Saturday 30 July 2016

الأمثال في القرآن 9- المثل السابع - من سورة البقرة - لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى


  




لا تبطلوا صدقاتكم بالمنِّ والأذى: 

حث الله تعالى عباده المؤمنين على الإنفاق ووعدهم بالثواب الجزيل عليها، وضاعف هذا الثواب لمن أنفق في سبيل الله سبعمئة ضعف، بل وقال أنه يضاعف لمن يشاء فوق ذلك، وبين أن الصدقة التي يجزي عليها هي ما كانت في سبيل الله، وفقاً لشريعته، وكانت خالصة لوجهه الكريم لا يرتجي منفقها رياء ولا سمعة بين الناس كما بيَّنا في المثل السابق.
وفي آية المثل الذي بين أيدينا اليوم ينادي ربنا سبحانه وتعالى عباده المؤمنين نداء الرحيم بهم، الحريص عليهم أن لا تبطلوا ولا تحبطوا صدقاتكم وقد خرجت من أيديكم بالمنِّ عليها، وأذية من تصدقتم عليه مشبهاً إبطال الصدقات بحال صدقات المنافق الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر في بطلان صدقته.
قال عز وجل في علاه:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (البقرة:264)

تفسير الآية:

بعد أن رغّب تعالى في الصدقات ونبّه إلى ما يبطل أجرها وهو المنّ والأذى نادى عباده المؤمنين فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.. ) ناهياً عن إفساد صدقاتهم وإبطال ثوابها فقال بالمن فيها،
قوله تعالى :ـ ( لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ) الإبطال للشيء يكون بعد وجوده؛ فالبطلان لا يكون غالباً إلا فيما تم ؛ و «الصدقات» جمع صدقة؛ وهي ما يبذله الإنسان تقرباً إلى الله.
قوله تعالى: ( بِالْمَنِّ وَالْأَذَى) الباء للسببية؛ و ( الْمَنِّ ) ذكر المنفق أو المعطي عطيته على الوجه الذي يؤذي من أعطاه ، إظهار أنك مانّ عليه، وأنك فوقه بإعطائك إياه؛ و ( الْأَذَى) أن تذكر ما تصدقت به عند الناس فيتأذى به.
قوله تعالى: ( كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ )؛ الكاف هنا للتشبيه؛ وهي خبر مبتدأ محذوف؛ والتقدير: مثلكم كالذي ينفق ماله رئاء الناس؛و( رِئَاءَ ) مفعول لأجله؛ وهي مصدر راءى يرائي رئاءً ومراءاة.
و( الرياء) فِعل العبادة أو الخير ليراه الناس، فيمدحوه عليها.
قوله تعالى: (وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) معطوف على قوله تعالى: ( ينفق )؛ وهذا الوصف ينطبق على المنافق؛ فالمنافق - والعياذ بالله - لا يؤمن بالله، ولا باليوم الآخر؛ ولا ينفق إلا مراءاةً للناس؛ ومع ذلك لا ينفق إلا وهو كاره، كما قال تعالى: ( وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ) [النساء: 142] ، وقال أيضاً: ( وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) [التوبة: 54] ؛ هؤلاء لا ينفقون إلا وهم كارهون؛ لأنهم لا يرجون من هذا الإنفاق ثواباً؛ إذ إنه لا إيمان عندهم. 

المَثَل:

ولينفر المنفق من الرياء مثله بهذا المثل: ( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ) أي هذا المنفق رياءً كشِبْه صفوان؛ وهو الحجر الأملس الذي عليه تراب يغطيه، فيحسبه الناظر إليه أنه أرض خصبة تحمل الزرع، ( فَأَصَابَهُ وَابِلٌ ) الوابل هو: مطر شديد الوقع سريع التتابع؛ وهذا النوع من المطر بهذه الشدة يزيل التراب عن الصخر الأملس، وجعله أملسا ليكون إزاله التراب عنه أسهل؛ ولهذا يقول تعالى: ( فَتَرَكَهُ صَلْداً) أي ترك الوابلُ هذا الصفوانَ أملس ليس عليه تراب.
وجه الشبه بين المرائي والصفوان الذي عليه تراب، أن من رأى المنافق في ظاهر حاله ظن أن عمله نافع له؛ وكذلك من رأى الصفوان الذي عليه تراب ظنه أرضاً خصبة طينية تنبت العشب؛ فإذا أصابها الوابل الذي ينبت العشب، سحق التراب الذي عليه، فزال الأمل في نبات العشب عليه من الوابل؛ ولهذا قال تعالى: ( لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا )؛ ويرجع الضمير في ( يَقْدِرُونَ ) على ( الَّذِي ) في قوله تعالى: ( كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ )؛ لأن ( الَّذِي ) اسم موصول يفيد العموم؛ فهو بصيغته اللفظية مفرد، وبدلالته المعنوية جمع؛ لأنه عام؛ وسمى الله عز وجل ما أنفقوا كسباً باعتبار ظنهم أنهم سينتفعون به.
قوله تعالى: ( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)  أي لا يهدي سبحانه الكافرين هداية توفيق؛ أما هداية الدلالة فإنه سبحانه لم يَدَع أمة إلا بعث فيها نبياً؛ لكن الكافر لا يوفقه الله لقبول الحق.

