Monday 10 April 2017

علوم القرآن - الإعجاز اللغوي البياني في الآية ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب)



 




من روائع البيان: الإعجاز اللغوي البياني في قوله تعالى :

 ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ)  ( سورة البقرة 186)

ذكر علماء اللغة والبيان فيها كثير من اللطائف والفوائد:

1-   أنها الآية الوحيدة التي خالفت بقية الآيات التي تبدأ بسؤال الناس للنبي الكريم ، حيث كلها تأتي بصيغة (يَسألونَك) مثل (يَسْألونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ .. ) ، ( يَسْألونَكَ عَنِ الخَمْرِ والَميسِر قُلْ فيهما..) ، ( يَسْألونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلْ الأَنْفالُ ...) ، ( وَيَسْألونَكَ عَنِ الْيَتامَى قُلْ ...) ،( يَسْألونَكَ مَاذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ ...)  ، ( وَيَسْألونَكَ مَاذا يُنْفِقونْ قُلْ ... ) ، ( يَسْألونَكَ عَنِ الساعة أيان مرساها قُلْ ...)  ، ( وَيَسْألونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلْ  الرُّوحُ ...) ، (وَيَسْألونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنْسِفُها... )، إلا هذه الآية ! فمن عظمة المضوع ، نبه إليه الرحيم بعباده، وسبق المؤمنين بالسؤال وهم لم يسألوا بعد! حثهم على السؤال، ينبههم إلى قدر هذا الموضوع، وأن لا تغفلوا عنه حباً منه سبحانه بالدعاء،  ووعدا منه بسرعة الإجابة ! فانظر إلى واسع رحمته!

2-   على غرار (وَيَسْألونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً..) ، كان القياس أن يقول ( وإذا سألك عبادي عني فقل ربي قريب يجيب دعوة الداع ) لكنه تبارك وتعالى تكفل بالإجابة بنفسه وقال ( فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ)  فابتدأ جوابه بأنه قريب للدلالة على عدم حاجته للوسطاء والأولياء أولاً ، وللدلالة على حفاوته بالدعاء وبالسائلين ثانياً. فلم يتحدث بضمير الغائب عن ذاته فلم يقل ( يجيب دعوة الداع) لأنه يدل على البعد والعلو، بل نسبها لنفسه للدلالة على دنوه و قربه من السائلين !

3-   أنه تعالى لم يعلق الإجابة بالمشيئة كأن يقول (أجيبه إن أشاء) ، بل قطع وأكد بأنه يجيب دعوة الداع.

4-   أنه قدم جواب الشرط على فعل الشرط ، فلم يقل (إذا دعان أستجب له) و ذلك للدلالة على قوة الإجابة و سرعتها.

5-   أنه قال (ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ) ، ولم يقل (أجيب دعوة الداع إن دعان) ، وفي هذا معانٍ بلاغية غاية في الدقة، منها أنه استخدم أداة الشرط  (إذا) و لم يستخدم أداة الشرط (إن)  ، فما الفرق بينهما؟
السبب:  أن (إن) تستخدم للأحداث المتباعدة والمحتملة الوقوع والمشكوك فيها والنادرة والمستحيلة ، كقوله تعالى: (قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) ( الزخرف 81)،  قوله ( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) لأن الأصل عدم اقتتال المؤمنين ، و قوله ( وَلَـٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي) ( الأعراف 143) و لم يقل (إذا) استقر مكانه وقد علمنا أن الجبل دك دكاً! و كقوله سبحانه: ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّـهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) ( القصص 71 )
بينما (إذا) تعني المضمون حصوله أو كثير الوقوع : مثل قوله ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ) ( سورة البقرة 180)، لأن الموت واقع لا محالة ! وقوله ( وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ)( الكهف17) و قوله تعالى: ( فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ ) ( التوبة 5)، ولذلك نرى أن كل أحداث يوم القيامة يخبر عنها الله تعالى مبتدأ (إذا)  وليس بـ ( إن)، مثال ذلك قوله : ( إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ﴿١﴾) و قوله تعالى: ( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴿١﴾ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ﴿٢﴾ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ﴿٣﴾ التكوير) و قوله تعالى: ( إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ﴿١﴾ الواقعة) و غيرها من أحدث يوم القيامة حيث لم تأت أيا ًمنها بأداة الشرط ( إن)، لأنها تحتمل عدم الوقوع، والندرة.
ومن روعة هذا البيان هو حينما تأتيان معاً في موضع واحد فيستخدم (إذا) للكثرة و (إن) للندرة: مثل قوله تعالى ( إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ.... وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ۚ) فجاء بأ (إذا) للوضوء لأنه كثير الوقوع و ( إن) للجنب لأنه أقل في الحصول ، و مثل قوله ( فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ) ( النساء 25) ، فالإحصان متكرر والفاحشة من النوادر!
فمن هذا نفهم أن المعنى من قوله تعالى ( إِذَا دَعَانِ) أنه يشير إلى كثرة الدعاء وبأنه دعاء متكرر مستمر كثير وليس نادراً قليلاً ! لأن الله يغضب إن لم يدعَ ، والقلب الذي لا يدعو قلبٌ قاسٍ ، ألم تر إلى قوله تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ﴿٤٢﴾ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَـٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿٤٣﴾) و قوله (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ )﴿المؤمنون: ٧٦﴾.

