Saturday 18 December 2021

تفسير سورة البقرة ج1 تعريف وخصائص السورة

    
  

سبب التسمية :

 

سُميت هذه ‏السورة ‏الكريمة ‏‏" ‏سورة ‏البقرة ‏‏" ‏تعظيما ‏لتلك ‏المعجزة ‏التي ‏ظهرت ‏في ‏زمن ‏موسى ‏الكليم ‏حيث قُتِلَ ‏شخص ‏من ‏بني ‏إسرائيل ‏ولم ‏يعرفوا ‏قاتله ‏فعرضوا ‏الأمر ‏على ‏موسى ‏لعله ‏يعرف ‏القاتل ‏فأوحى ‏الله ‏إليه ‏أن ‏يأمرهم ‏بذبح ‏بقرة ‏وأن ‏يضربوا ‏الميت ‏بجزء ‏منها ‏فيحيا ‏بإذن ‏الله ‏ويخبرهم ‏عن ‏القاتل ‏وتكون ‏برهانا ‏على ‏قدرة ‏الله ‏جل ‏وعلا ‏في ‏إحياء ‏الخلق ‏بعد ‏الموت .

التعريف بالسورة:

- هي سورة مدنية- من سور السبع الطوال، وهي أولها- عدد آياتها ٢٨٦ آية -  هي السورة الثانية بترتيب المصحف – وهي أول سورة نزلت بالمدينة ، وفيها آية هي آخر ما نزل من القرآن ن وهو قوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) (سورة البقرة  ٢٨١)- تبدأ بحروف مقطعة " الم "  -  ذكر فيها لفظ الجلالة أكثر من 100 مرة -  بها أطول آية في القرآن وهي آية الدين رقم ٢٨٢ – في الجزء الأول والثاني ونصف الثالث، الحزب الأول إلى الخامس -  الربع الأول إلى التاسع عشر.  

محور مواضيع السورة :

سورة البقرة من أطول سورة القرآن على الإطلاق وهي من السور المدنية التي تعني بجانب التشريع شأنها كشأن سائر السور المدنية التي تعالج النظم والقوانين التشريعية التي يحتاج إليها المسلمون في حياتهم الاجتماعية .ومواضيعها كثيرة لا تحصى

من خصوصياتها العديدة:

 فيها أعظم آية في القرآن: (اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ)

وفيها العقائد كلها وبها بدأ السورة : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴿٣﴾‏ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴿٤﴾‏

 والإيمان بالله خاصة: (وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ) ، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.

ذكر فيها من الملائكة: جبريل، وميكائيل ولم يذكروا بالإسم في غيرها- ذكر جبريل مرة في سورة التحريم-

 وأخبار بعض الرسل: ذكر فيها من الرسل: آدم أبو البشر، وموسى، وداود وسليمان، وإبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب وعيسى عليهم السلام، وسيدنا محمد ﷺ.

وفيها قصص من القصص ما لم يرد في غيرها، ونذكر البعض لا للحصر:

قصة البقرة، التي سميت من أجلها السورة – الملكين هاروت وماروت وتعليمهم السحر للناس- – تغيير القبلة – ذكر من باع نفسه في سبيل الله (ربح البيع أبا يحيى) – الحرب بين جالوت وملك بني إسرائيل طالوت، وفوز داوود عليه السلام الملك - قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام مع النمرود: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ) – وقصته في طلب عين اليقين (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ) – وقصة عزير الذي دخل على بيت المقدس بعد خرابها على يد النمرود فقال : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ)...

والسورة كونها مدنية فإنها تعني بالأحكام الفقهية، والتربية الخلقية التي هي قوام هذا الدين، وسنأتي على تفصيل الاحكام الفقهية التي فيها، والتي لم تدع باب من أبواب الفقه إلا طرقته وفصلته، فيها أحكام العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج ، والصدقات وآدابهاوأجرها: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ)  تفصل فيها تفصيلا لا تجده في غيرها- الزكاة مفصلة في سورة التوبة-

وفيها من الأحكام : الحدود القصاص في القتلى، وأحكام الزواج والطلاق والعدة للمتوفى عنها – ليس في غيرها – وعدة المطلقة- وذكر فيها حكم إعطاء المطلقة ما سماه المتعة بعد الطلاق: ( وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) – وحرمة الربا، وقتال المحاربين، وأحكام اليمين، وغير هذا كثير سنأتي عليه بإذن الله

سبب نزول السورة :

1-{ الم ﴿١﴾‏ ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }، عن مجاهد قال : أربع آيات من أول هذه السورة نزلت في المؤمنين

وآيتان بعدها نزلتا في الكافرين

وثلاث عشرة بعدها نزلت في المنافقين .

2- ( إ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)  قال الضحاك :نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته وقال الكلبي: يعني اليهود .

