Tuesday 31 December 2013

فيما صح من الحديث فضائل سورة البقرة



ما صح من الحديث في فضائل سورة البقرة وشرحها 
معا تندبر أيات القرآن الكريم ونعتبر 

وما شيء معين على الحب والعمل بآيات الله خير من معرفة فضائل ما نزّله تعالى على الأمة التي اختارها لحمل كلامة سبحانه وتعالى في صدورها ، فتعالوا معي في جولة مع ما صح من احايث النبي المصطفى في فضائل سورة البقرة ، مع شرح موجز لها مما ورد في كتب الحديث والتفسير .
 
ففي فضل سورة البقرة ورد في مسلم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله   قال : ( لا تجعلوا بيتكم قبوراً ، فإن البيت الذي تُقرأ  فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان )
عن أبي أمامة الباهلي ‏ ‏قال :‏ ‏سمعت رسول الله   ‏يقول
 ( ‏اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه اقرءوا الزهراوين  ‏البقرة ‏ ‏وسورة آل عمران  ‏فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما ‏ ‏فرقان ‏من ‏طير صواف ‏‏تحاجّان ‏عن أصحابهما اقرءوا سورة ‏ ‏البقرة ‏ ‏فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها ‏ ‏البطلة  ) رواه مسلم
 قال المناوي في فيض القدير: أخذها يعني المواظبة على تلاوتها والتدبر لمعانيها والعمل بها بركة أي زيادة ونماء .والبطلة : يعني السحرة ، ولذا فأن سورة البقرة رقية ، يرقى بها من السحرة والشياطين ، ففيها الشفاء بإذن الله تعالى
ويذكر لنا النبي أنّ ترك قراءة هذه السورة حسرة ،، وتأمل كلمة حسرة أي ندامة ولكن على ماذا ؟ على ما فاته بتركها من البركة والخير والأجر الذي ياتي معها والذي فاته بعدم قراءة هذه السورة
 
وقال أيضا لا تستطيعها البطلة أي السحرة ، فهذه السورة بفضل الله تكون حامية لقارئها من السحر والمس والعين ، ومن كان به شئ من ذلك ، فإنه إذا واصل على قراءة هذه السورة فإن الشياطين لا تستطيع أن تقاومها ، فتضعف وتستسلم فيزول ما كانت تحرسه من السحر ويبطل ما كانت تعمله تأمل قوله : (لا تستطيعها البطلة)

ولكن ليس هناك دليل خاص يفيد كونها تزيد في الرزق أو تباركه، كما  يتداول بين الناس ،  ولكن ورد -على سبيل العموم- أن أخذها بركة.

وانظر كيف قدّم رسول الله صغير السن الذي يحفظ سورة البقرة  في قيادة سرية بعثها على من هو أكبر منه ، وأعلم ، فقد روى الترمذي عن أبي هريرة قال:
 بعث رسول الله بعثا وهم ذوو عدد ، فاستقرأهم فاستقرأ كل واحد منهم ، يعني ما معه من القرآن ، فأتى على رجل من أحدثهم سنا ، فقال : ما معك يا فلان ؟ قال : معي كذا وكذا وسورة البقرة ، فقال أمعك سورة البقرة ؟ قال : نعم . قال : اذهب فأنت أميرهم فقال رجل من أشرافهم : والله ما منعني أن أتعلم البقرة إلا أني خشيت ألا أقوم بها . فقال رسول الله : تعلموا القرآن واقرءوه ، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به كمثل جراب محشو مسكا يفوح ريحه في كل مكان ، ومثل من تعلمه ، فيرقد وهو في جوفه ، كمثل جراب أوكي على مسك] الترمذي وقال حديث حسن
تأمل رد النبي على من تعذر عن حفظ سورة  البقرة  بخشيته أن لا يقوم بحقها ، أوافقه ؟؟  بل فرّق بين من عمل به ، ومن حفظه في جوفه فقط بأن الذي يعمل به ، كمن يحمل وعاءً فيه مسك يفوح به أينما راح ، والثاني إنكفأ على المسك ( أي المسك مغطى مغلف ، لا يشم أحد رائحته ) 

