Friday 31 January 2020

تفسير وربط للآيات وبيان المتشابهات – سورة نوح ج 3 – رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ

 


 



سورة نوح ج 3 – رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ


قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا ﴿٢١﴾ وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا ﴿٢٢﴾ وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ﴿٢٣﴾ وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا ۖ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا ﴿٢٤﴾

كنا قد وقفنا عند شكوى نوح عليه السلام عصيان قومه له بالرغم من كل ما بذل من الجهد في دعوته لهم، فقد عصوه، واتبعوا أهل الدنيا ، غرتهم أموالهم وأولادهم وأمهال الله لهم، فمكروا  مكرا عظيما ،  واختلف في مكرهم ما هو؟ فقيل : تحريشهم سفلتهم على قتل نوح. وقيل : هو تعزيرهم الناس بما أوتوا من الدنيا والولد؛ حتى قالت الضعفة : لولا أنهم على الحق لما أوتوا هذه النعم. ومكر الكفار هو ما جاء مفسرا في سورة (سبأ)،  وهو ما قاله الضعفاء الذين اتبعوا الكبراء،  فيقولون لهم يوم القيامة: )بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا ([ سبأ ٣٣] ولهذا قال هاهنا: ( وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ) وهذه أسماء أصنامهم التي كانوا يعبدونها من دون الله.

الأصنام التي عبدها قوم نوح عليه السلام

قال البخاري بسنده عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْهمَا: "صَارَتِ الأوْثَانُ الَّتي كَانَتْ في قَوْمِ نُوحٍ في العَرَبِ بَعْدُ أمَّا ودٌّ كَانَتْ لِكَلْبٍ بدَوْمَةِ الجَنْدَلِ، وأَمَّا سُوَاعٌ كَانَتْ لِهُذَيْلٍ، وأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ، ثُمَّ لِبَنِي غُطَيْفٍ بالجَوْفِ، عِنْدَ سَبَإٍ، وأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ، وأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرَ لِآلِ ذِي الكَلَاعِ، أسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِن قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أوْحَى الشَّيْطَانُ إلى قَوْمِهِمْ، أنِ انْصِبُوا إلى مَجَالِسِهِمُ الَّتي كَانُوا يَجْلِسُونَ أنْصَابًا وسَمُّوهَا بأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا، فَلَمْ تُعْبَدْ، حتَّى إذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وتَنَسَّخَ العِلْمُ عُبِدَتْ."
وقال ابن جرير: عن محمد بن قيس (يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ) قال:كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم:لو صَوَرناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم. فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر، فعبدوهم.


وقال ابن أبي حاتم: عن أبي المطهر قال:ذكروا عند أبي جعفر - وهو قائم يصلي- يزيد بن المهلب، قال:فلما انفتل من صلاته قال:ذكرتم يزيدَ بن المهلب، أما إنه قتل في أول أرض عُبد فيها غيرُ الله. قال:ثم ذكر ودًا - قال: وكان وَدٌّ رجلا مسلما وكان محببا في قومه، فلما مات عسكروا حول قبره في أرض بابل وجزعوا عليه، فلما رأى إبليس جَزَعهم عليه، تشبه في صورة إنسان، ثم قال:إني أرى جزعكم على هذا الرجل، فهل لكم أن أصور لكم مثله، فيكونَ في ناديكم فتذكرونه؟ قالوا: نعم. فصُوِّر لهم مثله، قال: ووضعوه في ناديهم وجعلوا يذكرونه. فلما رأى ما بهم من ذكره قال: هل لكم أن أجعل في منـزل كل واحد منكم تمثالا مثله، فيكون له في بيته فتذكرونه؟ قالوا: نعم. قال: فمثل لكل أهل بيت تمثالا مثله، فأقبلوا فجعلوا يذكرونه به، قال:وأدرك أبناؤهم فجعلوا يرون ما يصنعون به، قال وتناسلوا ودَرَس أمر ذكرهم إياه، حتى اتخذوه إلها يعبدونه من دون الله أولاد أولادهم، فكان أول ما عبد من غير الله:الصنم الذي سموه وَدّا.

