Thursday 27 April 2023

تفسير سورة البقرة ح35 ومن الناس من يعجبك قوله

 

تفسير سورة البقرة- ح ٣٥

       من الناس من تكون ألسنَتُهُم أحلى منَ العسلِ، وقلوبُهُم قلوبُ الذِّئابِ...

(وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...)

من هو الصحابي الذي شهد له رسول الله ﷺ بأنه ربح بيعه، ونزل فيه...

(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ)

وفي النهاية كل محاسب ومجازى على فعله، فلا يلومن أحد إلا إياها يوم..

(وَقُضِيَ الْأَمْرُ ۚ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ )

(

 

 

 

محور مواضيع هذا الجزء:

-بيان الفرق بين حال المؤمن الذي يتقن التجارة في المتجر الرابح، والمنافق الذي لا تربح منه إلا الكلام.

-دعوة من الله لعباده كافة لاتباع الحق، الذي هو الإسلام، الذي لا يقبل من عبد دين غيره بعد بعثة محمد ﷺ.

-من يعدل عن الحق بعدما علمه بالبراهين والحجج، فلا يلومن إلا نفسه ، فالله عزيز قوي في انتقامه، ولا يغلبه غالب. حكيم في أحكامه ونقضه وإبرامه، سبحانه وتعالى.

-ومن أبى فلا يلومنَّ إلا نفسه، فالموعد يوم يقف بين يدي العليِّ الكبير يقضي بحكمه وعدله.

-إثبات الصفات التي أثبتها سبحانه وتعالى لنفسه، كما حررها بدون تحريف ولا تمثيل.

التفسير:

قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ) ( ٢٠٤).

سبب النزول:

قال السدي: نزلت في الأَخَنْس بن شريق الثقفي، واسمه أبي، والأخنس لقب لُقب به، لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة رجل من حلفائه من بني زهرة عن قتال رسول اللهﷺ، وكان رجلا حلو القول والمنظر، أقبل إلى النبي ﷺ إلى المدينة فأظهر له الإسلام وأعجب النبي ﷺ ذلك منه، وقال إنما جئت أريد الإسلام، والله يعلم إني لصادق، وذلك قوله: (وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ) ثم خرج من عند رسول الله ﷺ، فمرّ بزرع لقوم من المسلمين وحمر، فأحرق الزرع وعَقَرَ الحمر، فأنزل الله تعالى فيه: (وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ) .

وقيل: بل ذلك عامة في المنافقين كلهم وفي المؤمنين، ورجحه ابن كثير وقال: وهو الصحييح ، ولو ثبتت القصة، فالحكم عام على كل من فعل فعله من المنافقين. وكما نقول دائمًا: العبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب.

تفسير الآيات:

وعن أبو معشر نجيح، قال: سمعت سعيداً المقبري يذاكر محمد بن كعب القرظي، فقال سعيد: "إن في بعض الكتب: يخرجُ في آخرِ الزَّمانِ رجالٌ يختِلونَ الدُّنيا بالدِّينِ، يلبسونَ للنَّاسِ جلودَ الضَّأنِ منَ اللِّينِ، ألسنَتُهُم أحلى منَ العسلِ، وقلوبُهُم قلوبُ الذِّئابِ، يقولُ اللَّهُ: أبي يغترُّونَ، أم عليَّ يجتَرِئونَ ؟ فبي حلفتُ لأبعثنَّ علَى أولئِكَ منهم فِتنةً تدَعُ الحليمَ مِنهُم حيرانَ " (رواه الترمذي- وضعفه الألباني)، فقال محمد بن كعب: هذا في كتاب اللّه، فقال سعيد: وأين هو من كتاب اللّه؟ قال، قوله اللّه: (وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا) الآية. فقال سعيد: قد عرفت فيمن أنزلت هذه الآية، فقال محمد بن كعب: إن الآية تنزل في الرجل ثم تكون عامة بعد ""أخرجه ابن جرير عن سعيد المقبري موقوفاً"وهذا الذي قاله القرطبي حسن صحيح.