3- (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا) قال الكلبي :عن أبي صالح عن ابن عباس نزلت هذه الآية في عبد الله بن أُبيّ وأصحابه،  وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله ﷺ فقام عبد الله بن أُبي فقال: مرحبا بالصدّيق سيد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله ﷺ في الغار الباذل نفسه وماله،  ثم أخذ بيد عمر فقال :مرحبا بسيد بني عدي بن كعب الفاروق القوي في ين الله الباذل نفسه وماله لرسول الله ، ثم أخذ بيد على فقال :مرحبا بابن عم رسول الله وختنه سيد بني هاشم ما خلا رسول الله ، ثم افترقوا فقال عبد الله بن أبي لأصحابه : كيف رأيتموني فعلت فاذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت فأثنوا عليه خيرا .

فرجع المسلمون إلى رسول الله بذلك فأنزل الله هذه الآية .

Friday 17 December 2021

تفسير سورة الفاتحة أعظم سورة في القرآن وشملت كل معانية

   
 

تسمية السورة:

تُسَمَّى ‏‏ ‏الفَاتِحَةُ ‏‏ ‏لافْتِتَاحِ ‏الكِتَابِ ‏العَزِيزِ ‏بهَا ‏وَتُسَمَّى ‏‏ ‏أُمُّ ‏الكِتَابِ، وأم القرآن،‏‏ ‏لأنهَا ‏جَمَعَتْ ‏مَقَاصِدَهُ ‏الأَسَاسِيَّةَ ‏وَتُسَمَّى ‏أَيْضَاً ‏السَّبْعُ ‏المَثَانِي ‏، ‏وَالشَّافِيَةُ ‏‏، ‏وَالوَافِيَةُ ‏‏، ‏وَالكَافِيَةُ ‏‏، ‏وَالأَسَاسُ ‏‏، ‏وَالحَمْدُ، والصلاة .

سميت الفاتحة؛ لأانها يستفتح بها الكتاب- القرآن العظيم- فيقال أيضا فاتحة الكتاب، وسمينت أم الكتاب:  سميت بذلك لرجوع معاني القرآن كله إلى ما تضمنته. قال ابن جرير:والعرب تسمي كل جامع أمر أو مقدم لأمر – وسميت بالصلاة :  لقوله تعالى في الحديث القدسي:" قَسَمْتُ الصلاَةَ بَـيْنِي وَبَـيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ﷺ: اقْرَأُوا يَقُولُ الْعَبْدُ (الْحَمْدُ للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ). يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: حَمَدَنِي عَبْدِي..." ( مسلم)،

إذا كانت له توابع تتبعه هو لها إمام جامع - أُمًّا، وبقية الأسماء سيأتي في التفسير.

التعريف بالسورة : 

-سورة مكية – والفاتحة نزلت مرتين مرة بمكة بعد سورة المدثر، ومرة بالمدينة لبيان أهميتها- – وهي من سور المثاني - عدد آياتها سبعة مع البسملة - هي السورة الأولى في ترتيب المصحف الشريف-هي الفاتحة افتتح فيها المصحف - نـَزَلـَتْ بـَعـْدَ سـُورَةِ المـُدَّثـِّرِ- تبدأ السورة  بعد {بِسْمِ اللَّـهِ} بأحد أساليب الثناء {الْحَمْدُ لِلَّـهِ} لم يذكر لفظ الجلالة إلا مرة واحدة -وفي التسمية على خلاف أنها من السورة أم ليست منها – من الجزء الأول الحزب الأول- وعدد كلماتها خمس وعشرون كلمة، وحروفها مائة وثلاثة عشر حرفًا.

نبذة عن تقسيم المصحف:

ورد في كتب علوم القرآن، وكتب التفسير، وتقسيم لسور المصحف إلى  أربع أقسام هي: ـ (السبع الطِّوال) و(المئين) و(المثاني) و(المُفَصَّل)

والأصل في هذه التسمية ما رواه الإمام أحمد في "مسنده" بسند حسن، عن واثلة بن الأسقع ،أن النبي ﷺ، قال: (أعطيت مكان التوراة السبع، وأعطيت مكان الزبور المئين، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفُضِّلتُ بالمُفَصَّل) وفي رواية غيره: (السبع الطوال).

و(السبع الطوال) وعددها ثمان سور تبدأ من الجزء الأول، وهي سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال والتوبة؛ لأنها كسورة واحدة، إذ ليس بينهما تسمية. روي هذا عن ابن عباس وغيره؛ سميت كذلك لطولها على سائر السور.

