Tuesday 29 November 2022

السيرة النبوية الشريفة نتائج ما بعد صلح الحديبية 1

   

آثار صلح  الحديبية

أمن المسلمون فتفرغوا للدعوة

خارج جزيرة العرب

أم المؤمنين -ماريا القبطية

 

أثر الصلح :

كان لهذا الصلح أثر كبير في تسيير الدعوة الإسلامية، فقد وجد المسلمين فرصه اللقاء بعامة العرب، ودعوتهم إلى الله، فدخل الناس في الإسلام بكثرة، وبلغ عددهم في عامين ما لم يبلغ خلال تسعة عشر عاماً، وقد جاء كبار قريش وخلاصتها : عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وعثمان بن طلحة إلى رسول الله ﷺ، طائعين راغبين ، يشهدون أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله، ويبايعونه على الإسلام ، ويبذلون له كل ما يملكون من غال ورخيص ، ويفدونه بالنفوس والأرواح ، والمواهب والقدرات ، وقد قال رسول الله ﷺ، حينما جاءوا : "إن مكة قد ألقت إلينا أفلاذ كبدها " .

دخول خزاعة في عهد المسلمين :   

واختارت خزاعة أن يكونوا مع رسول الله ﷺ في هذا الميثاق، فدخلوا في عهده- وقد كانوا خلفاء بني هاشم من زمن الجاهلية- ودخلت بنو بكر في عهد قريش، فكانوا هم السبب في فتح مكة ، وسيأتي .

إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد

عد صلح الحديبية الذي كان مقدمة ومفتاحا لفتح مكة، أسلم عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة ـ رضي الله عنهم ـ، وقد أسلم بإسلام هؤلاء كثير من أهل مكة واتّبعوا دين الحق، وبذلك قويت شوكة الإسلام.

أما عمرو بن العاص رضي الله عنه ـ يُكنى أبا عبد الله، من فرسان قريش وأبطالهم المعدودين، كان معدوداً من دهاة العرب وشجعانهم وذوي آرائهم،  ويضرب به المثل في الفطنة والدهاء والحزم، ولذلك أرسلته قريش إلى النجاشي ملك الحبشة ليرد عليهم من هاجر من المسلمين إلى بلاده،

وفي إسلامه وخالد بن الوليد:

 يقول عمرو رضي الله عنه ـ الحديث فيقول: ( ثم خرجت عامدا إلى رسول الله ﷺ، فلقيتُ خالد بن الوليد، وذلك قبيل الفتح- فتح مكة-، وهو مقبل من مكة، فقلت: أين يا أبا سليمان؟، قال: والله لقد استقام المنسم (تبين لي الطريق ووضح)، وإن الرجل لنبي، أذهب والله فأسلم، فحتى متى (لا نُسلم)؟، قال: قلتُ: والله ما جئت إلا لأسلم، قال: فقدمنا المدينة على رسول اللهﷺـ، فتقدم خالد بن الوليد فأسلم وبايع، ثم دنوت، فقلت: يا رسول الله، إني أبايعك على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولا أذكر ما تأخر، قال: فقال رسول الله ـ ﷺـ: ( يا عمرو، بايع، فإن الإسلام يجب (يقطع ويمحو) ما كان قبله، وإن الهجرة تجب ما كان قبلها، قال: فبايعته، ثم انصرفت ) .

قال عنه النبيﷺ : ( أسلم الناسُ، وآمن عمرو بن العاص ) رواه الترمذي وحسنه الألباني

 

 

مكاتبة النبي ﷺ الملوك والأمراء:

ولما عاد رسول الله ﷺ من عمرة الحديبية، وقد أبرم الصلح مع قريش، وأمن جانبهم ، بدأ بإرسال الكتب إلى الملوك والأمراء ، يدعوهم فيها إلى الإسلام ، ويذكرهم بمضاعفة مسئولياتهم، وهذه هي تلك الكتب بإيجاز :

1- كتابه ﷺإلى النجاشي : أصحمة بن الأبجر ملك الحبشة :

كتب فيه :

" بسم الله الرحمن الرحيم . هذا كتاب من محمد النبي إلى النجاشي الأصحم عظيم الحبشة. سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً ، وأن محمداً عبده ورسوله ، أدعوك بدعاية الإسلام ، فإني أنا رسوله، فأسلم تسلم : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) ﴿آل عمران  ٦٤﴾‏. فإن أبيت فإن عليك إثم النصارى من قومك " .