وفي صحيح ابن حبان والحاكم وغيرهما أن رسول الله قال: إن لكل شيء سناما وإن سنام القرآن سورة البقرة، من قرأها في بيته ليلاً لم يدخل الشيطان بيته ثلاث ليالٍ. صححه الحاكم وحسنه الألباني.وفي لفظ : قال رسول الله ( لكل شيء سنام وإن سنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن هي آية الكرسي)
قوله  ( لكل شيء سًنام )  بفتح السين أي رفعة وعلو ، استعير من سَنام الجمل ، ثم كثر استعماله فيها حتى صار مثلا ومنه سميت " البقرة " سنام القرآن قاله الطيبي .
  وإن سنام القرآن سورة البقرة ) - إما لطولها واحتوائها على أحكام كثيرة أو لما فيها من الأمر بالجهاد وبه الرفعة الكبيرة

في فضل آية الكرسي :ـ
هي سيدة آي القرآن كما ورد في الحديث السابق قول رسول الله ( لكل شيء سنام وإن سنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن هي آية الكرسي)  ) جمع آية ( آية الكرسي ) بالرفع أي هي آية الكرسي وفيه إثبات السيادة لهذه الآية على جميع آيات القرآن ، وذلك شرف عظيم فإن سيد القوم لا يكون إلا أشرفهم خصالا وأكملهم حالا وأكثرهم جلالا.
 
- قراءتها حفظ للبيت والنفس من الشيطان وتسلطه ثابت عن النبي ، ففي صحيح البخاري وغيره: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وكلني رسول الله بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله ، قال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه فأصبحت، فقال النبي : يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة، قال: قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله أنه سيعود ،فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله ، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال لا أعود فرحمته فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله : يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك، قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم لا تعود ثم تعود، قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: الله لا إله إلا هو الحي القيوم حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربنك شيطان حتى تصبح. فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله : ما فعل أسيرك البارحة، قلت: يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: ما هي، قلت: قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: الله لا إله إلا هو الحي القيوم، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح. وكانوا أحرص شيء على الخير، فقال النبي : أما إنه قد صدقك وهو كذوب! تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ قال: لا، قال: ذاك الشيطان).
وفي تفسير ذلك قال القرطبي في تفسيره: قال أبو عبد الله -وهو الحكيم الترمذي-: فهذه آية أنزلها الله جل ذكره، وجعل ثوابها لقارئها عاجلا وآجلا، فأما في العاجل فهي حارسة لمن قرآها من الآفات، وروي لنا عن نوف البكالي أنه قال: آية الكرسي تدعى في التوارة ولية الله. يريد يدعى قارئها في ملكوت السموات والأرض عزيزاً، قال: فكان عبد الرحمن بن عوف إذا دخل بيته قرأ آية الكرسي في زوايا بيته الأربع، معناه كأنه يلتمس بذلك أن تكون له حارساً من جوانبه الأربع، وأن تنفي عنه الشيطان من زوايا بيته.

وعن علي رضي الله عنه قال: سمعت نبيكم يقول وهو على أعواد المنبر: (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت) ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله 
.
- آية الكرسي لها لسانا وشفتين:ـ  لما في مسند أحمد عن أبي بن كعب: أن النبي سأله ( أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: الله ورسوله أعلم فرددها مراراً ثم قال أبي: آية الكرسي، قال: ليهنك العلم أبا المنذر.. والذي نفسي بيده إن لها لسانا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

-قال رسول الله :  (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة  لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت)  رواه النسائي وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير.