6-  ثم لاحظ أنه قال (ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ ۖ) و لم يقل (أجيب الداع) ! لأن الدعوة هي المستجابة وليس شخص الداع ، وفي هذا إشارة دقيقة جداً إلى مكانة الدعوة بغض النظر عن كون الداع قريبا حبيبا للرحمن، أو مؤمنا عاصيا، أم مظلوما ولو كان كافرا.

7-   قال سبحانه: ( عِبَادِي ) بالياء ولم يقل (عبادِ)  فما الفرق؟
 ( عِبَادِي ) تشير إلى كثرة العدد من (عباد) ، فالياء تعني أن مجموعة العباد أكثر [ زيادة في مبنى الآية يزيد في المعنى والعدد] ، أي أن السائلين عن إجابته سبحانه للدعاء كثَّر، كقوله تعالى للدلالة على الكثرة ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ ۚ) ( الزمر 53)، والمسرفون كثر، و كقوله: ( وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ) ( الإسراء 53)، لأن أكثر الناس من يجادل ،  أما للقلة فيقول تعالى: (... فَبَشِّرْ عِبَادِ ﴿١٧﴾ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) ( الزمر 17-18 )، وهؤلاء قلة ، و قوله ( قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ) ( الزمر 10) ، والمتقون قلة !

8-   لاحظ أنه قال : (ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ ۖ) وكان القياس أن يقول (أجيب دعوتهم)! و ذلك للدلالة على أنه يجيب دعوة كل داع وليس فقط دعوة السائلين ، فوسع دائرة الدعوة ولم يقصرها على السائلين.

9-   قال ( فَإِنِّي قَرِيبٌ ) و لم يقل (أنا قريب) وهذا توكيد بـ (إنَّ) المشددة للتوكيد ، فلو استعمل : ( أنا ) فليس فيها توكيد.

10 - أن الآية توسطت آيات الصوم ، وهذا حث للصائم على الدعاء، واكد على هذا المعنى بالحديث أن جعل للصائم دعوة لا ترد: " إنَّ للصائمِ عند فطرِهِ دعوةٌ ما تُرَدُّ " ( تحفة المحتاج - حسن ) لا ترد كما ورد في الأثر ( ما من أحدٍ يدعو بدعاءٍ إلَّا آتاهُ اللَّهُ ما سألَ أو كفَّ عنهُ منَ السُّوءِ مثلهُ ما لم يدعُ بإثمٍ أو قطيعةِ رحمٍ). ( مشكاة المصابيح – حديث حسن)
الدعاء شعار الصائمين، ومن عظمة الدعاء ومنزلته عند الله أن الله أحاطه بآيات الصوم الذي قال عنه في الحديث القدسي " إنَّ اللهَ تعالى يقولُ : إنَّ الصَّومَ لي ، و أنا أجزي بهِ " ( صحيح الترغيب )، لأن الصوم من شعائر الإخلاص لله لأنه شَعيرة غير ظاهرة الأثر على صاحبها ما لم يرائي ، فكذا الدعاء أراده الله أن يكون خالصاً له  وهو الذي يجزي به من دون شرك فيه لأحد، من دون واسطة نبي أو ولي أو أي بشر !

اللهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ من عِلْمٍ لا يَنْفَعُ وقَلْبٍ لا يَخْشَعُ ودُعَاءٍ لا يُسْمَعُ ونَفْسٍ لا تَشْبَعُ