وأما قوله تعالى: { وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ) فمعناه أنه يظهر للناس الإسلام، ويبارز اللّه بما في قلبه من الكفر والنفاق، كقوله تعالى: (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله) الآية. وقيل معناه أنه إذا أظهر للناس الإسلام حلف وأشهد اللّه لهم أن الذي في قلبه موافق للسانه وهذا المعنى صحيح واختاره ابن جرير.

وقوله تعالى: (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ )

 الألد في اللغة: الأعوج، (وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا ) ﴿مريم  ٩٧﴾‏، أي عوجاً.

 وهكذا المنافق في حال خصومته، يكذب ويزور عن الحق ولا يستقيم معه، بل يفتري ويفجر، كما ثبت في الصحيح عن رسول اللّه ﷺأنه قال: " آيَةُ المُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا وعَدَ أخْلَفَ، وإذَا اؤْتُمِنَ خَانَ.).( البخاري عن أبي هريرة)، وفي البخاري أيضا عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال رسول اللهﷺ: " أَرْبَعٌ مَن كُنَّ فيه كانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، ومَن كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ منهنَّ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حتَّى يَدَعَهَا: إذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وإذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وإذَا خَاصَمَ فَجَرَ"،  وعن عائشة رضي الله عنها قال رسول الله ﷺ: " إنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إلى اللَّهِ الألَدُّ الخَصِمُ. " (رواه البخاري).

وقوله تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ)

 أي هو أعوج المقال سيئ الفعال، فذلك قوله وهذا فعله. كلامه كذب، واعتقاده فاسد، وأفعاله قبيحة. والسعي ههنا هو القصد كما قال إخبارا عن فرعون: (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ ﴿٢٢﴾‏ فَحَشَرَ فَنَادَىٰ ﴿٢٣﴾‏ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ )(النازعات٢٤)‏ وقال تعالى: (فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) (الجمعة ٩)،  أي اقصدوا واعمدوا ناوين بذلك صلاة الجمعة، فإن السعي الحسي؛ السير السريع، إلى الصلاة منهي عنه بالسنة النبوية: " إذا أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فلا تَأْتُوها تَسْعَوْنَ، وأْتُوها تَمْشُونَ وعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَما أدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وما فاتَكُمْ فأتِمُّوا.".(رواه مسلم عن أبي هريرة)  فهذا المنافق ليس له همة إلا الإفساد في الأرض، وإهلاك الحرث، وهو محل نماء الزروع والثمار، والنسل: وهو نتاج الحيوانات الذي لا قوام للناس إلا بهما.

وقال مجاهد: إذا سعى في الأرض إفساداً منع الله القطر فهلك الحرث والنسل (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) ، أي لا يحب من هذه صفته، ولا من يصدر منه ذلك.

وقوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ) ( ٢٠٦)

أي إذا وُعظ هذا الفاجر في مقاله وفعاله، (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ) وانزع عن قولك وفعلك، وارجع إلى الحق، امتنع وأبى، وأخذته الحمية والغضب بالإثم، أي بسبب ما اشتمل عليه من الآثام،

حتى يرفع عنها اللبس، ويوضح أنها العزة المذمومة وليست العزة المحمودة.

وهذه من أساليب القرآن البلاغية، وهي "التتميم"  وهو عبارة عن إرداف الكلمة بأخرى ترفع عنها اللبس وتقربها من الفهم

يقول عبد الله بن مسعود "أَبْغَضَ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ اتَّقِ اللَّهَ فَيَقُولُ: عَلَيْكَ بِنَفْسِكَ"

وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى: (وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَٰلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) (الحج ٧٢)‏ ولهذا قال في هذه الآية: ( فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ) أي هي كفايته عقوبة في ذلك.

وقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) (٢٠٧)

هؤلاء هم الموفقون الذين باعوا أنفسهم وأرخصوها وبذلوها طلبا لمرضاة الله ورجاء لثوابه، فهم بذلوا الثمن للمليء الوفي الرءوف بالعباد، الذي من رأفته ورحمته أن وفقهم لذلك، وقد وعد الوفاء بذلك، فقال: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (التوبة ١١١) إلى آخر الآية. وفي هذه الآية أخبر أنهم اشتروا أنفسهم وبذلوها، وأخبر برأفته الموجبة لتحصيل ما طلبوا، وبذل ما به رغبوا، فلا تسأل بعد هذا عن ما يحصل لهم من الكريم، وما ينالهم من الفوز والتكريم.