-فيها اسم الله الأعظم
عن أبي أمامة يرفعه قال : (  اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في سور ثلاثة في البقرة وآل عمران وطه - يعني الحي القيوم )  (صحيح الجامع)

  فضل آخر آيتين كم سورة البقرة:

عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي :( من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتا) رواه البخاري.
قال في فتح الباري في شرح البخاري : قوله : ( كفتاه ) أي أجزأتا عنه من قيام الليل بالقرآن ، وقيل أجزأتا عنه، أي  عن قراءة القرآن مطلقا سواء كان داخل الصلاة أم خارجها .
وقيل معناه أجزأتاه فيما يتعلق بالاعتقاد لما اشتملتا عليه من الإيمان والأعمال إجمالا وقيل : معناه : كفتاه كل سوء، وقيل : كفتاه شر الشيطان، وقيل : دفعتا عنه شر الإنس والجن ، وقيل : معناه كفتاه ما حصل له بسببهما من الثواب عن طلب شيء آخر ، وكأنهما اختصتا بذلك لما تضمنتاه من الثناء على الصحابة بجميل انقيادهم إلى الله وابتهالهم ورجوعهم إليه وما حصل لهم من الإجابة إلى مطلوبهم ، قال النووي:: قيل معناه كفتاه من قيام الليل، وقيل : من الشيطان ، وقيل : من الآفات ، ويحتمل من الجميع . هذا آخر كلامه.وقال أبو عيسى الترمذي : وقيل معناه كفتاه ما حصل له بسببهما من الثواب عن طلب شيء آخر.
ويوضح المقصود ويبينه حديث آخر : النعمان بن بشير عن النبي قال:( إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، ولا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان)  رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير.