قال البيهقي رحمه الله: والأشبه أن يكون المراد بـ (السبع) في هذا الحديث (السبع الطول) و(المئين) كل سورة بلغت مائة آية فصاعدًا، و(المثاني) كل سورة دون (المئين) وفوق (المفصل) ويدل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنه، حين قال لعثمان رضي الله عنه: ما حملكم على أن عمدتم إلى سورة (براءة) وهي من (المئين) وإلى (الأنفال) وهي من (المثاني) ففرقتم بينهما؟ رواه الترمذي وأبو داود.

و(المئون) كل سورة عدد آيها مائة أو تزيد شيئًا أو تنقص شيئاً.

و(المثاني) السور التي ثنَّى الله فيها الفرائض والحدود، والقصص والأمثال؛ قاله ابن عباس رضي الله عنه وابن جبير.

يرى الجمهور أن سور المثاني هي كل سور القرآن لقوله عز وجل:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} (سورة الزمر ٢٣).

ومعنى المثاني هو التكرار والترديد والإعادة مرة بعد مرة، ومنه جاءت آي القرآن بكلمات مكررة للشرح الوافي والإيضاح بأساليب عدة ، وسرد أحداث وعرض مواقف من عدة جوانب ورؤى مختلفة لكنها متكاملة، فـالقرآن الكريم يفسر بعضه بعضا، وعليه فكل الآيات هي مثاني.

وقيل المثاني هي السور التي تلي سور المئين، سميت بذلك لأنها ثنتها، أي تلتها وجاءت بعدها.

وقال ابن سيرين عن ابن مسعود: أن السبع المثاني هي فاتحة الكتاب أي سورة الفاتحة تفسيرا لقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} (سورة الحجر٨٧)،

وهي سورة المثاني لأنها تثنى في كل ركعة من الصلاة، عن أبيّ بن كعب، أن رسول اللهﷺ قال له: ” إذا افْتَتَحْت الصَّلاةَ بِم تَفْتَتِحُ ؟، قال: الحمد لله ربّ العالمين حتى ختمها، فقال رسول اللهﷺ : ” هِي السَّبْعُ المَثاني والقُرآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُعْطيتُ”.

أما (المُفَصَّل) فسمي مفصلاً لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة، وآخره سورة (الناس) وأوله عند كثير من الصحابة رضي الله عنهم سورة (ق) وهو ما رجحه ابن كثير في تفسيره.

ثم إن العلماء يقسمون (المفصَّل) إلى ثلاثة أقسام:

(طوال المفصَّل) ويبدأ من سورة (ق) إلى سورة (عم يتساءلون)

(أوسط المفصَّل) وهو من سورة (عم) إلى سورة (الضحى)

(قصار المفصَّل) وهو من سورة (الضحى) إلى آخر المصحف الشريف.

محور مواضيع السورة :

يَدُورُ مِحْوَرُ السُّورَةِ حَوْلَ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ ، وَالعَقِيدَةِ ، وَالعِبَادَةِ ، وَالتَّشْرِيعِ ، وَالاعْتِقَادِ باليَوْمِ الآخِرِ ، وَالإِيمَانِ بِصِفَاتِ الَّلهِ الحُسْنَى ، وَإِفْرَادِهِ بالعِبَادَةِ وَالاسْتِعَانَةِ وَالدُّعَاءِ ، وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ جَلَّ وَعَلاَ بطَلَبِ الهداية إلى الدِّينِ الحَقِّ وَالصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ ، وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ بالتَّثْبِيتِ عَلَى الإِيمَانِ وَنَهْجِ سَبِيلِ الصَّالِحِينَ ، وَتَجَنُّبِ طَرِيقِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ ، وَالإِخْبَارِ عَنْ قِصَصِ الأُمَمِ السَّابِقِينَ ، وَالاطَّلاَعِ عَلَى مَعَارِجِ السُّعَدَاءِ وَمَنَازِلِ الأَشْقِيَاءِ ، وَالتَّعَبُّدِ بأَمْرِ الَّلهِ سُبْحَانَهُ وَنَهْيِهِ

سبب نزول السورة :

عن أبي ميسرة أن رسول كان إذا برز سمع مناديا يناديه: يا محمد فإذا سمع الصوت انطلق هاربا فقال له ورقة بن نوفل : إذا سمعت النداء فاثبت حتى تسمع ما يقول لك قال : فلما برز سمع النداء يا محمد فقال :لبيك قال : قل أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله ثم قال قل :الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين حتى فرغ من فاتحة الكتاب وهذا قول علي بن أبي طالب .لم يصح

فضل السورة :

فاتحة الكتاب هي أعظم سورة من القرآن، وقراءتها ركن من أركان عمود الإسلام؛  الصلاة، فهي السورة التي يجب أن قراءتهاا في كل ركعة من الصلوات الخمس ولا نستثنيها أبدًا منها، روى البخاري ومسلم عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:

لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ”.

