Thursday 27 February 2014

تفسير مختصر وربط للآيات وبيان المتشابهات لتثبيت الحفظ - سورة الفتح - ج 1




 سورة الفتح  ج 1

سورة الفتح وهي مدنية وعدد ىياتها 29 آية.

نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله من الحديبية، في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة، حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام، وحالوا بينه وبين العمرة، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة، وأن يرجع عامه هذا ثم يأتي العام القادم، فأجابهم إلى ذلك على كره من جماعة من الصحابة، فلما نحر هديه حيث أحصر ورجع، أنزل الله عزَّ وجلَّ هذه السورة.

وجعل ذلك الصلح فتحاً باعتبار ما فيه من المصلحة، وما آل الأمر إليه، كما روى ابن مسعود رضي الله عنه وغيره أنه قال: إنكم تعدون الفتح فتح مكة ونحن نعد الفتح صلح الحديبية.

ما أكرم الله به المسلمين في الحديبية من المعجزات:ـ

 اكرم الله تعالى عباده عند بئر الحديبية أن سقاهم حيث عطشوا ، وذلك بمعجزة أكرم بها نبيه ، روى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال:( تعدون أنتم الفتح فتح مكة-  وقد كان فتح مكة فتحاً- ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية؛  كنا مع رسول اللّه أربع عشرة مائة والحديبية بئر فنزحناها، فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك رسول اللّه ، فأتاها فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء، فتوضأ ثم تمضمض ودعا ثم صبه فيها، فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركائبنا )  

التفسير :  

قال تعالى :
(إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا  *  لِّيَغْفِرَ‌ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‌ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَ‌اطًا مُّسْتَقِيمًا  * وَيَنصُرَ‌كَ اللهُ نَصْرً‌ا عَزِيزًا)1-3  