Saturday 28 December 2013

سورة غافر - تفسير وربط آياتها وبيان المتشابهات لتثبيت الحفظ ج 1



سورة غافر



تفسير وربط الآيات وبيان المتشابهات لتثيبت حفظ سورة غافر- الجزء الأول من آية 1 - 22
 غافر ( وتسمى سورة المؤمن ) عدد آياتها 85  وهي مكية
سورة غافر من آل ( حم ) السبع ، وهي أول سورة منها ، وآل حم سور متتابعة تبدأ بهذه السورة ، وتنتهي بسورة الأحقاف، و( حم ) هي آية منفصله في كل منها ، أما الآية الثانية في كل منها فهي على الترتيب
في سورة غافر ....( تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)  
في سورة فصلت ..... ( تنزيل من الرحمن الرحيم )
في سورة الشوري .... ( حم * عسق )
سورة الزخرف ، والدخان .....(والكتاب المبين )
سورة الجاثية ، والأحقاف ..... ( تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم )
ولاحظ الربط بين اسم هذه  السورة  وبدايتها ، ( بين الغين في غافر ، والعين في قوله ( العزيز العليم ) ،  وأيضا في الآية التي تليها يذكر اسمه تعالى الذي سميت السورة به ، ( غافر الذنب)
وهذه السورة مثل الزمر مكية ، فهي تعتني بالعقيدة ، والدعوة إلى توحيد الله ، وأدلة نفي استحقاق غيره بالعبادة ، ووجوبها له جل في علاه .
ففي بدايات هذه السورة المباركة يخبر تعالى عن كتابه العظيم وبأنه صادر ومنزل من الله، المألوه المعبود- المعبود حبا به وكرامة -  لكماله وانفراده بأفعاله ، ويذكر هنا سبع صفات وأسماء من أسمائه الحسنى ، لكل منها مناسبة لموضوع هذه السورة ، فهو { الْعَزِيزِ } الذي  لا غالب له ، قد قهر بعزته كل مخلوق { الْعَلِيمِ } بكل شيء، { غَافِرِ الذَّنْبِ } للمذنبين{وَقَابِلِ التَّوْبِ } من التائبين، وهذا محور السورة وهدفها، بيان عظيم عفوه وتوبته على من تاب، لذلك جاء باللفظين {غافر الذنب وقابل التوب } ثم قال { شَدِيدِ الْعِقَابِ } على من تجرأ على الذنوب ولم يتب منها، { ذِي الطَّوْلِ } أي: التفضل والغنى والسعة  والخير والمن لجميع عباده فهو متطول عليهم بإحسانه.
فلما قرر ما قرر من كماله في أسمائه وصفاته ، فكان تلك حجة موجبة لأن يكون وحده، المألوه  المعبود الذي تخلص له الأعمال قال: { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ }
وقد أحسن من ربط ورود كل هذه الأسماء والصفات مع ذكر نزول القرآن من الله الموصوف بهذه الأوصاف؛  أن هذه الأوصاف مستلزمة لجميع ما يشتمل عليه القرآن،  من المعاني.
فإن القرآن: إما إخبار عن أسماء الله، وصفاته، وأفعاله، وهذه أسماء، وأوصاف، وأفعال.
وإما إخبار عن الغيوب الماضية والمستقبلة، فهي من تعليم العليم لعباده.
وإما إخبار عن نعمه العظيمة، وآلائه الجسيمة، وقدرته عليها وأكثر منها  ، فذلك يدل عليه قوله: { ذِي الطَّوْلِ }
وإما إخبار عن نقمته الشديدة، وعما يوجبها ويقتضيها من المعاصي، فذلك يدل عليه قوله:   { شَدِيدِ الْعِقَابِ }
وإما دعوة للمذنبين إلى التوبة والإنابة، والاستغفار، فذلك يدل عليه قوله: { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ }
وإما إخبار بأنه وحده المألوه المعبود، وإقامة الأدلة على ذلك، والنهي عن عبادة ما سوى  الله، وإقامة الأدلة على فسادها والترهيب منها، فذلك يدل عليه قوله تعالى: { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ }
وإما إخبار عن حكمه الجزائي العدل، وثواب المحسنين، وعقاب العاصين، فهذا يدل عليه قوله: { إِلَيْهِ الْمَصِيرُ }
فهذا جميع ما يشتمل عليه القرآن من المطالب العاليات.
ثم يخبر تبارك وتعالى بعد أيراد هذه الصفات له المستلزمة لكمال توحيده دون سواه في الألوهية والعبادة  أنه { مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا } أما المؤمن فإنه خاضع  لربه طائع له ، ولا ينبغي للإنسان أن يغتر بحالة الإنسان الدنيوية، ويظن أن إعطاء الله إياه في الدنيا دليل على محبته له وأنه على الحق ولهذا قال: { فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ } أي: ترددهم فيها بأنواع التجارات والمكاسب، فإنما هو أمهال لهم ، وعطاء دنيوي .
ثم هدد من جادل بآيات الله ليبطلها، أن يُفعل به كما فُعل من قبله من الأمم من قوم نوح وعاد والأحزاب من بعدهم، الذين تحزبوا وتجمعوا على الحق ليبطلوه، وعلى الباطل لينصروه، { و } أنه بلغت بهم الحال، وآل بهم التحزب إلى أنه { هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ } من الأمم { بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ } أي: يقتلوه، ، هموا بقتلهم، فماذا كان جزاؤهم بعد هذا البغي إلا العذاب العظيم  الذي لا يخرجون منه؟ { فَأَخَذْتُهُمْ } أي: بسبب تكذيبهم وتحزبهم { فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } كان أشد العقاب وأفظعه، ما هو ألا صيحة أوحاصب ينزل عليهم أو يأمر الأرض أن تأخذهم، أو البحر أن يغرقهم فإذا هم خامدون.
وهكذا حقت على أولئك  الأولين كلمة ربك بعذابهم في الدنيا { وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا } ومثلهم هؤلاء  حقت عليهم كلمة ربك بعذاب الآخرة  : { أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}
  