وبعث الكتاب مع عمرو بن أمية الضمري ، فلما أخذه النجاشي وضعه على عينيه ، ونزل عن سرير ، وأسلم على يد جعفر بن أبي طالب ، وكتب إلى النبيﷺ بإسلامه وبيعته، وزوج أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان بالنبي ﷺ وأصدقها من عنده أربعمائة دينار ، وأرسلها والمهاجرين في سفينتين مع عمرو بن أمية الضمري ، فقدم بهم والنبي ﷺ بخيبر .

مات النجاشي هذا في رجب سنة 9هـ فنعاه النبيﷺ يوم وفاته، وصلى عليه صلاه الغائب . وخلفه على الحبشة نجاشي آخر ، فكتب إليه يدعوه إلى الإسلام . ولا يدري هل أسلم هذا الثاني أو لم يسلم.

 

2- كتابه ﷺ إلى المقوقس ملك الإسكندرية  :

وكتب النبي ﷺ كتاباً إلى المقوقس ملك مصر والإسكندرية وهو :

" بسم الله الرحمن الرحيم " من محمد عبدالله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط . سلام على من اتبع الهدى . أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام . أسلم تسلم ، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإن عليك إثم أهل القبط ، (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) ﴿آل عمران  ٦٤﴾.

أجر من أسلم من أهل الكتاب:

قال تعالى: ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ ﴿٥٢﴾‏ وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ﴿٥٣﴾‏ أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴿٥٤﴾ (سورة القصص)

وقال رسول الله ﷺ: " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوجها " .(متفق عليه)

وبعث الكتاب مع حاطب بن أبي بلتعة ،كان معروفاً بحكمته وبلاغته وفصاحته. فأخذ حاطب كتاب النبي ﷺ إلى مصر وبعد أن دخل على المقوقس الذي رحب به. واخذ يستمع إلى كلمات حاطب، فقال له حاطب «يا هذا، إن لنا ديناً لن ندعه إلا لما هو خير منه».

 

اُعجب المقوقس بمقالة حاطب، فقال لحاطب: «إني قد نظرت في أمر هذا النبي فوجدته لا يأمر بزهودٍ فيه، ولا ينهي عن مرغوب فيه، ولم أجدهُ بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آية النبوة بإخراج الخبء والأخبار بالنجوى وسأنظر»

 

أخذ المقوقس كتاب النبي محمد بن عبد الله وختم عليه، وكتب إلى النبي:

Background pattern

Description automatically generated«بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد بن عبد الله، من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبياً بقي، وكنت أظن أنه سيخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديتُ إليك بغلة لتركبها والسلام عليك»

ووضع الكتاب في حُق من عاج، وختم عليه، واحتفظ به، ولكنه لم يسلم، ولما وصلوا المدينة، اختار النبي ﷺ مارية لنفسه، والبغلة لركوبه، ووهب سيرين لحسان بن ثابت رضي الله عنه.

 

أم المؤمنين – ماريا القبطية

رضي الله عنها

 

هي أم المؤمنين ماريَّة بنت شمعون القبطية، أهداها الملك المقوقس للنبي ﷺ، سنة 7 هـ مع حاطب بن أبي بلتعة فعرض عليها الإسلام وهما في الطريق للمدينة، فأسلمت، وقيل أسلمت بعد أن عرض عليها الرسولﷺ الإسلام.