وهي أم الكتاب لأنها تجمع في معانيها جميع معاني القرآن الكريم بأكمله.

رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ أَنَّ أُبـَيَّ بْنَ كَعْبٍ قَرَأَ عَلَي الرسول أُمَّ القُرآنِ الكَرِيمِ فَقَالَ رَسُولُ الَّلهِ : " وَالَّذِي نـَفْسِي بـِيَدِهِ مَا أُنـْزِلَ في التـَّوْرَاةِ وَلاَ في الإِنـْجِيلِ وَلاَ في الزَّبـُورِ وَلاَ في الفُرقـَانِ مِثْلُهَا ، هِيَ السَّبـْعُ المَثَانـِي وَالقـُرآنَ العَظِيمَ الَّذِي أُوتـِيتـُه " فَهَذَا الحَدِيثُ يُشِيرُ إِلى قَوْلِ الَّلهِ تَعَالى في سُورَةِ الحِجْرِ {وَلَقَدْ آتـَيـْنَاكَ سَبْعَاً مِنَ المَثَانـِي وَالقُرآنَ العَظِيمَ } 

فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما جبريل قاعد عند النبيﷺ سمع نقيضًا من فوقه أي صوتاً كصوت الباب إذا فتح فرفع رأسه فقال:

هذا باب من السماء فُتح اليوم، لم يُفتَح قط إلا اليوم، فنزل منه ملَك فقال: هذا ملَك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم ، فسلَّم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أُعْطِيتَه”. وهذا في تنزلها الثاني في المدينة، والحكمة في ذلك تعظيم شأنها، كما نص عليه الزركشي والسيوطي وغيرهما.

والقول بتكرر النزول ممكن، وقد قال به جماعة من أهل العلم في مواضع من القرآن، بل أطلق السيوطي في ذلك قاعدة بأن جعل من المكرر (كل ما اختلف في سبب نزوله، أو تأخر وقته، وسند كل من الروايتين صحيح ولم يمكن الجمع وهو أشياء كثيرة).

فوائد وتفسير لسورة الفاتحة:

بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ ﴿١﴾ الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿٢﴾ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ ﴿٣﴾ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴿٤﴾إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴿٥﴾ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴿٦﴾صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴿٧﴾

سورة الفاتحة على صغر حجمها، وقلة آياتها، قد اشتملت بوجه إجمالي على مقاصد الدين

من توحيد، وتعبد، وأحكام، ووعد ووعيد.

وفي سورة الفاتحة ذكر لصفات الجلال والكمال والجمال التي يتصف بها ربنا عز وجل

ففي سورة الفاتحة بيان للعقائد التي ينبغي أن تنعقد عليها قلوبنا في ربوبية الله عز وجل وإلوهيته وأسمائه وصفاته

وما ينبغي نحوه من عبادته وتوحيده جل جلاله، ثم بيان معالم الصراط المستقيم الذي ارتضاه الله لعباده.

قوله تعالى: { بِسْمِ اللَّهِ } أي: أبتدئ بكل اسم لله تعالى، لأن لفظ (اسم) مفرد مضاف، فيعم جميع الأسماء [ الحسنى ] . ( اللَّهِ ) هو المألوه المعبود المستحق لإفراده بالعبادة،  لما اتصف به من صفات الألوهية وهي صفات الكمال. {لرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء،  وعمت كل حي، وكتبها للمتقين المتبعين لأنبيائه ورسله. فهؤلاء لهم الرحمة المطلقة،ومن عداهم فلهم نصيب منها.

وان من القواعد المتفق عليها بين سلف الأمة وأئمتها، الإيمان بأسماء الله وصفاته، وأحكام الصفات.

فيؤمنون مثلا بأنه رحمن رحيم، ذو الرحمة التي اتصف بها، المتعلقة بالمرحوم. فالنعم كلها أثر من آثار رحمته، وهكذا في سائر الأسماء. يقال في العليم: إنه عليم ذو علم، يعلم به كل شيء، قدير، ذو قدرة يقدر على كل شيء.

هل البسملة آية منها:

حديث أبي هريرة عند مسلم أن رسول الله ﷺقال: قال الله تعالى: " قَسَمْتُ الصلاَةَ بَـيْنِي وَبَـيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ ﷺ: اقْرَأُوا يَقُولُ الْعَبْدُ (الْحَمْدُ للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ). يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: حَمَدَنِي عَبْدِي..." ( مسلم)، محل الشاهد أنه بدأ الفاتحة ب(الْحَمْدُ للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ)، ولم يذكر البسملة.