فائدة في التلاوة :ـ  يقبح وصل هذه الآية ( أنهم أصحاب النار ) بالآية التي تليها         ( الذين يحملون العرش ..) وذلك لأنه إذا وصلت أوهمت أن أصحاب النار هم الذين يحملون عرش الرحمن ، وهم الملائكة الكرام ، وحاش أن يكون هذا مقصودا , فيفضل  تمام الوقوف عند نهاية هذه الآية .
ثم  يخبر تعالى عن كمال لطفه تعالى بعباده المؤمنين، وما قيض لأسباب سعادتهم من الأسباب الخارجة عن قدرهم، من استغفار الملائكة المقربين لهم، فقال جل وعلا : { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ } أي: عرش الرحمن، وحملة العرش الأربعة { وَمَنْ حَوْلَهُ } ومن حوله من الملائكة الكروبيين( قيل هم سادة الملائكة ، وقيل هم أنفسهم حملة العرش ، وقيل هذه التسمية ضعيفة الأثر ) المقربين  في المنزلة والفضيلة { يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } هذا مدح   لهم بكثرة عبادتهم للّه تعالى، وخصوصًا التسبيح والتحميد،  { ويؤمنون به}  ، وأنهم {  يستغفرون للذين آمنوا}  أي من أهل الأرض ممن آمن بالغيب، فقيض اللّه تعالى ملائكته المقربين أن يدعوا للمؤمنين بظهر الغيب، ولما كان هذا من سجايا الملائكة عليهم السلام كانوا يؤمنون على دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب، كما ثبت في الصحيح: (إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك آمين ولك بمثله) أخرجه مسلم في صحيحه، قال شهر بن حوشب رضي اللّه عنه: حملة العرش ثمانية، أربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك، وأربعة يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، لك  الحمد على عفوك بعد قدرتك، ولهذا يقولون إذا استغفروا للذين آمنوا: ربنا وسعت كل  شيء رحمة وعلماً}  أي رحمتك تسع ذنوبهم وخطاياهم، وعلمك محيط بجميع أعمالهم  وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم {  فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك} أي فاصفح عن المسيئين إذا تابوا وأنابوا، وأقلعوا عما كانوا فيه، واتبعوا ما أمرتهم به من فعل الخير وترك المنكرات, { وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } أي: قهم العذاب نفسه، وقهم أسباب العذاب.وهذا غاية ومراد المؤمن . ما أكرم المؤمن على الله نائما على فراشه والملائكة يستغفرون له ،ويدعون له ،وهذا  من فضائل الملائكة  ونصحهم لعباد الله، لعلمهم أن الله يحب ذلك منهم .
ثم لا يتوقف الملائكة عن سؤال زيادة من الفضل لأهل الإيمان من الناس ، فيسألون الله  لهم ..{ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ } على ألسنة رسلك { وَمَنْ صَلَحَ } أي: صلح بالإيمان والعمل الصالح { مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ } زوجاتهم وأزواجهن وأصحابهم ورفقائهم في الإيمان.
  قال سعيد بن جبير : يدخل الرجل الجنة، فيقول : يا رب أين أبي وجدي وأمي؟ وأين ولدي وولد ولدي؟ وأين زوجاتي؟ فيقال إنهم لم يعملوا كعملك؛ فيقول : يا رب كنت أعمل لي ولهم؛ فيقال ادخلوهم الجنة. ثم تلا  الآية . { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ } العزيز القادر القاهر الذي لا يغلب، فبعزتك تغفر ذنوبهم، وتوصلهم بها إلى كل خير { الْحَكِيمُ } الذي يضع الأشياء مواضعها، ، ثم  يسألون الله لهم السبب الموصل لنعيم الآخرة  فيقولون : { وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ } أي: الأعمال السيئة في الدنيا وجزاءها في الآخرة ، وتسمى سيئة ؛ لأنها تسوء صاحبها. { وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ } يوم القيامة { فَقَدْ رَحِمْتَهُ } لأن رحمتك لم تزل مستمرة على العباد، لا يمنعها إلا ذنوب العباد وسيئاتهم، فمن وقيته السيئات وفقته للحسنات وجزائها الحسن.فقد دخل في رحمة ربه سبحانه وتعالى { وَذَلِكَ  هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } الذي لا فوز مثله.