سبب النزول:

 

قال القرطبي: نزلت في صهيب فإنه أقبل مهاجرا إلى رسول الله ﷺ فاتبعه نفر من قريش ، فنزل عن راحلته ، وانتثل ما في كنانته ، وأخذ قوسه ، وقال: لقد علمتم أني من أرماكم ، وايم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بما في كنانتي ، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ، ثم افعلوا ما شئتم . فقالوا : لا نتركك تذهب عنا غنيا وقد جئتنا صعلوكا ، ولكن دلنا على مالك بمكة ونخلي عنك ، وعاهدوه على ذلك ففعل، فلما قدم على رسول الله ﷺ نزلت : ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله الآية ، فقال له رسول الله ﷺ: ربح البيع أبا يحيى

وروي عن أبي عثمان النهدي عن صهيب قال: لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي ﷺ قالت لي قريش: يا صهيب قدمت إلينا ولا مال لك، وتخرج أنت ومالك؟ واللّه لا يكون ذلك أبداً، فقلت لهم: أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلُّون عني؟ قالوا: نعم، فدفعت إليهم مالي فخلوا عني، فخرجت حتى قدمت المدينة، فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال: (ربح صهيب، ربح صهيب) "" رواه ابن مردويه عن صهيب الرومي"" مرتين

والأكثرون حملوا ذلك على أنها نزلت في كل مجاهد في سبيل اللّه كما قال اللّه تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) (التوبة ١١١).

وحمل سلمة ابن الأكوع والأخرم الأسدي وأبي قتادة لوحدهم على عيينة بن حصن ومن معه، وقد أثنى الرسول ﷺ فقال: (خير رجّالتنا سلمة) متفق عليه. وفي هذا الحديث الصحيح الثابت: دليل على جواز حمل الواحد على الجمع الكثير من العدو وحده وان غلب على ظنه انه يقتل إذا كان مخلصا في طلب الشهادة كما فعل سلمة بن الأخرم الأسدي، ولم يعب النبي ﷺولم ينه الصحابة عن مثل فعله.

وما فعله هشام بن عامر الأنصاري لما حمل بنفسه بين الصفين على العدو الكثير فأنكر عليه بعض الناس وقالوا: ألقى بنفسه إلى التهلكة، فرد عليهم عمر بن الخطاب وأبو هريرة رضي الله عنهما وتليا قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) الآية، (مصنف ابن أبي شيبة،سنن البيهقي).

وقيل: نزلت فيمن يقتحم القتال. حمل هشام بن عامر على الصف في القسطنطينية فقاتل حتى قتل، فقرأ أبو هريرة : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ)، وقيل: نزلت في شهداء غزوة الرجيع. وقال قتادة: هم المهاجرون والأنصار . وقيل : نزلت في علي رضي الله عنه حين تركه النبيﷺ على فراشه ليلة خرج إلى الغار، وقيل: الآية عامة، تتناول كل مجاهد في سبيل الله. و يشري:  معناه يبيع، ومنه: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ) (يوسف ٢٠)‏،  أي باعوه ، وأصله الاستبدال، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)، استبدلوا ما كان عندهم، باعوا حياتهم في الدنيا، وأموالهم، واشتروا الجنة . وبيع النفس هنا هو بذلها لأوامر الله . " ابتغاء " مرضات الله.

وقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) ( ٢٠٨)

(السِّلْمِ ): قيل معناه: الإسلام. أي: ادخلوا في الإسلام، وقيل: ادخلوا في الطاعة.

أما ( السَّلم ) بفتح السين: بمعني المصالحة ،أي: ادخلوا في الصلح والمساومة وترك الحرب وإعطاء الجزية.

وقال الغالبية: أن بالكسر والفتح المعنى واحد يحتمل المصالحة ، والطاعة والإسلام.