وقوله: (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا) يعني:الأصنام التي اتخذوها أضلوا بها خلقا كثيرًا، فإنه استمرت عبادتها في القرون إلى زماننا هذا في العرب والعجم وسائر صنوف بني آدم. وقد قال الخليل، عليه السلام، في دعائه: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ) [ إبراهيم ٣٥- ٣٦] .
وقوله: (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالا ) دعاء منه على قومه لتمردهم وكفرهم وعنادهم، كما دعا موسى على فرعون ومثله في قوله: (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ) [ يونس ٨٨] وقد استجاب الله لكل من النبيين في قومه، وأغرق أمته بتكذيبهم لما جاءهم به.

مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّـهِ أَنصَارًا ﴿٢٥﴾ وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ﴿٢٦﴾ إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ﴿٢٧﴾ رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا ﴿٢٨﴾

يقول تعالى: (مِمَّا خَطايَاهُمْ) وقرئ: ( خَطِيئَاتِهِمْ) (أُغْرِقُوا ) أي:من كثرة ذنوبهم وعتوهم وإصرارهم على كفرهم ومخالفتهم رسولهم ( أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا ) أي:نقلوا من تيار البحار إلى حرارة النار، ( فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا ) أي:لم يكن لهم معين ولا مُغيث ولا مُجير ينقذهم من عذاب الله كقوله: (قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ) [ هود ٤٣] .

(وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) أي:لا تترك على [ وجه ] الأرض منهم أحدًا وهذه من صيغ تأكيد النفي.

قال الضحاك: (دَيَّارًا) واحدا. وقال السُّدِّي: الديار: الذي يسكن الدار.
فاستجاب الله له، فأهلك جميع من على وجه الأرض من الكافرين حتى ولد نوح لصلبه الذي اعتزل عن أبيه، وقال: (سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) [ هود ٤٣ وقال قتادة : دعا عليهم بعد أن أوحى الله إليه { وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [هود  ٣٦] فأجاب الله دعوته وأغرق أمته؛ وهذا كما دَعَا رَسولُ اللهِ علَى الأحْزَابِ، فَقالَ: "اللَّهُمَّ، مُنْزِلَ الكِتَابِ، سَرِيعَ الحِسَابِ، اهْزِمِ الأحْزَابَ، اللَّهُمَّ، اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ " في صحيح ابن حبان )
وقال ابن أبي حاتم:قرئ على يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني شَبيب بن سعد، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس قال:قال رسول الله : " لَوْ رحمَ اللهُ من قَوْمِ نُوحٍ أحدًا لَرحمَ امرأةً لمَّا رَأَتِ الماءَ حملَتْ ولَدَها ثُمَّ صَعِدَتِ الجبلَ ، فلمَّا بَلَغَها الماءُ صَعِدَتْ بهِ مَنْكِبَها فلمَّا بَلَغَ الماءُ مَنْكِبَها وضعَتْ ولَدَها على رأسِهِا ، فلمَّا بَلَغَ الماءُ رَأْسَها رفعَتْ ولَدَها بيدِهِا ، فَلَوْ رحمَ اللهُ مِنْهُمْ أحدًا لَرحمَ هذه المرأةَ " ( قال عنه ابن كثير: هذا حديث غريب، ورجاله ثقات )
ونجى الله أصحاب السفينة الذين آمنوا مع نوح، عليه السلام، وهم الذين أمره الله بحملهم معه.

وقوله: ( إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ ) أي:إنك إن أبقيت منهم أحدًا أضلوا عبادك، أي:الذين تخلقهم بعدهم ( وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا ) أي:فاجرًا في الأعمال كافر القلب، وذلك لخبرته بهم ومكثه بين أظهرهم ألف سنة إلا خمسين عاما.