 لم يتزوج النبي ﷺ مارية القبطية ، بل كانت أمَة له تسرى بها، وأنزلها النبي ﷺ فى مسكن خاص مثل غيرها من نسائه، وكان يجري عليها النفقة كالمأكل والملبس مثلهن سواء بسواء . ثم كان يحنو عليها ويقربها إليه ويعاشرها كباقي زوجاته مطبقا في أزواجه العدالة .

ماريا القبطية أم ولد

ومن بركتها أيضا أنها كانت سببًا في تشريع عتق "أم الولد" وهي الجارية التي تلد لسيدها ولو "سقطًا" أي جنينًا يقذفه الرحم ميتًا . إذ أنه فور علمهﷺ  بمولد ابنه إبراهيم من مارية قال ﷺ: "أعتقها ولدها" .

وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال : "أيّما أمة ولدت من سيدها فإنها حرّة إذا مات إلا أن يعتقها قبل موته" أخرجه ابن ماجة في كتاب العتق

ولادة السيدة ماريا ولدا لرسول الله ﷺ

 

بعد مرور عام على قدوم مارية إلى المدينة، حملت مارية، وفرح النبيﷺ لسماع هذا الخبر فقد كان قد قارب الستين من عمرهِ وفقد أولاده ما عدا فاطمة الزهراء. وولدت مـارية في «شهر ذي الحجة من السنة الثامنة للهجرة النبوية» طفلاً جميلاً يشبه الرسول، وقد سماه إبراهيم، تيمناً بأبيه إبراهيم خليل الرحمن.

 

عاش إبراهيم ابن الرسول سنة وبضع شهور يحظى برعاية النبيﷺ ولكنه مرض قبل أن يكمل عامه الثاني، وولما  اشتد مرضه، بعثت ماريا لرسول اللهﷺ أن يحضر .

 عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: " وُلِدَ لي اللَّيْلَةَ غُلَامٌ، فَسَمَّيْتُهُ باسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ دَفَعَهُ إلى أُمِّ سَيْفٍ، امْرَأَةِ قَيْنٍ – أي زوجها كان حدادا - يُقَالُ له أَبُو سَيْفٍ، فَانْطَلَقَ يَأْتِيهِ وَاتَّبَعْتُهُ، فَانْتَهَيْنَا إلى أَبِي سَيْفٍ وَهو يَنْفُخُ بكِيرِهِ، قَدِ امْتَلأَ البَيْتُ دُخَانًا، فأسْرَعْتُ المَشْيَ بيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقُلتُ: يا أَبَا سَيْفٍ أَمْسِكْ، جَاءَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فأمْسَكَ فَدَعَا النبيُّ ﷺ بالصَّبِيِّ، فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، وَقالَ ما شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ.

فَقالَ أَنَسٌ: "لقَدْ رَأَيْتُهُ وَهو يَكِيدُ بنَفْسِهِ بيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَدَمعتْ عَيْنَا رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقالَ: تَدْمَعُ العَيْنُ وَيَحْزَنُ القَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا ما يَرْضَى رَبَّنَا، وَاللَّهِ يا إِبْرَاهِيمُ إنَّا بكَ لَمَحْزُونُونَ." ( مسلم)

وكان ابن ثمانية عشر شهراً. وكانت وفاته يوم الثلاثاء لعشر ليال خلت من ربيع الأول سنة عشر من الهجرة النبوية المباركة"، وحزنت مارية رضي الله عنها حزناً شديداً على موت إبراهيم.

مكانة مارية عند رسول اللهﷺ

 

لمارية شأن كبير عند النبي ﷺ  وفي صحيح الامام مسلم بن الحجاج قال: «قال رسول الله ﷺ: "إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحماً، أو ذمة وصهراً».

وفي رواية: «اإنكم ستفتحون أرضاً يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيراً فإن لهم ذمة ورحما.» (رواه مسلم)

وقد علل التوصية في هاتين الروايتين بالرحم والذمة لا بالنصرانية، وقد فسر أهل العلم الذمة والرحم في شأن أهل مصر بكون هاجر أم إسماعيل قبطية، وأن مارية أم إبراهيم ولد النبي ﷺ قبطية.