ثم عودة إلى التنفير من الكفر، وارتكاب المعاصي ، فيخبر تعالى بحال أهل الكفر يوم القيامة ، عن الفضيحة والخزي الذي يصيبهم، ، فقال: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } أطلقه ليشمل أنواع الكفر كلها، حين يدخلون النار، ويقرون أنهم مستحقونها، لما فعلوه من الذنوب والأوزار، فيمقتون أنفسهم ويبغضونها  لذلك أشد المقت، ويغضبون عليها غاية الغضب، فينادون عند ذلك، ويقال لهم: { لَمَقْتُ اللَّهِ } أي: إياكم  { أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ } لأن  مقته مستمر عليكم لا يفارقكم ، فهو أكبر من كرهكم لأنفسكم ، لماذا ؟ لأنكم كنتم  { إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ } ، فعند ذلك تمنوا الرجوع و { قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ } الميتتين هما  إما : الموتة الأولى في الدنيا ، ثم موتة وما بين النفختين على ما قيل ، أوقيل : يعني العدم المحض قبل إيجادهم، ثم أماتهم بعدما أوجدهم، { وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } الحياة  الدنيا والحياة الأخرى، { فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ } أي: تحسروا واعترفوا بذنوبهم ، وقالوا: هل هناك من سبيل إلى الخروج ؟ فلم ينفعهم اعترافهم بالذنوب ،  بل قيل لهم أن ما أنتم فيه سببه: { ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ } أي: إذا دعي لتوحيد الله { كَفَرْتُمْ } به ونفرتم منه غاية النفور. والعكس { وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا } أي: هذا الذي أنزلكم هذ المنزل أنكم  ترضون بما هو شر وفساد في الدنيا من شرك بالله
{ فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } العلي: الذي له العلو المطلق من جميع الوجوه، فمن كمال عدله تعالى، وأنه يضع الأشياء مواضعها، ولا يساوي بين المتقين والفجار.
{ الْكَبِيرُ } الذي له الكبرياء والعظمة والمجد ،وقد حكم عليكم بالخلود الدائم، فحكمه لا يغير ولا يبدل.
 { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ } وهو سبحانه من حكمته وعدله قد أراكم في الدنيا آياته، التي تمحو كل شك للمتبصر بها  المتدبر لها،  ونبه على آية عظيمة فقال: { وينزل لكم من السماء رزقا } ولكن { وَمَا يَتَذَكَّرُ } بالآيات حين يذكر بها { إِلَّا مَنْ يُنِيبُ } إلى الله تعالى، بالإقبال على محبته وخشيته،  فيتعين إخلاص الدين له وحده . ولذلك كان حقا عليكم أن  { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }
ولما كانت الآيات تثمر التذكر، والتذكر يوجب الإخلاص للّه، رتب الأمر على ذلك بالفاء الدالة على السببية فقال: { فَادْعُوا .. } وهذا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة،أي فأخلصوا للّه تعالى في كل ما تدينونه به وتتقربون به إليه.
{ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } لذلك، فلا تبالوا بهم، ثم ذكر من جلاله وكماله أنه{ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ } أي: العلي الأعلى، الذي استوى على العرش واختص به،، وهو سبحانه في عليائه { يُلْقِي الرُّوحَ } أي: الوحي الذي هو للأرواح والقلوب بمنزلة الأرواح للأجساد، ففيه  نفع العباد ومصلحتهم.{ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } وهم الرسل يصطفيهم من بين عباده ، ليكونوا مبشرين ومنذرين للناس ،ولهذا قال: { لِيُنْذِرَ } أي يخوف النس من { يَوْمَ التَّلَاقِ } ويحثهم على الاستعداد له بالأسباب المنجية من العذاب .
وسماه { يوم التلاق } لأنه يلتقي فيه الخالق والمخلوق 
 والمخلوقون بعضهم مع بعض على حسب منازلهم ودرجاتهم 
 والعاملون يلتقون بأعمالهم وجزاؤهم. 
وفي هذا اليوم { يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ } أي: ظاهرون على الأرض، قد اجتمعوا في صعيد واحد لا عوج ولا أمت فيه، ويومها { لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ } لا من ذواتهم ولا من أعمالهم، ولا من جزاء تلك الأعمال.
{ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } أي: من هو المالك لذلك اليوم العظيم الجامع للأولين والآخرين؟ الملك    { لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } الذي دانت له المخلوقات وذلت وخضعت.