قال القرطبي: أولى القراءتين بالصواب هنا فقراءة من قرأ بكسر " السين " لأن ذلك إذا قرئ كذلك - وإن كان قد يحتمل معنى الصلح - فإن معنى الإسلام: ودوام الأمر الصالح عند العرب، أغلبُ عليه من الصلح والمسالمة، ويستدل ببيت أخي كندة:

دَعَــوْتُ عَشِــيرَتِي لِلسِّــلْمِ لَمّـا     رَأَيْتُهُــــمُ تَوَلَّـــوْا مُدْبِرينَـــا  

بكسر السين، بمعنى: دعوتهم للإسلام لما ارتدُّوا، وكان ذلك حين ارتدت كندة مع الأشعث بعد وَفاة رسول الله ﷺ. ولأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالدخول في المسالمة التي هي الصلح ، وإنما قيل للنبي ﷺ أن يجنح للسلم إذا جنحوا له، وأما أن يبتدئ بها فلا، وهذا دليله في صلح الحديبية.

وذلك أنه لما بين الله سبحانه الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق فقال: كونوا على ملة واحدة ، واجتمعوا على الإسلام واثبتوا عليه . فالسلم هنا بمعنى الإسلام.

وقوله (كَافَّةً) : قال ابن عباس: نزلت الآية في أهل الكتاب، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى ادخلوا في الإسلام بمحمد ﷺ كافة . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺقال : "والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لا يَسْمَعُ بي أحَدٌ مِن هذِه الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، ولا نَصْرانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ ولَمْ يُؤْمِنْ بالَّذِي أُرْسِلْتُ به، إلَّا كانَ مِن أصْحابِ النَّارِ" .

و (كَافَّةً) معناه جميعا، وهو مشتق من قولهم : كففت: أي منعت، أي لا يمتنع منكم أحد من الدخول في الإسلام . والكف المنع ، ومنه كُفة القميص - بالضم - لأنها تمنع الثوب من الانتشار ، ومنه كِفة الميزان - بالكسر - التي تجمع الموزون وتمنعه أن ينتشر ، ومنه كف الإنسان الذي يجمع منافعه ومضاره ، وكل مستدير كفة ، وكل مستطيل كفة . ورجل مكفوف البصر ، أي منع عن النظر ، فالجماعة تسمى كافة لامتناعهم عن التفرق .

وقيل الصحيح في المعنى، وهو أنهم أمروا [ كلهم ] أن يعملوا بجميع شعب الإيمان وشرائع الإسلام ، وهي كثيرة جدا ما استطاعوا منها، ويؤيد هذا القول التالي:

(وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ) نهي عن اتباع خطوات الشيطان، وقال مقاتل: استأذن عبد الله بن سلام وأصحابه بأن يقرءوا التوراة في الصلاة ، وأن يعملوا ببعض ما في التوراة ، فنزلت : ولا تتبعوا خطوات الشيطان فإن اتباع السنة أولى بعدما بعث محمد ﷺ من خطوات الشيطان . وقيل : لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم إليه الشيطان .إنه لكم عدو ظاهر العداوة . يقول : ادخلوا في شرائع دين محمد ولا تدعوا منها شيئا وحسبكم بالإيمان بالتوراة وما فيها . وقوله: (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) قال مطرف : أغش عباد الله لعبيد الله الشيطان.

قوله تعالى: (فَإِن زَلَلْتُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ( ٢٠٩)

 (فَإِن زَلَلْتُم) أي : عدلتم عن الحق بعد ما قامت عليكم الحجج، وتنحيتم عن طريق الاستقامة . وأصل الزلل في القدم؛  ثم يستعمل في الاعتقادات والآراء وغير ذلك.

 يقال : زل يزل زلا وزللا وزلولا ، أي دحضت قدمه .

من بعد ما جاءتكم البينات أي المعجزات وآيات القرآن، إن كان الخطاب للمؤمنين ، فإن كان الخطاب لأهل الكتابين فالبينات ما ورد في شرعهم من الإعلام بمحمد والتعريف به .  

وفي الآية دليل على أن عقوبة العالم بالذنب أعظم من عقوبة الجاهل به، ومن لم تبلغه دعوة الإسلام لا يكون كافرا بترك الشرائع .

(فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، عزيز : أي في انتقامه، لا يفوته هارب، ولا يغلبه غالب.