وفاة مارية

 

عاشت مارية ما يقارب الخمس سنوات بعد رسول الله ﷺ في ظلال الخلافة الراشدة، وتوفيت في المحرم من السنة السادسة عشر. ودعا عمر بن الخطاب الناس وجمعهم للصلاة عليها. فاجتمع عدد كبير من الصحابة من المهاجرين والأنصار ليشهدوا جنازة مـارية القبطية، ودفنت إلى جانب نساء أهل البيت النبوي، في البقيع، وإلى جانب ابنها إبراهيم.

 

Saturday 26 November 2022

تفسير سورة البقرة ح 21 ما المفهوم من تقديم التعليم على التزكية في هذا...

   
 

تفسير سورة البقرة- ح ٢١

(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ

وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۖ) 

أنا دَعوةُ أبي إبراهيمَ ، وبشارَةُ عيسى بي ورؤيا أمِّي الَّتي رأَت

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ)

لن تُسألَ أمةٌ عن سابقتها، ولا نفسٌ عن نفسٍ شيئًا

 

مواضيع هذا الجزء:

- الأب الرحيم يدعو للعرب من أمته-ويدخل فيها بقية الناس- إن يبعث فيهم ربهم رسولًا يتلو عليهم آيات الكتاب ويهديهم، ويزكيهم.

-كانت دعوة إبراهيم عليه السلام بطلب العلم قبل التزكية، وجاءت نظير هذه الدعوة فيما بعد بطلب التزكية قبل العلم.

-وصية إبراهيم لبنيه، تقول لنا أن محلها حصل بالقبول، فامتدت للأبناء أن يوصوا أبناءهم،،

 

التفسير:

وقوله تعالى: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) ﴿١٢٨﴾‏،  قال ابن جرير: يعنيان بذلك واجعلنا مستسلمين لأمرك، خاضعين لطاعتك، لا نشرك معك في الطاعة أحداً سواك، ولا في العبادة غيرك. وقال عكرمة:   (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) قال اللّه: قد فعلت (وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ)، قال اللّه: قد فعلت. وقال السدي: (وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ) يعنيان العرب. قال ابن جرير: والصواب أنه يعم العرب وغيرهم  تخصيص العرب لا ينفي من عداهم.

وهذا الدعاء من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كما أخبرنا اللّه تعالى عن عباده المتقين المؤمنين في قوله: ( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) ﴿الفرقان ٧٤﴾‏، وهذا القدر مرغوب فيه شرعاً فإنَّ من تمام محبة عبادة اللّه تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبد اللّه وحده لا شريك له.

وقوله: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا)، إن أصل النسك في اللغة الغسل ، يقال منه : نسك ثوبه إذا غسله . وهو في الشرع اسم للعبادة، يقا : رجل ناسك إذا كان عابدا .قال عطاء: أخرجها لنا، علمنا أياها، (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا). اختلف العلماء في المراد بالمناسك هنا :

 فقيل: مناسك الحج ومعالمه، قاله قتادة، وقال مجاهد: المناسك المذابح، أي مواضع الذبح . وقيل: جميع المتعبدات. وكل ما يتعبد به إلى الله تعالى يقال له منسك ومنسك . والناسك : العابد . ثم قال: (وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، وتلك المواضع مكان التنصل من الذنوب وطلب التوبة . وقيل : المعنى وتب على الظلمة منا.

