُ إلى النبي تكلمه وأنا في ناحية البيت، ما أسمع ما تقول، فأنـزل الله، عز وجل: ( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ) إلى آخر الآية وهكذا رواه البخاري في كتاب التوحيد تعليقًا
وفي رواية لابن أبي حاتم عن الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عروة، عن عائشة، أنها قالت:" تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى علي بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله ، وهي تقول:يا رسول الله، أَكَلَ شبابي، ونَثَرت له بطني، حتى إذا كَبِرَت سِنِّي، وانقطع ولدي، ظَاهَر مِنِّي، اللهم إني أشكو إليك. قالت:فما برحت حتى نـزل جبريل بهذه الآية: ( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ) وقالت وزوجها أوس بن الصامت.
وقال ابن عباس: هي خولة بنت ثعلبة بن خويلد الخزرجية، كانت تحت أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت، وكانت حسنة الجسم، فرآها زوجها ساجدة فنظر عجيزتها فأعجبه أمرها، فلما انصرفت أرادها فأبت فغضب عليها قال عروة: وكان أمرا به لمم( غضب وحِدَّة في خلقه ) فأصابه بعض لممه فقال لها: أنت علي كظهر أمي. وكان الإيلاء والظهار من الطلاق في الجاهلية، فسألت النبي فقال لها: "حَرمتِ عليه " فقالت: والله ما ذكر طلاقا، ثم قالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي ووحشتي وفراق زوجي وابن عمي وقد نفضت له بطني، فقالﷺ: " حرمت عليه " فما زالت تراجعه ويراجعها حتى نزلت عليه الآية.
وروى الحسن: أنها قالت: يا رسول الله! قد نسخ الله سنن الجاهلية وإن زوجي ظاهر مني، فقال رسول الله : " ما أوحى إلي في هذا شيء " فقالت: يا رسول الله، أوحي إليك في كل شيء وطوي عنك هذا؟! فقال: " هو ما قلت لك "  فقالت: إلى الله أشكو لا إلى رسوله. فأنزل الله الآية.

من أسماء الله وصفاته :  

" السميع البصير ": أـظهر تعالى برهاناً عملياً لعامة خلقه، في لفته رائعة في قصة خولة بنت ثعلبة ،هي ما زالت تحكي لرسول الله  قصتها، والله ينزل عليه الحكم فيها، تعجب عائشة رضي الله عنها وتدهش مما حدث، بالرغم من بقينها أن الله سميع بصير،ولكن أن تشهد تأويل ذلك !!  تقول رضي الله عنها: الحمد لله الذي وَسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلةُ إلى النبي تكلمه وأنا في ناحية البيت، ما أسمع ما تقول، فأنـزل الله، عز وجل: الآية .
قال الحاكم أبو عبدالله في معنى السميع: إنه المدرك للأصوات التي يدركها المخلقون بآذانهم من غير أن يكون له شبيه، فسبحانه لا يشبه بخلقه ، ولا يشبهوا بجلاله، ولكن ذلك راجع إلى أن الأصوات لا تخفى عليه، والسمع والبصر صفتان كالعلم والقدرة، والحياة والإرادة، فهما من صفات الذات لم يزل الخالق سبحانه وتعالى متصفا بهما.

قصة عمر رضي الله عنه ،وخولة بنت ثعلبة:
وقد مر بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته والناس معه على حمار فاستوقفته طويلا ووعظته وقالت: يا عمر قد كنت تدعى عميرا، ثم قيل لك عمر، ثم قيل لك أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر، فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب، وهو واقف يسمع كلامها، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف؟ فقال: والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟ هي خولة بنت ثعلبة سمع الله قولها من فوق سبع سموات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟

لمسة بيانية :