(حَكِيمٌ)  في أحكامه ونقضه وإبرامه؛ ولهذا قال أبو العالية وقتادة: عزيز في نقمته، حكيم في أمره.

 وقوله تعالى:( هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ۚ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) ( ٢١٠)

وهذا فيه من الوعيد الشديد والتهديد ما تنخلع له القلوب، يقول تعالى: هل ينتظر الساعون في الفساد في الأرض، المتبعون لخطوات الشيطان، النابذون لأمر الله إلا يوم الجزاء بالأعمال، الذي قد حشي من الأهوال والشدائد والفظائع، ما يقلقل قلوب الظالمين، ويحق به الجزاء السيئ على المفسدين. وذلك أن الله تعالى يطوي السماوات والأرض، وتنثر الكواكب، وتكور الشمس والقمر، وتنزل الملائكة الكرام فتحيط بالخلائق، وينزل الباري [تبارك] تعالى: (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ) ليفصل بين عباده بالقضاء العدل. فتوضع الموازين، وتنشر الدواوين، وتبيض وجوه أهل السعادة وتسود وجوه أهل الشقاوة، ويتميز أهل الخير من أهل الشر، وكل يجازى بعمله، فهنالك يعض الظالم على يديه إذا علم حقيقة ما هو عليه. فعندها يجزي كل عامل بعمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، ولهذا قال : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ ۚ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) كما قال : (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا *‏ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *‏ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ۚ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ) (الفجر ٢١- ٢٣)، وقال سبحانه : (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ۗ) (الأنعام١٥٨)

وفي الحديث عن عبد الله بن مسعود:  (يجمعُ اللهُ الأوَّلين والآخِرين لميقاتِ يومٍ معلومٍ أربعين سنةً، شاخصةً أبصارُهم إلى السماءِ ينظرون إلى فصلِ القضاءِ، فينزلُ اللهُ من العرشِ إلى الكرسيِّ في ظُلَلٍ من الغمامِ .) ( رواه الذهبي – وحسنه)

فائدة:

وهذه الآية وما أشبهها دليل لمذهب أهل السنة والجماعة، المثبتين للصفات الاختيارية، صفات الأعمال: كالاستواء، والنزول، والمجيء، ونحو ذلك من الصفات التي أخبر بها تعالى, عن نفسه،  أو أخبر بها عنه رسوله ، فيثبتونها على وجه يليق بجلال الله وعظمته،  من غير تشبيه ولا تحريف.

وقوله تعالى: ( سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ۗ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)  (٢١١)

يقول تعالى مخبرا عن بني إسرائيل : كم قد شاهدوا مع موسى (مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ۗ) أي : حجة قاطعة على صدقه فيما جاءهم به ، كيده وعصاه وفلقه البحر وضربه الحجر ، وما كان من تظليل الغمام عليهم في شدة الحر ، ومن إنزال المن والسلوى وغير ذلك من الآيات الدالات على وجود الفاعل المختار ، وصدق من جرت هذه الخوارق على يديه ، ومع هذا أعرض كثير منهم عنها ، وبدلوا نعمة الله [ أي كفرا ] أي: استبدلوا بالإيمان بها الكفر بها، والإعراض عنها. (وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)  كما قال إخبارا عن كفار قريش : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ *‏ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا ۖ وَبِئْسَ الْقَرَارُ ‏) (إبراهيم ٢٨-٢٩).

(وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ) لفظ عام لجميع العامة، وإن كان المشار إليه بني إسرائيل، لكونهم بدلوا ما في كتبهم وجحدوا أمر محمد، فالجحود منسحب على كل مبدل نعمة الله تعالى. وقال الطبري : النعمة هنا الإسلام ، وهذا قريب من الأول، ويدخل في اللفظ أيضا كفار قريش، فإن بعث محمد فيهم نعمة عليهم ، فبدلوا قبولها والشكر عليها كفرا .

قوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)  خبر يتضمن الوعيد. والعقاب مأخوذ من العقب ، كأن المعاقب يمشي بالمجازاة له في آثار عقبه ، ومنه عقبة الراكب وعقبة القدر . فالعقاب والعقوبة يكونان بعقب الذنب ، وقد عاقبه بذنبه .

والله أولى وأعلم.