عن ابن عباس قال: إنَّ إبراهيمَ عليه الصلاةُ والسلامُ لما أُرِيَ المناسكَ عرَض له شيطانٌ عندَ المَسعى فسابَقه ، فسبَقه إبراهيمُ  عليه السلامُ ، ثم انطلَق به جبريلُ عليه السلامُ حتى أتى به مِنًى ، فقال: مناخُ الناسِ هذا، ثم انتَهى إلى جمرةِ العقبةِ، فعرَض له شيطانٌ فرَماه بسبعِ حصياتٍ حتى ذهَب به إلى جمرةِ الوُسطى، فعرَض له الشيطانُ، فرَماه بسبعِ حصياتٍ حتى ذهَب ، ثم أتى جمرةَ القُصوى، فعرَض له الشيطانُ فرَماه بسبعِ حصياتٍ حتى ذهَب، ثم أتى به جمعًا فقال: هذا المشعرُ الحرامُ، ثم أتى به عَرَفَةَ فقال: هذه عَرَفَةُ،  قال ابنُ عباسٍ : أتَدري لِمَ سُمِّيَتْ عَرَفَةَ ؟ قال: لا قال: لأنَّ جبريلَ عليه السلامُ  قال له: أعَرَفتَ ؟) "أخرجه الطيالسي عن ابن عباس".

 والسياق إنما هو في العرب، ولهذا قال بعده: ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) ﴿١٢٩﴾. والمراد بذلك محمد ﷺ، وقد بعث فيهم كما قال تعالى:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ ) ﴿الجمعة  ٢﴾  ، ومع هذا لا ينفي رسالته إلى الأحمر والأسود لقوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) ﴿الأعراف ١٥٨﴾‏  وغير ذلك من الأدلة القاطعة.

عن العرباض بن سارية،أن رسول الله ﷺ قال: (إنِّي عندَ اللَّهِ لخاتِمُ النَّبيِّينَ، وإنَّ آدمَ لمنجدِلٍ في طينتِهِ ، وسأنبِّئُكُم بأوَّلِ ذلِكَ : دَعوةُ أبي إبراهيمَ ، وبشارَةُ عيسى بي ورؤيا أمِّي الَّتي رأَت ، وَكَذلِكَ أمَّهاتِ النبيِّينَ يريْنَ) ( عمدة التفسير- صحح إسناده أحمد شاكر-بدون جملة (وكذلك أمهات النبيين يرين)

قوله تعالى : ومن ذريتنا أمة مسلمة لك أي ومن ذريتنا فاجعل ، فيقال: إنه لم يدع نبي إلا لنفسه ولأمته إلا إبراهيم فإنه دعا مع دعائه لنفسه ولأمته ولهذه الأمة. ومن في قوله: ومن ذريتنا للتبعيض ; لأن الله تعالى قد كان أعلمه أن منهم ظالمين . وحكى الطبري : أنه أراد بقوله ومن ذريتنا العرب خاصة. قال السهيلي : وذريتهما العرب؛  لأنهم بنو نبت بن إسماعيل، أو بنو تيمن بن إسماعيل، ويقال : قيدر بن نبت بن إسماعيل. أما من جاء بعدهم؛ فالعدنانية فمن نبت ، وأما القحطانية فمن قيدر بن نبت بن إسماعيل ، أو تيمن على أحد القولين . قال ابن عطية : وهذا ضعيف ; لأن دعوته ظهرت في العرب وفيمن آمن من غيرهم .

والأمة : الجماعة هنا، وتكون واحدا إذا كان يقتدى به في الخير ، ومنه قوله تعالى : ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفً ..ا) ﴿ النحل١٢٠﴾

 وقال ﷺ في زيد بن عمرو بن نفيل: (إنَّهُ يُبْعَثُ أُمَّةً وحْدَهُ ) لأنه لم يشرك في دينه غيره.


وقد يطلق لفظ الأمة على غير هذا المعنى ، ومنه قوله تعالى: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ)﴿الزخرف ٢٢﴾‏؛ أي على دين وملة، ومنه قوله تعالى: ( إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) ﴿الأنبياء ٩٢﴾‏

-وقال تعالى: (وَإِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) ﴿المؤمنون ٥٢﴾‏.

 وقد تكون بمعنى الحين والزمان ، ومنه قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ...) ﴿٤٥يوسف﴾ أي بعد حين وزمان .

