Tuesday 30 January 2018

شرح أحاديث نبوية شريفة- من كتاب رياض الصالحين - اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة



  


شرح  أحاديث من كتاب رياض الصالحين
باب فضل الزهد في الدنيا
والحث على التقلل منها، والإنشغال فيها بما يجنيه في آخرته، قبل أن يقول : ( يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي )

فالحياة هي حياة الدار الآخرة
قال تعالى: ( وَمَا هَـٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) ( العنكبوت  64)، فتلك هي الحياة التي يتمنى الإنسان لو أنه ازداد لها ، كما قال رسول الله قال:" لَو أنَّ رجلًا خرَّ على وجهِه مِن يومِ وُلِدَ إلى يومِ يَموتُ هرَمًا في طاعةِ اللهِ عزَّ وجلَّ لَحَقَرَه ذلكَ اليومَ ، ولودَّ أنَّهُ رُدَّ إلى الدُّنيا كَيما يزدادُ مِن الأجرِ والثَّوابِ" ( الترغيب والترهيب ، وصححه الألباني )

وقال تعالى : ( كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا *  وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *  وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ۚ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ *  يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي  (( الفجر 21 -24 )

فكل إنسان يوم القيامة يتذكر ما كان منه  من عمل،  ولا تنفعه يومها الذكرى، ( يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ) يعني:يندم على ما كان سلف منه من المعاصي - إن كان عاصيا- ويود لو كان ازداد من الطاعات - إن كان طائعا- وقوله (قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي )  أي قدمت عملا صالحا لحياتي، أي لحياةٍ لا موت فيها. فيرى الإنسان يومه أن لا حياة إلا حياة الآخرة، ويتمنى لو أنه قدم لها ما ينفعه فيها، وقيل : حياة أهل النار ليست هنيئة، فكأنهم لا حياة لهم؛ فالمعنى : يا ليتني قدمت من الخير لنجاتي من النار، فأكون فيمن له حياة هنيئة في الآخرة ، فهذه هي الحياة الحقة الباقية.

الحديث :

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله : " اللهُمّ ! إن العيشَ عيشُ الآخرةِ قال شعبةُ : أو قال : اللهمّ ! لا عيشَ إلا عيشُ الآخرهِ * فأكرمِ الأنصارَ والمهاجرةِ " . ( رواه مسلم )
شرح الحديث :
في هذا الحديث يقولُ سهلُ بنُ سعدٍ رضيَ اللهُ عنه: "كنَّا معَ رسولِ اللهِ في الخَندَقِ، وهم يَحْفِرونَ"
 والخَندقُ هو الحُفرةُ العَميقةُ والطَّويلةُ حولَ شَيءٍ مُعيَّنٍ أوْ في جِهةٍ معيَّنةٍ، وقدْ حفَرَ النبيُّ معَ أصْحابِهِ الخندقَ شَمالَ المدينةِ لِحمايتِها منَ الأَحزابِ التي جَمعَتْها قُريشٌ لحربِ النبيِّ وأَصحابِهِ.
وقولُهُ: "ونحنُ ننقُلُ التُّرابَ عَلى أكْتادِنا"؛ أي: عَلى أكتافِنا وظُهورِنا، و"الكَتَدُ" هو المَوضِعُ ما بينَ الكَتِفِ المُوصِل للعُنُقِ والظَّهرِ، وكانَ النبيُّ يُشارِكُهمْ في الحَفرِ بيدَيْهِ يحمِلُ معَهم التُّرابَ، وكانوا على هذِهِ الحالِ منَ التعَبِ والمشقَّةِ والخوْفِ والجوعِ، حيثُ لا عيشَ ولا حياةَ هانِئةٌ ولا مَعيشةَ صافيةٌ، وهُوَ ما يرجوهُ كلُّ إنسانٍ، فقالَ رسولُ الله مُبشِّرًا لهمْ: «اللَّهُمَّ لا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الآخِرَهْ، فَاغْفِرْ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ»، أيْ: لا عَيشَ على وَجهِ الحَقيقةِ إلَّا العيشُ في الآخِرةِ في رِضوانِ اللهِ ورَحمتِهِ، ثمَّ دعا النبيُّ لهمْ بالمغْفِرةِ للْمُهاجِرينَ الذين تَركوا دِيارَهمْ وأَمْوالهمْ يَبْتغونَ فَضلا مِنَ اللهِ ورِضوانًا، والأنصارُ الذينَ آوَوُا النبيَّ والمهاجِرينَ ونَصَروهمْ، وقاسَموهمْ في أموالِهِمْ.
وفي الحديثِ: بيانُ حالِ الشِّدَّةِ والخَوفِ الذي كانَ فيه المُسلِمونَ في حَفرِ الخَندقِ.
وفيه: بيانُ حُسْنِ مُلاطَفةِ النبيِّ للناسِ والتخْفيفِ عَنهمْ في أحْلكِ الظُّروفِ، وهذا شأنُ كلِّ داعيةٍ يُبشِّرُ ولا يُنفِّرُ.
وفيه: بيانُ مَنقبةِ المهاجِرينَ والأنْصارِ حيثُ فازُوا بدَعوةِ النبيِّ لهم بِالمغفرةِ.