فالفتح هنا هو صلح الحديبية، حين صد المشركون رسول الله لما جاء معتمرا في قصة طويلة، صار آخر أمرها أن صالحهم رسول الله على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين، وعلى أن يعتمر من العام المقبل، وغيره من بنود المعاهدة التي سنذكرها في حينها إن شاء الله .
وقال تعالى : ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ )  فرتب الله على هذا الفتح عدة أمور منها ما أكرم الله تعالى نبيه بأن غفر له من تقدم من ذنبه وما تأخر وذلك -والله أعلم- بسبب ما أظهر من  الطاعة المطلقة ، وبما تحمله  من تلك الشروط التي لا يصبر عليها إلا أولو العزم من المرسلين، وهذا من أعظم مناقبه وكراماته ، أن غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.لا يشاركه فيها نبي .
( وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ )  بإعزاز دينك، ونصرك على أعدائك، ( وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ) أي بما شرعه لك من الشرع العظيم والدين القويم،  فتنال به السعادة الأبدية.
( وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا ) عزيزاً أي: قويا لا يتضعضع فيه الإسلام، بل يحصل الانتصار التام، وقمع الكافرين وذلهم ، بسبب خضوعك لأمر الله عزَّ وجلَّ يرفعك اللّه وينصرك على أعدائك، كما جاء في الحديث الصحيح: (وما زاد اللّه عبداً بعفو إلا عزاً وما تواضع أحد للّه عزَّ وجلَّ إلا رفعه اللّه تعالى)، وعن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنه قال: ما عاقبتَ أحداً عصى اللّه تعالى فيك بمثل أن تطيع الله تبارك وتعالى فيه.
  وقوله تعالى : (  هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) يخبر تعالى عن منته على المؤمنين بإنزال السكينة في قلوبهم، والسكينة: هي السكون والطمأنينة، والثبات عند نزول المحن المقلقة، التي تشوش القلوب، وتضعف النفوس، فمن نعمة الله على عبده أن ينزل عليه السكينة فتطمئن نفسه، فيتقبل أمر الله ، ويقيم ما أمر الله في هذه الحال، فيزداد بذلك إيمانه، ويزداد يقينه، فالصحابة رضي الله عنهم لما جرى ما جرى بين رسول الله والمشركين، من تلك الشروط التي ظاهرها أنها غضاضة عليهم، وحط من أقدارهم، وتلك لا تكاد تصبر عليها النفوس، فلما صبروا عليها ، وعملوا بما أمروا ازدادوا بذلك إيمانا مع إيمانهم.
وقوله: ( وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا ) أي: جميع ما فيهما في ملكه، وتحت تدبيره وقهره وتعمل بأمره  يصرفها حيث يشاء لينصر دينه ونبيه، والله تعالى عليم حكيم، فيعلم سبحانه طاعة المسلمين له مع شدة ذلك عليهم، وتقتضي حكمته المداولة بين الناس في الأيام، وتأخير نصر المؤمنين إلى وقت آخر.وما ذلك إلا لأنه قد أدخر لهم الفضل العظيم ، وهو....
( لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزًا عَظِيمًا *) فهذا أعظم ما يحصل للمؤمنين، أن يحصل لهم المرغوب المطلوب بدخول الجنات، ويزيل عنهم المحذور بتكفير السيئات، وذلك بخضوعهم لأمر الله تعالى ، وتسليمهم له تعالى، وهذا الجزاء المذكور للمؤمنين هو الفوز العظيم الذي فازوا به في ذلك الفتح المبين.
وعن أنس بن مالك رضي اللّه عنه، قال: نزلت على النبي ﷺ ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) مرجعه من الحديبية، قال النبي : (لقد أنزلت عليَّ الليلة آية أحب إليَّ مما على الأرض) ثم قرأها عليهم النبي فقالوا: هنيئاً مريئاً يا نبي الله، بيّن الله عزَّ وجلَّ ما يفعل بك، فما يفعل بنا؟ فنزلت عليه ( لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا *)
( وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ  دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا )  
وأما المنافقون والمنافقات، والمشركون والمشركات، فإن الله يعذبهم بذلك، حيث أنهم ظنوا بالله الظن السوء، أنه لا ينصر دينه، ولا يعلي كلمته، وأن أهل الباطل، ستكون لهم الدائرة على أهل الحق، فأدار الله عليهم ظنهم، وكانت دائرة السوء عليهم في الدنيا، ( وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ ) بما اقترفوه من المعادات لله ولرسوله، ( وَلَعَنَهُمْ ) أي: أبعدهم وأقصاهم عن رحمته ( وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا )

( ولله جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا )
كرر الإخبار بأن له ملك السماوات والأرض وما فيهما من الجنود، ليعلم العباد أنه تعالى هو المعز المذل، وأنه سينصر جنده الذين ينصرون دينه لا محال، وقوله تعالى: ( وَكَانَ الله عَزِيزًا ) أي: قويا غالبا، قاهرا لكل شيء، ومع عزته وقوته فهو حكيم في خلقه وتدبيره، يجري على ما تقتضيه حكمته وإتقانه.
 وأعاد لأن الذي سبق عقيب ذكر المشركين من قريش، وهذا عقيب ذكر المنافقين وسائر المشركين. والمراد في الموضعين التخويف والتهديد. فلو أراد إهلاك المنافقين والمشركين لم يعجزه ذلك، ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى 
.
متشابه :
لاحظي الفرق بين الآيتين : في الأولى بعد ذكر إنزال السكينة في قلوب المؤمنين قال تعالى :  ( وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا ) عليم بهم ، حكيم في تأخير النصر ، وهنا في الثانية بعد ذكر ما يفعل بالمنافقين والمشركين ، قال ( وَكَانَ الله عَزِيزًا حَكِيمًا) أي قويا سبحانه لا يعجزه لا الكفار ولا المنافقين ، حكيما في تأقيت هزيمتهم ودحرهم .