 والأمة: الأم ، يقال : هذه أمة زيد.

والأمة أيضا : القامة ، يقال : فلان حسن الأمة ، أي حسن القامة

نبذه عن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي القرشي مؤمن حنيفي: هو أحد أشهر الموحدين في الجاهلية، وهو والد سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة، من زوجته فاطمة بنت بَعْجَة بن أُميّة بن خُويلد.

ذكر عنه أنه: وحد الله باحثاً عن دين إبراهيم الحنيف. ارتحل في الجزيرة العربية والشام والعراق باحثاً عن الإسلام، وهناك قابل أحبار اليهود والنصارى، وعلم أن نبياً سيبعث، ولم يقتنع باليهودية ولا النصرانية فظل على حنيفيته، إلا أن أحد الأحبار قال له: «إرجع فإن النبي الذي تنتظره يظهر في أرضك». فرجع زيد إلى مكة، وقد لقي محمداً غير ما مرة، غير أنه لم يدرك البعثة، وذكر عنه النبيﷺ أنه كان يأبى أكل ما ذبح للأصنام.

عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لقد رأيت زيداً بن عمرو بن نفيل مسندا ظهره إلى الكعبة يقول: «يا معشر قريش والذي نفس زيد بيده ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري»، ثم يقول: «اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به، ولكني لا أعلم»، ثم يسجد على راحلته.

وجاء في صحيح البخاري: عن عبد الله بن عمر، رضى الله عنهما : «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَقِيَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسْفَلِ بَلْدَحَ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ الْوَحْىُ فَقُدِّمَتْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ سُفْرَةٌ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا ، ثُمَّ قَالَ زَيْدٌ إِنِّي لَسْتُ آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ، وَلاَ آكُلُ إِلاَّ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَأَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو كَانَ يَعِيبُ عَلَى قُرَيْشٍ ذَبَائِحَهُمْ، وَيَقُولُ: «الشَّاةُ خَلَقَهَا اللَّهُ، وَأَنْزَلَ لَهَا مِنَ السَّمَاءِ الْمَاءَ، وَأَنْبَتَ لَهَا مِنَ الأَرْضِ، ثُمَّ تَذْبَحُونَهَا عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ إِنْكَارًا لِذَلِكَ وَإِعْظَامًا لَهُ.»    والله أعلم .

عودة للتفسير:

قوله تعالى: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ، ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يعني محمدا ﷺ. وفي قراءة أبي " وابعث في آخرهم رسولا منهم "  ويعلمهم الكتاب والحكمة الكتاب القرآن والحكمة المعرفة بالدين، والفقه في التأويل، والفهم الذي هو سجية ونور من الله تعالى، قاله  الإمام مالك،  وقال قتادة : الحكمة السنة وبيان الشرائع . وقيل: الحكم والقضاء خاصة، والمعنى متقارب.

ونسب التعليم إلى النبي ﷺ من حيث هو يعطي الأمور التي ينظر فيها، ويعلم طريق النظر بما يلقيه الله إليه من وحيه. ويزكيهم أي يطهرهم من وضر الشر، والزكاة : التطهير، لذلك كانت زكاة المال : طهرة للمال.

ويزكيهم أي يطهرهم من نجس الشرك، وقيل أنه خص هنا التزكية على التعليم لأنهم كانوا يشركين بالله فلزم أن يطهر نفوسهم من الشرك قبل أن يتلوا القرآن والحكمة.

وقيل: إن الآيات تلاوة ظاهر الألفاظ. والكتاب معاني الألفاظ. والحكمة الحكم، وهو مراد الله بالخطاب من مطلق ومقيد ، ومفسر ومجمل ، وعموم وخصوص ، وهو معنى ما تقدم ، والله تعالى أعلم .

(إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)  والعزيز معناه المنيع الذي لا ينال ولا يغالب، ولا يعجزه شيء ، دليله قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ) ﴿فاطر ٤٤﴾‏.