ويضاف إلى هذا ما استفاض من عدم جهر الرسول ﷺ وخلفائه بها في الصلاة، كما في حديث أنس رضي الله عنه قال: "صَلّيْتُ خَلْفَ النّبِيّ ﷺ، وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ. فَكَانُوا يستَفتحونَ بِـ(الْحَمْدُ لله رَبّ الْعَالَمِينَ)، لاَ يَذْكُرُونَ (بِسْمِ الله الرّحْمَنِ الرّحِيمِ) فِي أَوّلِ قِرَاءَةٍ، وَلاَ فِي آخِرِهَا." رواه مسلم

وفي رواية ابن خزيمة : يُسِرُّونَ. وفي رواية لأحمد وابن حبان -صححها الأرناؤوط-: لا يَجْهَرون بِـ(بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ).

2- حديث أبي سعيد بن المعلى، وفيه: " ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن، قال: {الْحَمْدُ للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ} هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته " رواه البخاري.

ففي هذين الحديثين دليل على أن أول آية هي (الحمد لله رب العلمين) ولو كانت البسملة آية من الفاتحة لذُكرت في أولها.

رسم المصحف وعد البسملة أول آيه من سورة الفاتحة:

رسم المصحف على قراءة ابن كثير ، وهو على مذهب الإمام الشافعي ، وعند أن الشافعي وابن المبارك وأحمد في رواية عنه جعلوها آية مستقلة من الفاتحة، ولا تصح الصلاة دونها ، ويستدلون على ذلك : "إذا قرأتم الحمد لله، فاقرؤوا :(بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ)، إنها أم الكتاب والسبع المثاني، بسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها." (الحديث صحيح، كما قال الألباني في صحيح الجامع، وصحح ابن حجر كونه موقوفًا.)

فهي عنده تعد آية من سورة الفاتحة، وخالفه الباقي من القراء – منهم عاصم ابن أبي النجود، ومن روى عنه؛ حفص  وشعبة، لا تعد آية من الفاتحة، وتركها لا يقتضي سجود السهو، ولا الإعادة.

ومما يدل على أنها ليست آية من أول كل سورة، حديث أبي هريرة مرفوعاً: " إن سورةً من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غُفر له وهي تبارك الذي بيده الملك " رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه.

قال شيخ الإسلام: " وتبارك الذي بيده الملك ثلاثون آية بدون البسملة ".

فالبسملة ليست آية من الفاتحة ولا من أوائل السور، بل هي آية لابتداء السور نزلت لفصل السور عن بعضها ويدل لهذا حديث ابن عباس: " كان رسول الله ﷺ كان لا يَعرِفُ فصْلَ السُّوَرِ حتى يَنْزِلَ عليه {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيمِ }" (صحيح الجامع للألباني)

فائدة:

 اتفق العلماء على أن البسملة بعض آية من سورة النمل قال تعالى: ﴿ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ (النمل٣٠).

عودة للتفسير:

( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) هو الثناء على الله بصفات الكمال، وبأفعاله الدائرة بين الفضل والعدل، فله الحمد الكامل، بجميع الوجوه.

( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) الرب؛  هو المربي جميع العالمين - وهم من سوى الله- بخلقه إياهم، وإعداده لهم الآلات، وإنعامه عليهم بالنعم العظيمة، التي لو فقدوها، لم يمكن لهم البقاء. فما بهم من نعمة فمنه تعالى.

وتربيته تعالى لخلقه نوعان: عامة وخاصة.

فالعامة: هي خلقه للمخلوقين، ورزقهم وهدايتهم لما فيه مصالحهم، التي فيها بقاؤهم في الدنيا.

والخاصة: تربيته لأوليائه، فيربيهم بالإيمان، ويوفقهم له ويكمله لهم، ويدفع عنهم الصوارف، والعوائق الحائلة بينهم وبينه، وحقيقتها: تربية التوفيق لكل خير، والعصمة عن كل شر.

ولعل هذا  المعنى  هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ الرب. فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة.

فدل قوله ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) على انفراده بالخلق والتدبير والنعم، وكمال غناه، وتمام فقر العالمين إليه بكل وجه واعتبار.

( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) المالك: هو من اتصف بصفة الملك التي من آثارها أنه يأمر وينهى, ويثيب ويعاقب, ويتصرف بمماليكه بجميع أنواع التصرفات, وأضاف الملك ليوم الدين, وهو يوم القيامة, يوم يدان الناس فيه بأعمالهم, خيرها وشرها، لأن في ذلك اليوم, يظهر للخلق تمام الظهور, كمال ملكه وعدله وحكمته, وانقطاع أملاك الخلائق. حتى  إنه يستوي في ذلك اليوم, الملوك والرعايا والعبيد والأحرار.

كلهم مذعنون لعظمته, خاضعون لعزته, منتظرون لمجازاته, راجون ثوابه, خائفون من عقابه, فلذلك خصه بالذكر, وإلا فهو المالك ليوم الدين ولغيره من الأيام.