مسائل في هذه الآية: ( وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا )

أولا: الأصل في الدعاء على الكافرين عموماً:
قال ابن العربي: (دعا نوح على الكافرين أجمعين، ودعا النبي على من تحزب على المؤمنين وألب عليهم. وكان هذا أصلا في الدعاء على الكافرين في الجملة، فأما كافر معين لم تعلم خاتمته فلا يدعى عليه؛ لأن مآله عندنا مجهول، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسعادة. وإنما خص النبي بالدعاء عتبة وشيبة وأصحابهما؛ لعلمه بمآلهم وما كشف له من الغطاء عن حالهم. والله أعلم) .
ثانيا:  دعوة نوح عليه السلام على الخلق أجمعين جعلته يعتذر إلى أهل الموقف يوم القيامة عن الشفاعة لهم:  
قال ابن العربي: (إن قيل لم جعل نوح دعوته على قومه سببا لتوقفه عن طلب الشفاعة للخلق من الله في الآخرة؟ قلنا: قال الناس في ذلك وجهان : أحدهما :
أن تلك الدعوة نشأت عن غضب وقسوة؛ والشفاعة تكون عن رضا ورقة، فخاف أن يعاتب ويقال : دعوت على الكفار بالأمس وتشفع لهم اليوم.
الثاني : أنه دعا غضبا بغير نص ولا إذن صريح في ذلك؛ فخاف الدرك فيه يوم القيامة؛ كما قال موسى عليه السلام : (إني قتلت نفسا لم أومر بقتلها). قال : وبهذا أقول .
قلت: وإن كان لم يؤمر بالدعاء نصا فقد قيل له { وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [هود  ٣٦]. فأعلم عواقبهم فدعا عليهم بالهلاك؛ كما دعا نبينا على شيبة وعتبة ونظرائهم فقال: (اللهم عليك بهم) لما أعلم عواقبهم؛ وعلى هذا يكون فيه معنى الأمر بالدعاء. والله أعلم.

نتابع التفسير:
ثم قال: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ) دعا لنفسه ولوالديه وكانا مؤمنين. وهما : لمك بن متوشلخ وشمخى بنت أنوش؛ ذكره القشيري والثعلبي. وحكى الماوردي في اسم أمه منجل. قال الكلبي : كان بينه وبين آدم عشرة آباء كلهم مؤمنون. وقال ابن عباس: لم يكفر لنوح والد فيما بينه وبين آدم عليهما السلام.
 (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا ) قال الضحاك: يعني: مسجدي، ولا مانع من حمل الآية على ظاهرها، وهو أنه دعا لكل من دخل منـزله وهو مؤمن، وقد روى الإمام أحمد  بسنده عن أبي سعيد الخدري قال أنه سمع رسول الله يقول: " لا تصحَبْ إلَّا مؤمنًا ولا يأكُلْ طعامَك إلَّا تقيٌّ " ( صحيح ابن حبان ورواه أبو داود والترمذي، من حديث عبد الله بن المبارك)
وقوله: {وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا} أي مسجدي ومصلاي مصليا صدقا بالله. وكان إنما يدخل بيوت الأنبياء من آمن منهم فجعل المسجد سببا للدعاء بالمغفرة. وقد قال النبي. : (والملائكةُ تُصلِّي على أحدِكم مادامَ في مجلسِهِ الذي صلَّى فيه تقولُ : اللَّهمَّ اغفرْ له اللَّهمَّ ارحمْهُ اللَّهمَّ تُبْ عليْهِ ، ما لم يؤذِ فيه أحدًا أو يُحدثْ فيه) ( صحيح الجامع للألباني)  

وقوله: (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) دعاء لجميع المؤمنين والمؤمنات، وذلك يَعُم الأحياءَ منهم والأموات؛ ولهذا يستحب مثل هذا الدعاء، اقتداء بنوح، عليه السلام، وبما جاء في الآثار، والأدعية [المشهورة] المشروعة..
{وللمؤمنين والمؤمنات} عامة إلى يوم القيامة؛ قاله الضحاك. وقال الكلبي: من أمة محمد وقيل: من قومه؛ والأول أظهر.
ثم قال: {ولا تزد الظالمين} أي الكافرين. { إلا تبارا} إلا هلاكا؛ فهي عامة في كل كافر ومشرك، وقيل : أراد مشركي قومه. والتبار : الهلاك. وقيل : الخسران؛ حكاهما السدي. ومنه قوله تعالى {إن هؤلاء متبر ما هم فيه} الأعراف ١٣٩]، وقيل: التبار الدمار؛ والمعنى واحد.
والله أعلم ، تم ولله الحمد والمنة، وهو الموفق للصواب.