وقد ورد في في حديث ابن عمر رضي اللّه عنهما أنه تعالى يطوي السماوات والأرض بيده، ثم يقول: أنا الملك، أنا الجبار، أنا المتكبر، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ وفي حديث الصور أنه عزَّ وجلَّ إذا قبض أرواح جميع خلقه فلم يبق سواه وحده لا شريك له، حينئذ يقول: { لمن الملك اليوم} ؟ ثلاث مرات، ثم يجيب نفسه قائلاً: { للّه الواحد القهار} أي الذي قهر كل شيء وغلبه.
{ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } في الدنيا، من خير وشر، وجاء بلفظ كسبت؛ لأن الإنسان إذ يفعل السيئات أنما يعملها لمكسب يظن أنه سيناله ، من شهوة أو متعة أو مادة ، قليل وكثير، فيوبخهم، ويقول لهم ما هذا جراء ما كسبتم { لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ } على أحد، بزيادة في سيئاته، أو نقص من حسناته. { إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } تحتمل معنيين : لا تستبطئوا ذلك اليوم فإنه آت، وكل آت قريب. وايضاً : هو سريع المحاسبة لعباده يوم القيامة، لإحاطة علمه بأعمالهم وكمال قدرته.
ثم يرشد الله  تعالى نبيه محمد إلى إنذار الناس : { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ } يوم القيامة التي قد أزفت وقربت، ويومها تكون  { إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ } تكون قد وصلت القلوب من الروع والكرب إلى الحناجر، شاخصة أبصارهم. { كَاظِمِينَ } لا يتكلمون ،وكاظمين على ما في قلوبهم من الروع الشديد .
{ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ } أي: قريب ولا صاحب، { وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ } لأن الشفعاء لا يشفعون في الظالم نفسه بالشرك، ولو قدرت شفاعتهم، فالله تعالى لا يرضى شفاعتهم، فلا يقبلها.
{ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ } وهو نظر المسارقة، يسرقه صاحبه ويخفيه، وهو الغمز ، وهو قول الشخص رأيت ولم ير شيئا ، { وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } فالله تعالى يعلم ذلك الخفي، فغيره من الأمور الظاهرة من باب أولى وأحرى.
{ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ } لأن قوله حق، وحكمه الشرعي حق، وحكمه الجزائي حق، وهو المنزه عن الظلم .
وقضاؤه سبحانه نوعين : الأول قدري : والقضاءه القدري، الذي إذا شاء شيئًا كان وما لم يشأ لم يكن.
 وقضاء حكمي : أي هو الذي يحكم بين عباده المؤمنين والكافرين في الدنيا، ويفصل بينهم في الآخرة .
وبعد أن ذكر أنه هو يقضي بالحق ، بين أن الذين يُعبدون من دونه  ويدعون لقضاء حاجات ذوي العقول التي لا تفرق بين معبود وعبد  { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ } لعجزهم وعدم إرادتهم للخير واستطاعتهم لفعله. { إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ } لجميع الأصوات، باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات. { الْبَصِيرُ بما كان وما يكون، وما نبصر وما لا نبصر، وما يعلم العباد وما لا يعلمون.
قال في أول هاتين الآيتين { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ } ثم وصفها بهذه الأوصاف المقتضية للاستعداد لذلك اليوم العظيم، لاشتمالها على الترغيب والترهيب.
وكثيرا من ينبهنا الله تعالى إلى المسير في الأرض والنظر والتفكر بمآل الإمم السابقة للإعتبار فقال تعالى: { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ } أي: بقلوبهم وأبدانهم سير نظر واعتبار  في الآثار، { فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ } من المكذبين، وقد كانوا أشد قوة من هؤلاء في الْعَدَد والْعُدَد وكبر الأجسام. { وآثارا في الأرض } من البناء والغرس، ولم يغن عنهم ذلك شيئا إذ كفروا بربهم { فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ } بعقوبته بذنوبهم ، ذلك أنه سبحانه  وتعالى  { إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ } فلم تغن قوتهم عند قوة اللّه شيئًا.
ثم ذكر نموذجا من أحوال المكذبين بالرسل وهو فرعون وجنوده .........
يتبع الجزء الثاني .... وقصة مؤمن قوم فرعون – الذي سميت به هذه السورة ( سورة  المؤمن )