وقوله تعالى : ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا )  
أي: ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ  شَاهِدًا) أيها الرسول الكريم إنما أرسلت شاهدا لأمتك بما فعلوه من خير وشر، ، وشاهدا لله تعالى بالوحدانية والانفراد بالكمال من كل وجه، ( وَمُبَشِّرًا)  من أطاعك وأطاع الله بالثواب الدنيوي والديني والأخروي، ومنذرا من عصى الله بالعقاب العاجل والآجل، ورتب على ذلك قوله: ( لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ )
أي: بسبب دعوة الرسول لكم، وتعليمه لكم ما ينفعكم، أرسلناه ليتم لك الإيمان بالله ورسوله، المستلزم ذلك لطاعتهما في جميع الأمور.
( وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ) أي: تعزروا الرسول وتوقروه أي: تعظموه وتجلوه، وتقوموا بحقوقه، كما كانت له المنة العظيمة برقابكم، (  وَتُسَبِّحُوهُ  بُكْرَةً وَأَصِيلًا)  أي: تسبحوا لله أول النهار وآخره، فذكر الله في هذه الآية الحق المشترك بين الله وبين رسوله، وهو الإيمان بهما، والمختص بالرسول، وهو التعزير والتوقير، ومن التوقير له إن لا ينادى باسمه ، بل بالنبوة والرسالة ، وما جاء في سورة الحجرات من الآداب ، والمختص بالله، وهو التسبيح له والتقديس له بصلاة أو غيرها.
ثم قال عزَّ وجلَّ لرسوله تشريفاً له وتعظيماً وتكريماً: ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله ) من بايع النبي بالحديبية  عند الشجرة  إنما بايع الله،  فبين أن بيعتهم لنبيه إنما هي بيعة الله، كما قال تعالى (  من يطع الرسول فقد أطاع الله)  [النساء 80]. وهذه المبايعة هي بيعة الرضوان،(  يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)  أي هو حاضر معهم، يسمع أقوالهم ويرى مكانهم، ويعلم ضمائرهم وظواهرهم، فهو تعالى المبايع بواسطة رسوله، كقوله تعالى: ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون) (التوبة 111 )، وقال رسول الله : (من سل سيفه في سبيل الله فقد بايع الله) "أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي جرير مرفوعاً"، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال، قال رسول الله في الحجر: (واللهِ ليبعثنه اللهُ عزَّ وجلَّ يوم القيامة له عينان ينظر بهما ولسان ينطق به ويشهد على من استلمه بالحق، فمن استلمه فقد بايع الله تعالى)  قيل : يده في الثواب فوق أيديهم في الوفاء، ويده في المنة عليهم بالهداية فوق أيديهم في الطاعة. ونعمة الله عليهم فوق ما صنعوا من البيعة.
 (  فمن نكث)  بعد البيعة. (  فإنما ينكث على نفسه)  أي يرجع ضرر النكث عليه، لأنه حرم نفسه الثواب وألزمها العقاب. ( ومن أوفى بما عاهد عليهُ اللهَ )  قيل في البيعة. وقيل في إيمانه، فسيؤتيه أجراً عظيما ، وما أعظم من الجنَّة من أجر !! اللهم اجعلنا من أهلها  

 وقرأ حفص والزهري ( عليهُ) بضم الهاء. وجرها الباقون. ( فسيؤتيه أجرا عظيما)  يعني في الجنة.
والسبب في هذا الاختلاف هو أن أصل هذه الهاء هو الضمير المنفصل (هُو)، فهى في الأصل مضمومة نحو(  فوكزهُ ) و( لهُ )،  ولكنها إذا جاورت الكسرة أو الياء الساكنة – اللينة - فإنها تكسر مجانسة لهما ، فكسرها جمهور القراء مراعاة لذلك، وضمها حفص مراعاة لأصلها، ومثلها في هذا مثل الهاء في قوله تعالى: ( وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ( (الكهف: 63)
فهى مضمومة عند حفص خلافاً لما قرأ به الجمهور.