ما الفرق بين لفظ الزوج (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا)  ( المجادلة 1) والبعل (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ )) البقرة 228)؟ (د.فاضل السامرائى)
الجواب:
البعل : هو الذكر من الزوجين ويقال:  زوج للأنثى والذكر.
في اللغة:  البعل من الإستعلاء ،  يعني السيد القائم المالك الرئيس هو البعل وهي عامة في كل شيء  وسُميّ كل مستعل على غيره بعلاً ( أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ) (125 الصافات)  لأنهم يعتبرونه سيدهم المستعلي عليهم.
ومثله : الأرض المستعلية : التي هي أعلى من غيرها تسمى بعلاً والبعولة هو العلو والاستعلاء .
ومنها أطلق على زوج المرأة بعل المرأة : لأنه سيِّدها ويصرف عليها والقائم عليها.
ولا يقال عن المرأة بعل ، وإنما بقال لها زوج ، وزوجة  .
أما لفظ الزوج : فهو للمواكبة والمشابهه ، ولذلك تطلق على الرجل والمرأة هي زوجه وهو زوجها ( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ) (35 البقرة)  الزوج يأتي من المماثلة سواء كانت النساء وغير النساء (احْشُرُواالَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ) (22  الصافات)  أي أمثالهم نظراءهم، ( وآخر من شكله أزواج ) ( سورة ص58)  أي ما يماثله.
 وقوله تعالى: ( وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ ) (31  النور)  يُنظر به الشخص ولا ينظر به المماثلة،  ولذلك هم يقولون أنه لا يقال في القرآن زوجه إلا إذا كانت مماثلة له:  قال تعالى: ( اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ ) (11 التحريم)  لم يقل زوج فرعون لأنها ليست مماثلة له، وكذلك قوله : امرأة لوط ، وامرأة نوح ،  لأنهما خالفن أزواجهن، هو مسلم وهي كافرة. لم يقل عنها:  زوج وإنما ذكر الجنس ( امرأة. )

روى الإمام أحمد: عن ابن عبد الله بن سلام، عن خويلة بنت ثعلبة قالت:فيَّ- والله- وفي أوس بن الصامت أنـزل الله صَدْرَ سورة « المجادلة » ، قالت:كنت عنده وكان شيخًا كبيرًا قد ساء خلقه، قالت:فدخل عليَّ يومًا فراجعته بشيء فغضب فقال:أنت عليَّ كظهر أمي. قالت:ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة، ثم دخل عليَّ فإذا هو يريدني عن نفسي. قالت:قلت:كلا والذي نفس خويلة بيده، لا تخلص إليَّ وقد قلت ما قلت، حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه. قالت:فواثبني وامتنعت منه، فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف، فألقيته عني، قالت:ثم خرجتُ إلى بعض جاراتي، فاستعرت منها ثيابًا، ثم خرجتُ حتى جئت رسول الله ، فجلست بين يديه، فذكرت له ما لقيت منه، وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه. قالت: فجعل رسول الله يقول: « يا خويلة ابنُ عمك شيخ كبير، فاتقي الله فيه » . قالت: فوالله ما برحت حتى نـزل فيَّ القرآن، فتغشى رسول الله ما كان يتغشاه، ثم سُرِّيَ عنه، فقال لي: « يا خويلة قد أنـزل الله فيك وفي صاحبك » . ثم قرأ عليَّ:( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) إلى قوله: ( وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) قالت:فقال لي رسول الله : « مُريه فليعتق رقبة » . قالت:فقلت يا رسول الله، ما عنده ما يعتق. قال: « فليصم شهرين متتابعين » . قالت:فقلت:والله إنه شيخ كبير، ما به من صيام. قال: « فليطعم ستين مسكينًا وسقًا من تَمر » . قالت:فقلت:يا رسول الله، ما ذاك عنده. قالت:فقال رسول الله : « فإنا سنعينه بعَرَقٍ من تمر » . قالت:فقلت:يا رسول الله، وأنا سأعينه بعَرَقٍ آخر، قال: « فقد أصبت وأحسَنْت، فاذهبي فتصدقي به عنه، ثم استوصي بابن عمك خيرًا » . قالت:ففعلت.