وقوله ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أي: نخصك وحدك بالعبادة  والاستعانة،  لأن تقديم المعمول يفيد الحصر- تقديم إياك على نستعين يفيد حصر الإستعانة به، والعبادة  له سبحانه وتعالى- وهو إثبات الحكم للمذكور،  ونفيه عما عداه. فكأنه يقول: نعبدك ولا نعبد غيرك، ونستعين بك ولا نستعين بغيرك.

وقدم العبادة على الاستعانة؛ من باب تقديم العام على الخاص، واهتماما بتقديم حقه تعالى على حق عبده.فالحق أن تعبده أصلا وأولا، ثم تستعين به، ومن لم يعبد الله لا يستعين به حقا.

و ( العبادة ) اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال، والأقوال الظاهرة والباطنة.

العبادة في الإسلام ثلاثة أنواعٍ:

 أولها: العبادات القلبية، ويدخل فيها حبّ الله تعالى، والخوف منه، ورجاؤه، والرغبة به، والرهبة منه، والخشوع إليه، والتوكّل عليه، والإنابة إليه، ويدخل فيها النيات عند القيام بالعبادات البدنية والقولية.

وثانيها: العبادات القولية: التي يؤدّيها العبد بنية التقرّب من الله سبحانه؛ كالشهادتين، والدعاء، والحمْد والثناء، وتلاوة القرآن، والنصيحة، والأمر بالمعروف والخير، والنهي عن المنكر والفواحش.

 وثالثها: العبادات البدنية؛ كالصلاة، والحجّ، والجهاد، والنذر، وإماطة الأذي عن الطريق، وغيرها

و ( الاستعانة ) هي الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع،ودفع المضار، مع الثقة به في تحصيل ذلك.

والقيام بعبادة الله والاستعانة به هو الوسيلة للسعادة الأبدية، والنجاة من جميع الشرور،  فلا سبيل إلى النجاة إلا بالقيام بهما.

وإنما تكون العبادة عبادة، إذا كانت مأخوذة عن رسول الله ﷺ مقصودا بها وجه الله. فبهذين الأمرين تكون عبادة.

وذكر ( الاستعانة ) بعد ( العبادة ) مع دخولها فيها؛  لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى. فإنه إن لم يعنه الله، لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر، واجتناب النواهي.

ثم قال تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي: دلنا وأرشدنا، ووفقنا للصراط المستقيم.

والصراظ المستقيم:  وهو الطريق الواضح الموصل إلى الله، وإلى جنته، وهو معرفة الحق والعمل به، فاهدنا إلى الصراط واهدنا في الصراط. فالهداية إلى الصراط: لزوم دين الإسلام, وترك ما سواه من الأديان، والهداية في الصراط، تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علما وعملا. فهذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها للعبد ولهذا وجب على الإنسان أن يدعو الله به في كل ركعة من صلاته, لضرورته إلى ذلك.

وهذا الصراط المستقيم هو: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

وهو( غَيْرِ ) صراط ( الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) الذين عرفوا الحق وتركوه كاليهود ونحوهم. وغير صراط ( الضَّالِّينَ ) الذين تركوا الحق على جهل وضلال, كالنصارى ونحوهم.

فهذه السورة على إيجازها, قد احتوت على ما لم تحتو عليه سورة من سور القرآن، فتضمنت أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية يؤخذ من قوله: ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) .

وتوحيد الإلوهية وهو إفراد الله بالعبادة؛ يؤخذ من لفظ: ( اللَّهِ ) ومن قوله: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) وتوحيد الأسماء والصفات، وهو إثبات صفات الكمال لله تعالى، التي أثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه، وقد دل على ذلك لفظ ( الْحَمْدُ ) كما تقدم. وتضمنت إثبات النبوة في قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) لأن ذلك ممتنع بدون الرسالة.

وإثبات الجزاء على الأعمال في قوله: ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) وأن الجزاء يكون بالعدل، لأن الدين معناه الجزاء بالعدل.

وتضمنت إثبات القدر, وأن العبد فاعل حقيقة, خلافا للقدرية والجبرية. بل تضمنت الرد على جميع أهل البدع [ والضلال ] في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} لأنه معرفة الحق والعمل به. وكل مبتدع [ وضال ] فهو مخالف لذلك.

وتضمنت إخلاص الدين لله تعالى، عبادة واستعانة في قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فالحمد لله رب العالمين..