للفائدة: ما جاء في  الحث على الدعاء للمؤمنين والمؤمنات:

أولا: يستحب لجميع المسلمين الدعاء بالمغفر لإخوانهم المسلمين الأحياء منهم والميتين ، ولا شك أن الملائكة ستؤمن على دعائه وسيأتيه مثل ما دعا به .

روى عبد الرزاق في "المصنف"
عن ابن جريج قال : قلتُ لعطاء : أَستَغفرُ للمؤمنين والمؤمنات ؟
قال : نعم ، قد أُمر النبيُّ بذلك ، فإنَّ ذلك الواجبَ على الناس، قال الله لنبيِّه : (اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ)
قلتُ : أفتدع ذلك في المكتوبة أبداً ؟ قال : لا .( أي هل نترك الدعاء للمؤمنين والمؤمنات في الصلاة المكتوبة؟، فالجواب أن لا تتركه ولا حتى في الصلاة المكتوبة)
قلت : فبِمَن تبدأ ، بنفسك أم بالمؤمنين ؟
قال : بل بنفسي ، كما قال الله : ( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ ) " انتهى .

ثانيا: الاستغفار  والدعاء للمؤمنين والمؤمنات هو اتباع للرسل والأنبياء الكرام:

 فقد دعا به نوح عليه السلام: ( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) ( نوح٢٨)
ودعا به إبراهيم عليه السلام فقال: ( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ) (إبراهيم٤١ )
وأمر الله سبحانه وتعالى نبيه أن يدعو به فقال : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) (محمد١٩)
وحكاه الله عن المؤمنين الصادقين المخلصين فقال: ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) (الحشر١٠)
وهو فعل الملائكة عليهم السلام ، كما قال تعالى عنهم : ( وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأَرْضِ ) (الشورى٥).


ولكن هل ورد تعيين فضل معين أو أجر لمن دعا لكافة المؤمنين والمؤمنات؟

لم يصح حديث في تعيين فضل معين للاستغفار للمؤمنين والمؤمنات، وما ورد في ذلك من الحديث لا يثبت، وكلها في أسانيدها ضعف وفي متونها نكارة
 إذ فيها مبالغة في الأجر لا تتناسب مع العمل، فلا تصح . ومن هذه هي الأحاديث الواردة في ذلك : قولهم: عن عبادة رضي الله عنه قال رسول الله : (من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة)، لا يصح .

ولكن تضعيف الأحاديث الواردة في أجور من دعا للمؤمنين والمؤمنات، هو تضعيف لأن تكون من كلام النبي، ولخصوص الأجور المذكورة فيها ، وذلك لا يعني عدم استحباب الاستغفار لجميع المسلمين والمسلمات . ورد أيضاً أن من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب فإن الملك يؤمن على دعائه ويدعو له بمثله، فقد روى مسلم في صحيحه عن أم الدرداء أن النبي كان يقول: "دَعْوَةُ المَرْءِ المُسْلِمِ لأَخِيهِ بظَهْرِ الغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّما دَعَا لأَخِيهِ بخَيْرٍ، قالَ المَلَكُ المُوَكَّلُ بهِ: آمِينَ وَلَكَ بمِثْلٍ". فدعاؤك للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات يؤمن عليه الملك ويدعو لك بمثله.

فالجميعُ مشتركون في الحاجة بل في الضرورة إلى مغفرةِ الله وعفوِه ورحمتِه ، فكما يُحبُّ - أي المسلم - أن يَستغفرَ له أخوه المسلمُ ، كذلك هو أيضاً ينبغي أن يستغفرَ لأخيه المسلم
وقد كان بعضُ السلف يستحبُّ لكلِّ أحدٍ أن يُداوم على الاستغفار لنفسه أولا ، ولجميع المسلمين والمسلمات، ومنهم من كان يدعو بها  كلَّ يوم سبعين مرَّة .
وعن ابن تيمية  يقول : إنَّ جعلَه بين السجدتين جائزٌ ، فإنه إذا شهدَ العبدُ أنَّ إخوانه مصابون بمثل ما أُصيب به ، محتاجون إلى ما هو محتاجٌ إليه لَم يمتنع من مساعدتهم إلاَّ  من طغى عليه جهله بمغفرة الله وفضلِه ، وحقيقٌ بهذا أن لا يُساعَد ، فإنَّ الجزاءَ من جنس العمل " انتهى .
والله أعلم .