تفسير الآيات وتوضيح الأحكام:  

فقوله تعالى: ( الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ ) أصل الظهار مشتق من الظهر، وذلك أن الجاهلية كانوا إذا تظاهر أحد من امرأته قال لها:أنت عليَّ كَظَهْرِ أمي، ثم في الشرع كان الظهار في سائر الأعضاء قياسًا على الظهر، وكان الظهار عند الجاهلية طلاقًا، فأرخص الله لهذه الأمة وجعل فيه كفارة، ولم يجعله طلاقًا كما كانوا يعتمدونه في جاهليتهم. هكذا قال غير واحد من السلف.
وقال سعيد بن جبير:كان الإيلاء والظهار من طلاق الجاهلية، فوقت الله الإيلاء أربعة أشهر، وجعل في الظهار الكفارة. رواه ابن أبي حاتم، بنحوه.

قال ابن جرير:حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن أبي حمزة، عن عِكْرمة، عن ابن عباس قال:كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية:أنت عليَّ كظهر أمي، حُرِّمت عليه، فكان أول من ظاهر في الإسلام أوس بن الصامت- فجعل الله له ولزوجته منها مخرجا، أن جعل في الظِّهار الكفارة، ولم يجعله طلاقا كما كان في الجاهلية-.

وقوله: ( مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ ) أي:لا تصير المرأة بقول الرجل: « أنت عليَّ كأمي » أو « مثل أمي » أو « كظهر أمي » وما أشبه ذلك، لا تصير أمه بذلك، إنما أمه التي ولدته؛ ولهذا قال: ( وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا ) أي:كلامًا فاحشًا باطلا ( وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ) أي:عما كان منكم في حال الجاهلية. وهكذا أيضًا عما خرج من سبق اللسان، ولم يقصد إليه المتكلم.كما في الحديث السابق الذي قال لامرأته : أنت أختي. فقال له رسول الله :" أختك هي؟ فهذا إنكار ولكن لم يحرمها عليه بمجرد ذلك؛ لأنه لم يقصده، ولو قصده لحرمت عليه.
من أسماء الله وصفاته:
العفوُّ سبحانه هو الذي يحب العفو والستر، ويصفح عن الذنوب الخطايا  مهما كان شأنها ، يعفو عن المسيء كَرَمًا وإحسانًا، ويفتح واسع رحمته فضلاً وإنعامًا.
"العفو ": هو التجاوُزُ عن الذنب وتَرْك العِقاب عليه، وأَصله المَحْوُ والطمْس، ومن معاني عفو الله تعالى عن خلقه: تركه إيّاهم فلا يعاقبهم، فضلاً منه تعالى.
قال الخليل "العفو : تركُكَ إنسانًا استوجَبَ عُقوبةً فعفوتَ عنه تعفُوِفلا تعاقبه، والله العَفُوُّ الغَفور.
و" الغفور" : الغفر: هو التغطية ، ومنه : المغفر( وهو ما يلبسه المحارب على رأسه يغطيه حمايه) فسبحانه يستر العيوب ولا يحب الجهر بها،
وفي الآية ( وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا  وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) ، جاء سبحانه بغير المتوقع ، عظّم الجرم : قالوا منكرا وزوراً ، ووصف نفسه عز وجل بأنه( العفو) وهو مرتبه عالية في محو الذنوب وهو الغاية ، فيا من وقعت بالذنوب حتى ظننت أن لا مرجع منها ، مرجعك إلى العفو العفور، فر من ذنبك إليه.