 الرياءمن الشرك الخفي:

فالرياء هو الشرك الخفي، وهو شرك السرائر -أعاذنا الله منها- ولعل أوضح علامات الرياء أن صاحبه يتقصد إظهار أعماله الصالحة بين الناس، ويتعمد الحديث عن حسناته وطاعاته من أجل أن ينال مدح الناس وثنائهم عليه.  والمكلف هو أدرى الناس بنفسه كما قال عز وجل: (بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ )( القيامة 14)،  فمن حاسب نفسه وراقب ربه في السر والعلن سلم من هذا الداء العضال، 

ترك الطاعات التي أعتادها الإنسان مخافة الرياء هو رياء:

وليس للعبد أن يترك الطاعات التي عزم على فعلها خوف الرياء، فإن ذلك من مكايد الشيطان، إذ الشيطان يحرص على إيقاع العبد في الرياء تارة، من أجل أن يفسد عمله، أو يزين له ترك العمل خوف الرياء تارة أخرى، من أجل أن يقطعه عن الصالحات، والمتعين العمل والحرص على فعل الطاعات ابتغاء وجه الله، ومدافعة وساوس الشيطان ومكايده، فمن عزم على عبادة وتركها مخافة الرياء فهو مراء، لأنه ترك العمل لأجل الناس، لكن لو تركها أمام الناس ليعملها في خلوة فهذا مستحب، إلا أن تكون فريضة، فالأولى فعلها حال وجوبها.
 
علاج الرياء:

- وعلاج الرياء بأمور كثيرة، وأهمها العزيمة الصادقة على التخلص منه والإقلاع عنه.
-      وتذكر اليوم الآخر والوعيد الشديد في شأن المرائي، وأن يوقن العبد أن النفع والضر بيد الله تعالى، وأن الذي ينظر إلى المدرح منه هو الله تعالى وحده لا شريك له، وأن يحاسب نفسه ويتفقد عيوبه وآفاته وتقصيره، وأن يكثر من العبادة السر من صلاة ليل وصدقة سر، والبكاء خالياً من خشية الله.

-      الإستعانة بالله على تقوية الإخلاص في قلبه، والدعاء بما دعا به رسول الله : " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لاَ أَعْلَمُ" ( رواه البخاري في الأدب المفرد)


فوائد الآية:

1-  حرمة المن والأذى في الصدقات وفسادها بها.
2-  بطلان صدقة المان والمؤذي والمرائي بهما.
3- حرمة الرياء وهي من الشرك لما روي عن محمود بن لبيد الأنصاري أن رسول الله قال: "إنَّ أخوفَ ما أخافُ علَيكم الشِّركُ الأصغر "ُ قالوا : وما الشِّركُ الأصغرُ يا رسولَ اللَّهِ ؟ قالَ :" الرِّياءُ، يقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ إذا جزَى النَّاسَ بأعمالِهِمِ : اذهبوا إلى الَّذينَ كنتُمْ تُراءونَ في الدُّنيا فانظروا هل تجدونَ عندَهُم جزاءً "( الترغيب والترهيب ، قال عنه الألباني إسناده جيد)
وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله قال: " قال اللهُ تباركَ وتعالَى: أنا أغنَى الشركاءِ عن الشركِ، مَن عمِل عملًا أشرك فيه معِي غيرِي ، تركتُه وشركَه" ( رواه مسلم)
إلا من قصد بعمله أنه إذا رآه الناس يتأسوا به، ويسارعوا فيه فهي نية حسنة لا تنافي الإخلاص؛ لأن النبي صلى على المنبر، وقال: "  يا أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلَّموا صلاتي" ( صحيح أبي داوود ) وفي الحج كان يقول: " لتأخذوا عني مناسككم" ( صحيح الجامع ، عن جابر بن عبد الله )؛ وهو داخل في قول النبي : "مَنْ سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حسَنةً فلهُ أجرُها ، وأجرُ مَنْ عمِلَ بِها من بعدِهِ ، من غيرِ أنْ يُنقَصَ من أُجورِهمْ شيءٌ ، ومَنْ سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً سيِّئةً فعليهِ وِزرُها ، ووِزرُ مَنْ عمِلَ بِها من بعدِهِ ، من غيرِ أنْ يُنقَصَ من أوْزارِهمْ شيءٌ " ( صحيح الجامع، عن جرير بن عبد الله )
أعمال الدنيا ليست من الرياء:
ولا يعد من الرياء من عمل عملا ليس مما يقصد به وجه الله ليراه الناس ، مثل أن يلبس جميلا بدون اختيال ولا كبرياء، ويجمل منزله ومركوبه ويكبره،  وغير ذلك من أمور الدنيا، والإنسان العاقل يجعل العمل لله: لله؛ والعمل للناس: للناس؛ وهذا ما بينه رسول الله في لما قال: " لا يدخلُ الجنَّةَ من كانَ في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ من كبرٍ ولا يدخلُ النَّارَ يعني من كانَ في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ من إيمانٍ"  قالَ:  فقالَ لَه رجلٌ إنَّهُ يعجبني أن يَكونَ ثوبي حسنًا ونعلي حسنةً،  قالَ: " إنَّ اللَّهَ يحبُّ الجمالَ ولَكنَّ الكبرَ من بطرَ الحقَّ وغمصَ النَّاسَ" ( صحيح الترمذي عن عبد الله بن مسعود )
فمن أحب أن يخرج للناس في ثوب جميل: فلا بأس أن يتجمل ليراه الناس على هذه الحال؛ لكن، العبادة وما كان لله فلا يشرك به العاقل نظر الناس إليه.

اللهم أنّا نعوذ بك أن نشرك بك ما نعلم ، ونستغفرك ربي مما لا نعلم