 

فوائد وفضائل ومميزات لسورة الفاتحة

أنها ركن من أركان الصلاة ، لا تصح الصلاة إلا بها ؛عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ : (لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) .( متفق عليه)

قال النووي: "فِيهِ وُجُوب قِرَاءَة الْفَاتِحَة وَأَنَّهَا مُتَعَيِّنَة لَا يُجْزِي غَيْرهَا إِلَّا لِعَاجِزٍ عَنْهَا، وَهَذَا مَذْهَب مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَجُمْهُور الْعُلَمَاء مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدهمْ" انتهى .

- خص الله تعالى بها محمدﷺ:

فلم يؤت نبي قبل محمد ﷺ مثلها؛ عن ابن عباس رضي الله عنه قال: " بيْنَما جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النبيِّ ﷺ، سَمِعَ نَقِيضًا مِن فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقالَ: هذا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ اليومَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إلَّا اليَومَ، فَنَزَلَ منه مَلَكٌ، فَقالَ: هذا مَلَكٌ نَزَلَ إلى الأرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إلَّا اليَومَ، فَسَلَّمَ، وَقالَ: أَبْشِرْ بنُورَيْنِ أُوتِيتَهُما لَمْ يُؤْتَهُما نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ البَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بحَرْفٍ منهما إلَّا أُعْطِيتَهُ." ( رواه مسلم).

- أنها لم ينزل مثلها في الكتب من قبله ﷺ:

روى الترمذي وصححه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ : أَتُحِبُّ أَنْ أُعَلِّمَكَ سُورَةً لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : كَيْفَ تَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ ؟ قَالَ : فَقَرَأَ أُمَّ الْقُرْآنِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنْزِلَتْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا) صححه الألباني في صحيح الترمذي .

- أنها السبع المثاني:

فقد  قال الله تعالى فيها: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} (الحجر٨٧).

 وروى البخاري  عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى رضي الله عنه أن رَسُول اللَّهِ ﷺ قَالَ له : (لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ) ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ قُلْتُ لَهُ : أَلَمْ تَقُلْ لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ ؟ قَالَ : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي ، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ) .

قال الحافظ ابن حجر : "اخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتهَا " مَثَانِي " فَقِيلَ لِأَنَّهَا تُثَنَّى كُلّ رَكْعَة أَيْ تُعَاد ، وَقِيلَ لِأَنَّهَا يُثْنَى بِهَا عَلَى اللَّه تَعَالَى ، وَقِيلَ لِأَنَّهَا اُسْتُثْنِيَتْ لِهَذِهِ الْأُمَّة لَمْ تَنْزِل عَلَى مَنْ قَبْلهَا . " انتهى .

- أنها جمعت وبينت أنواع التوسل إلى الله تعالى :

ففيها التوسل إلى الله بالحمد والثناء على الله تعالى وتمجيده، والتوسل إليه بعبوديته وتوحيده، ثم جاء سؤال أهم المطالب وأنجح الرغائب وهو الهداية بعد الوسيلتين، فالداعي به حقيق بالإجابة .

أن فيها أسباب قبول الدعاء:

ففيها قبل الدعاء بالهداية التوسل إليه بحمده والثناء عليه بأسمائه وصفاته العلى،

أنها جمعت انواع التوحيد:

- أنها ـ مع قصرها ـ تشتمل على أنواع التوحيد الثلاثة ، توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات .

- أنها تشتمل على شفاء القلوب وشفاء الأبدان .

قال ابن القيم رحمه الله :

"فأما اشتمالها على شفاء القلوب: فإنها اشتملت عليه أتم اشتمال، فإن مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين : فساد العلم ، وفساد القصد ، ويترتب عليهما داءان قاتلان وهما الضلال والغضب ، فالضلال نتيجة فساد العلم ، والغضب نتيجة فساد القصد ، وهذان المرضان هما ملاك أمراض القلوب جميعها ، فهداية الصراط المستقيم تتضمن الشفاء من مرض الضلال ، ولذلك كان سؤال هذه الهداية أفرض دعاء على كل عبد وأوجبه عليه كل يوم وليلة في كل صلاة، لشدة ضرورته وفاقته إلى الهداية المطلوبة ، ولا يقوم غير هذا السؤال مقامه .

والتحقيق بـ ( إياك نعبد وإياك نستعين ) علماً ومعرفة وعملاً وحالاً يتضمن الشفاء من مرض فساد القلب والقصد .

وأما تضمنها لشفاء الأبدان فنذكر منه ما جاءت به السنة ، وما شهدت به قواعد الطب ودلت عليه التجربة .