عودة للتفسير :

وقوله: ( وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا ) اختلف السلف والأئمة في المراد بقوله: ( ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا )  قال الشافعي:هو أن يمسكها بعد الظهار زمانًا يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق، ولا يؤدي الكفارة فيعود.
وقال أحمد بن حنبل:هو أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه فلا تحل له حتى يكفر بهذه الكفارة. وقد حكي عن مالك:أنه العزم على الجماع أو الإمساك وعنه أنه الجماع.
وقال سعيد بن جبير: ( ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا ) يعني:يريدون أن يعودوا في الجماع الذي حرموه على أنفسهم.
وعن ابن عباس: ( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ) والمس:النكاح. وقال الزهري:ليس له أن يقبلها ولا يمسها حتى يكفر.
وقد روي أهل السنن من حديث عكرمة، عن ابن عباس أن رجلا قال:يا رسول الله، إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر. فقال: « ما حملك على ذلك يرحمك الله؟ » . قال:رأيت خلخالها في ضوء القمر. قال: « فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله، عز وجل » (قال الترمذي:حسن غريب صحيح ورواه أبو داود والنسائي )
وقوله: ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) أي: فإعتاق رقبة كاملة من قبل أن يتماسا.
وقوله: ( ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ ) أي: تزجرون به ( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي:خبير بما يصلحكم، عليم بأحوالكم.
وقوله: ( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ) وقد تقدمت الأحاديث الواردة بهذا على الترتيب، كما ثبت في الصحيحين في قصة الذي جامع امرأته في رمضان.
( ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ) أي:شرعنا هذا ليثبت ويتعمق إيمانكم، ويزداد، ( وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ) أي:محارمه فلا تنتهكوها.
وقوله: ( وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) أي:الذين لم يؤمنوا ولا التزموا بأحكام هذه الشريعة، لا تعتقدوا أنهم ناجون من البلاء، كلا ليس الأمر كما زعموا، بل لهم عذاب أليم، أي:في الدنيا والآخرة.
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) ، يخبر تعالى عمن شاقوا الله ورسوله وعاندوا شرعه ( كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) أي:أهينوا ولعنوا وأخزوا، كما فعل بمن أشبههم ممن قبلهم ( وَقَدْ أَنـزلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) أي:واضحات لا يخالفها ولا يعاندها إلا كافر فاجر مكابر، ( وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ) أي:في مقابلة ما استكبروا عن اتباع شرع الله، والانقياد له، والخضوع لديه.

أحكام فقهيه من هذه الآيات:

-حقيقة الظهار : تشبيه ظهر بظهر، والموجب للحكم منه تشبيه ظهر محلل بظهر محرم، ولهذا أجمع الفقهاء على أن من قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي أنه مظاهر. وأكثرهم على أنه إن قال لها: أنت علي كظهر ابنتي أو أختي أو غير ذلك من ذوات المحارم أنه مظاهر. وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وغيرهما. ويدل عليه ما رواه أبو داود:أن رسول الله سمع رجلا يقول لامرأته:يا أختي. فقال:" أختك هي؟ وهذا دليل على أنه لا فرق على الصحيح بين الأم وبين غيرها من سائر المحارم من أخت وعمة وخالة وما أشبه ذلك.
-أصل الظهار أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. وإنما ذكر الله الظهر كناية عن البطن وسترا. فإن قال: أنت علي كأمي ولم يذكر الظهر، أو قال: أنت علي مثل أمي، فإن أراد الظهار فله نيته، وإن أراد الطلاق كان مطلقاً البتة عند مالك، وإن لم تكن له نية في طلاق ولا ظهار كان مظاهرا.
- لا ينصرف صريح الظهار بالنية إلى الطلاق، كما لا ينصرف صريح الطلاق وكنايته المعروفة له إلى الظهار، وكنايه الظهار خاصة تنصرف بالنية إلى الطلاق البت.
-ألفاظ الظهار ضربان: صريح وكناية:
 فالصريح منها أن يقول:  أنت علي كظهر أمي، وأنت عندي وأنت مني وأنت معي كظهر أمي. وكذلك أنت علي كبطن أمي أو كرأسها أو فرجها أو نحوه، وكذلك فرجك أو رأسك أو ظهرك أو بطنك أو رجلك علي كظهر أمي فهو مظاهر.
ومن شبهها بأمه أو بإحدى جداته من قبل أبيه أو أمه فهو ظهار بلا خلاف. وإن شبهها بغيرهن من ذوات المحارم التي لا تحل له بحال كالبنت والأخت، والعمة والخالة كان مظاهرا عند أكثر الفقهاء،
والكناية أن يقول: أنت علي كأمي أو مثل أمي فإنه يعتبر فيه النية. فإن أراد الظهار كان ظهارا، وإن لم يرد الظهار لم يكن مظاهرا عند الشافعي وأبي حنيفة. وعند مالك رضي الله عنه أنه ظهار، والدليل عليه أنه أطلق تشبيه امرأته بأمه فكان ظهارا. أصله إذا ذكر الظهر وهذا قوي فان معنى اللفظ فيه موجود - واللفظ بمعناه - ولم يلزم حكم الظهر للفظه وإنما ألزمه بمعناه وهو التحريم، قاله ابن العربي.
-الكفارة تجب إذا مس زوجته بعد الظهار، وذلك مفهوم لقوله تعالى:( وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فتَحْريرُ)  وهذا يدل على أن كفارة الظهار لا تلزم بالقول خاصة حتى ينضم إليها العود، وفُسر العود على أنه العزم على الوطء، وهو القول المشهور.
كفارة الظِّهار :
من ظاهر من زوجته وأراد العود فإنه يكفر عن ظهاره ، وكفارة الظِّهار كما ورد في الآيات هي على الترتيب، لا التخيير :
1- عتق رقبه لمن يجد الرقبه،وبستطيع أن يعتق .
2- إن لم يجد الرقبه فيصوم شهرين متتابعين،  فإن أفطر في أثنائهما بغير عذر استأنفهما( أي بدأ من جديد ) وإن أفطر لعذر من سفر أو مرض، فقيل: يبني ( اي : يكمل ما بدأ من الصيام ) ، قال مالك: إنه إذا مرض في صيام كفارة الظهار بنى إذا شُفي. ومن بدأ الصيام وتخلل صيامه زمان لا يحل صومه في الكفارة،  كالعيدين وشهر رمضان انقطع عن الصيام( أو صام لرمضان) ، ثم استأنف صيام الكفارة وبني على ما صام.
3- من لم يطق الصيام وجب عليه إطعام ستين مسكينا،  لكل مسكين مدان يمد النبي صلى الله عليه وسلم. إن أطعم مسكينا واحدا كل يوم نصف صاع حتى يكمل العدد أجزأه.
-استدل الجمهورعلى أن الأمةً لا ظهار لها: من قوله: ( مِنْ نِسَائِهِمْ ) فالأمة لم تدخل في هذا الخطاب ، فإنَّ الرجل لو ظاهر من أمته لا يصح، ولا يترتب عليه أحكام الظهار،  لأن حقيقة إطلاق النساء على (الزوجات) دون (الإماء) بدليل قوله تعالى:  ( أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) (النور 31] فقد غاير بينهن، فالمراد بالنساء في الآية الحرائر.  
-يصح ظهار العبد: قال القرطبي : قوله تعالى:( الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ ) يقتضي صحة ظهار العبد خلافا لمن منعه، لأنه من جملة المسلمين وأحكام النكاح في حقه ثابتة وإن تعذر عليه العتق والإطعام فإنه قادر على الصيام.
-ها هنا الرقبة مطلقة غير مقيدة بالإيمان، وفي كفارة القتل الخطأ مقيدة بالإيمان، قوله تعالى: ( وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِ‌يرُ‌ رَ‌قَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) ( النساء 92 )، والغالب أن يحمل ما أطلق الله في موضع على ما قيد في موضع آخر ، أذا اتحد الموجب، وهو عتق الرقبة، ويعتضد في ذلك بما روي عن مالك بسنده، عن معاوية بن الحكم السلمي، في قصة الجارية السوداء، وأن رسول الله قال: « أعتقها فإنها مؤمنة »  وقد رواه أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه
-ولا يقرب المظاهر امرأته ولا يباشرها ولا يتلذذ منها بشيء حتى يكفر، فإن جامعها قبل التكفير أثم وعصى ولا يسقط عنه التكفير.
-من ظاهر من زوجته ، ثم مسها قبل أن يكفر، سواء مس مرة أو أكثر ، فعليه كفارة واحدة.واستدلوا على ذلك من رواية عند الحافظ أبو بكر البزار: عن ابن عباس قال:أتى رسول الله رجل فقال:إني تظاهرت من امرأتي ثم وقعت عليها قبل أن أكفر. فقال رسول الله : « ألم يقل الله ( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ) قال:أعجبتني؟ قال: " أمسك حتى تكفر"
قال القرطبي :وظاهر الحديث أنه لا يجب عليه إلا بكفارة واحدة ، وإن عاد إلى المس قبل أداء الكفارة، فرسول الله أنه لم يأمره إلا بكفارة واحدة.