الحديث الثاني:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله :" يؤتى بأنعمِ أَهلِ الدُّنيا من أَهلِ النَّارِ يومَ القيامةِ فيُصبغُ في النَّارِ صبغةً ثمَّ يقالُ يا ابنَ آدمَ هل رأيتَ خيرًا قطُّ هل مرَّ بِك نعيمٌ قطُّ فيقولُ لا واللَّهِ يا ربِّ ويؤتَى بأشدِّ النَّاسِ بؤسًا في الدُّنيا من أَهلِ الجنَّةِ فيُصبَغُ صبغةً في الجنَّةِ فيقالُ لهُ يا ابنَ آدمَ هل رأيتَ بؤسًا قطُّ هل مرَّ بِك شدَّةٌ قطُّ فيقولُ لا واللَّهِ يا ربِّ ما مرَّ بي بؤسٌ قطُّ ولا رأيتُ شدَّةً قطُّ" ( رواه مسلم )

شرح الحديث:
ما أَهْونَ الدُّنيا بِجِوارِ الآخِرَةِ! فلا تنشغلوا بالفاني وتنسوا الباقي

وفي هذا الحديثِ يُخْبِرُ أنَّه يُؤتَى يَومَ القِيامَةِ بأَكثَرِ النَّاسِ كانَ يَنْعَمُ في الدُّنيا، وأَشدِّهم نَعيمًا في بَدنِه وثِيابِه وأَهلِه وسَكنِه ودابَّتِه وغَيرِ ذلك، ويَكونُ في الآخرَةِ مِن أهلِ النَّارِ فيُصبَغُ، أي: يُغمَسُ في النَّارِ غَمسةً واحدةً، ثُمَّ يُقالُ له بَعدَ هَذه الغَمْسةِ: هَل رَأيتَ خَيرًا قَطُّ؟ هَل مَرَّ بِك نَعيمٌ قَطُّ؟ فَيَقولُ: لا واللهِ يا رَبِّ، يا ربِّ ما مرَّ بي بؤسٌ قطُّ ولا رأيتُ شدَّةً قطُّ" فتُنْسِيه تِلك الغَمسَةُ الواحدةُ كُلَّ نَعيمٍ ذاقَه في الدُّنيا، مهما طالَ عُمْرُه في نَعيمِ الدُّنيا، ومَهما تَمَتَّعَ بِملذَّاتِها، وشَهواتِها؛ فَكيفَ بِمَنْ هُو خالدٌ مُخلَّدٌ فيها أَبدَ الآبِدينَ؟!
ويُؤتَى يَومَ القيامَةِ بأَشدِّ النَّاسِ بُؤسًا مِن أهلِ الدُّنيا، في بَدنِه وأَهلِه ومالِه وسَكنِه وغَيرِ ذلك، وهُو في الآخِرةِ مِن أهلِ الجنَّةِ، فيُغمَسُ في الجنَّةِ غَمسةً واحدةً، فيُقالُ له: يا ابنَ آدمَ، هلْ رَأيتَ بُؤسًا قَطُّ؟ هَل مَرَّ بكَ شِدَّةٌ قطُّ؟ فيَقولُ: لا واللهِ يا رَبِّ! ما مَرَّ بي بُؤسٌ قَطُّ ولا رَأيتُ شِدَّةً قطْ.
في الحديثِ: شِدَّةُ غَبنِ مَن يُؤثِرُ القَليلَ الفانيَ على الكَثيرِ الباقي.
وفيه: بَيانُ حَقارةِ الدُّنيا بالنِّسبةِ لِلآخِرةِ.

اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أعمارنا آخرها ، وخير أيامنا يوم نلقاك يا رب العالمين،
اللهم إنّا نسألك رضاك والجنة