 فأما ما دلت عليه السنة : ففي الصحيح من حديث أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: " أنَّ نَاسًا مِن أصْحَابِ النبيِّﷺ أتَوْا علَى حَيٍّ مِن أحْيَاءِ العَرَبِ فَلَمْ يَقْرُوهُمْ، فَبيْنَما هُمْ كَذلكَ، إذْ لُدِغَ سَيِّدُ أُولَئِكَ، فَقالوا: هلْ معكُمْ مِن دَوَاءٍ أوْ رَاقٍ؟ فَقالوا: إنَّكُمْ لَمْ تَقْرُونَا، ولَا نَفْعَلُ حتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا، فَجَعَلُوا لهمْ قَطِيعًا مِنَ الشَّاءِ، فَجَعَلَ يَقْرَأُ بأُمِّ القُرْآنِ، ويَجْمَعُ بُزَاقَهُ ويَتْفِلُ، فَبَرَأَ فأتَوْا بالشَّاءِ، فَقالوا: لا نَأْخُذُهُ حتَّى نَسْأَلَ النبيَّ ﷺ، فَسَأَلُوهُ فَضَحِكَ وقالَ: وما أدْرَاكَ أنَّهَا رُقْيَةٌ، خُذُوهَا واضْرِبُوا لي بسَهْمٍ.

" ثم قال ابن القيم: فقد تضمن هذا الحديث حصول شفاء هذا اللديغ بقراءة الفاتحة عليه فأغنته عن الدواء وربما بلغت من شفائه ما لم يبلغه الدواء .

هذا مع كون المحل غير قابل ، إما لكون هؤلاء الحي غير مسلمين ، أو أهل بخل ولؤم ، فكيف إذا كان المحل قابلاً ؟ انتهى من مدارج السالكين.

ويحكي ابن القيم رحمه الله عن نفسه يقول:

"كان يعرض لي آلام مزعجة بحيث تكاد تقطع الحركة مني، وذلك في أثناء الطواف وغيره فأبادر إلى قراءة الفاتحة وأمسح بها على محل الألم فكأنه حصاة تسقط ، جربت ذلك مراراً عديدة ، وكنت آخذ قدحاً من ماء زمزم فأقرأ عليه الفاتحة مراراً فأشربه فأجد به من النفع والقوة ما لم أعهد مثله في الدواء" انتهى .مدارج السالكين".

  أنها تشتمل على الرد على جميع المبطلين من أهل الملل والنحل ، والرد على أهل البدع والضلال من هذه الأمة .

وهذا يعلم بطريقين : مجمل ومفصل :

 وبيان ذلك : أن الصراط المستقيم متضمن معرفة الحق وإيثاره وتقديمه على غيره ومحبته والانقياد له والدعوة إليه وجهاد أعدائه بحسب الإمكان .

 والحق هو ما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه ، وما جاء به علماً وعملاً في باب صفات الرب سبحانه وأسمائه وتوحيده وأمره ونهيه ووعده ووعيده.

 وفي حقائق الإيمان التي هي منازل السائرين إلى الله تعالى ، وكل ذلك مسلم إلى رسول الله ﷺ دون آراء الرجال وأوضاعهم وأفكارهم واصطلاحاتهم .

- أن سورة الفاتحة قد تضمنت جميع معاني الكتب المنزلة.

"مدارج السالكين" (1/74) .

- أنها متضمنة لأنفع الدعاء.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "تأملت أنفع الدعاء ، فإذا هو سؤال العون على مرضاته ، ثم رأيته في الفاتحة في : (إياك نعبد وإياك نستعين)" انتهى  مدارج السالكين.

وبالجملة : فسورة الفاتحة مفتاح كل خير وسعادة في الدارين .

قال ابن القيم رحمه الله :

" فاتحة الكتاب وأم القرآن والسبع المثاني والشفاء التام والدواء النافع والرقية التامة ومفتاح الغنى والفلاح وحافظة القوة ودافعة الهم والغم والخوف والحزن لمن عرف مقدارها وأعطاها حقها وأحسن تنزيلها على دائه وعرف وجه الاستشفاء والتداوي بها والسر الذي لأجله كانت كذلك .

ومن ساعده التوفيق وأُعِين بنور البصيرة حتى وقف على أسرار هذه السورة وما اشتملت عليه من التوحيد ، ومعرفة الذات والأسماء والصفات والأفعال ، وإثبات الشرع والقدر والمعاد ، وتجريد توحيد الربوبية والإلهية ، وكمال التوكل والتفويض إلى من له الأمر كله وله الحمد كله وبيده الخير كله وإليه يرجع الأمر كله ، والافتقار إليه في طلب الهداية التي هي أصل سعادة الدارين ، وعلم ارتباط معانيها بجلب مصالحهما ودفع مفاسدهما ، وأن العاقبة المطلقة التامة والنعمة الكاملة منوطة بها موقوفة على التحقق بها ؛ أغنته عن كثير من الأدوية والرقى ، واستفتح بها من الخير أبوابه ، ودفع بها من الشر أسبابه " انتهى .