كفارة الظهار هي كفارة من جامع زوجته في يوم رمضان:

قال الإمام أحمد:  عن سلمة بن صخر الأنصاري قال:كنتُ امرأ قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري، فلما دخل رمضان تظهَّرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان، فَرَقًا من أن أصيب في ليلتي شيئا فأتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار، وأنا لا أقدر أن أنـزع، فبينا هي تخدمني من الليل إذ تكشف لي منها شيء، فوثبت عليها، فلما أصبحتُ غدوتُ على قومي فأخبرتهم خبري وقلت:انطلقوا معي إلى النبي فأخبره بأمري. فقالوا:لا والله لا نفعل؛ نتخوف أن ينـزل فينا - أو يقول فينا رسول الله مقالة يبقى علينا عارها، ولكن اذهب أنت فاصنع ما بدا لك. قال:فخرجتُ حتى أتيتُ النبي ، فأخبرته خبري. فقال لي: « أنت بذاك » . فقلت:أنا بذاك. فقال « أنت بذاك » . فقلت:أنا بذاك. قال « أنت بذاك » . قلت:نعم، ها أناذا فأمض فيّ حكم الله تعالى فإني صابر له. قال: « أعتق رقبة » . قال:فضربت صفحة رقبتي بيدي وقلت:لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها. قال: « فصم شهرين » . قلت:يا رسول الله، وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام؟ قال: « فتصدق » . فقلت:والذي بعثك بالحق، لقد بتنا ليلتنا هذه وَحْشَى ما لنا عشاء. قال: « اذهب إلى صاحب صدقة بني زُريق فقل له فليدفعها إليك، فأطعم عنك منها وسقًا من تمر ستين مسكينًا، ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك » . قال:فرجعت إلى قومي فقلت:وجدت عندكم الضيقَ وسوءَ الرأي، ووجدت عند رسول الله السَّعَة والبركة، قد أمر لي بصدقتكم، فادفعوها إليَّ. فدفعوها إليَّ. ( رواه أبو داود، وابن ماجة، واختصره الترمذي وحَسَّنه )
وظاهر السياق:أن هذه القصة كانت بعد قصة أوس بن الصامت وزوجته خُويَلة بنت ثعلبة، كما دلّ عليه سياق تلك وهذه بعد التأمل.

عودة للتفسير:
ثم قال: ( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ) وذلك يوم القيامة، يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، ( فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا ) أي:يخبرهم بالذي صنعوا من خير وشر ( أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ) أي:ضبطه الله وحفظه عليهم، وهم قد نسوا ما كانوا عليه، ( وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) أي:لا يغيب عنه شيء، ولا يخفى ولا ينسى شيئًا.



اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين ولا تجعلنا ضالين ولا مضلين