قال الكسائي: العزيز الغالب، ومنه قوله تعالى : (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) ﴿ص ٢٣﴾؛ أي غلبني، وفي المثل : " من عزَّ بز " أي؛ من غلب سلب . وقيل: العزيز الذي لا مثل له .

الحَكَمَةُ: ما أحاط بحَنَكَي الفرس، سُمِّيت بذلك؛ لأنَّها تمنعه من الجري الشَّديد، وتُذلِّل الدَّابَّة لراكبها، حتى تمنعها من الجِماح، ومنه اشتقاق الحِكْمَة؛ لأنَّها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل.

وأَحْكَمَ الأَمْرَ: أي أَتْقَنَه فاستَحْكَم، ومنعه عن الفساد، أو منعه من الخروج عمَّا يريد.

والحِكْمَة:  اسم لإحكام وضع الشيء في موضعه.

وقال ابن القيِّم: (الحِكْمَة: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي)

وَالحَكِيمُ سُبْحَانَهُ هُوَ المُتَّصِفُ بِحِكْمَةٍ حَقِيقِيَّةٍ عَائِدَةٍ إِلَيْهِ وَقَائِمَةٍ بِهِ كَسَائِرِ صِفَاتِهِ وَالتِي مِنْ أَجَلِهَا خَلَقَ فَسَوَّى، وَقَدَّرَ فَهَدَى، وَأَسْعَدَ وَأَشْقَى، وَأَضَلَّ وَهَدَى، وَمَنَعَ وَأَعْطَى.

 فَهُوَ المُحْكِمُ لِخَلْقِ الأَشْيَاءِ عَلَى مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ، وهو الحكِيم في كُل مَا فعله وخلقه، بحكمة بالغة، والله عز وجل يفعل ما يشاء، ولا يرد له قضاء، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وما ذلك  إلا لأنه الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضها الصحيحة، لأنه يعلم خواصها ومنافعها، وهو الذي يرتب الأسباب والنتائج.

قوله تعالى: (وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي؛ ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه، وهو تقريع وتوبيخ وقع فيه معنى النفي، أي وما يرغب، والمعنى: من يزهد في ملة إبراهيم عليه السلام، وينأى بنفسه عنها، أي عن الملة وهي الدين والشرع . إلا من سفه نفسه قال قتادة : هم اليهود والنصارى ، رغبوا عن ملة إبراهيم واتخذوا اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله تعالى .  قال الزجاج : سفه بمعنى جهل، أي جهل أمر نفسه فلم يفكر فيها. والمعنى أهلك نفسه .

وقال كيف يغفل المخلوق أن يفكرمن يفكر في نفسه من أعطاه يدين يبطش بهما، ورجلين يمشي عليهما، وعين يبصر بها، وأذن يسمع بها، ولسان ينطق به، وأضراس تنبت له عند غناه عن الرضاع وحاجته إلى الغذاء ليطحن بها الطعام، ومعدة أعدت لطبخ الغذاء،،، وغيره ما لا يحصى، منها يستدل على أن له خالقا قادرا عليما حكيما ، وهذا معنى قوله تعالى: (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) ﴿الذاريات ٢١﴾‏

وقد استدل بهذه الآية من قال: إن شريعة إبراهيم شريعة لنا إلا ما نسخ منها وهذا كقوله : (مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ ) ﴿الحج ٧٨﴾،  وقوله: ( أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ﴿النحل ١٢٣﴾‏،

وقوله: قوله تعالى : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ)  أي اخترناه للرسالة فجعلناه صافيا من الأدناس . والأصل في اصطفيناه اصتفيناه ، أبدلت التاء طاء لتناسبها مع الصاد في الإطباق . واللفظ مشتق من الصفوة ، ومعناه تخير الأصفى .

قوله تعالى : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)، الصالح في الآخرة هو الفائز . التقدير: إنه لمن الصالحين في الآخرة .

وقوله تعالى‏:‏ ‏ (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏) ‏ أي أمره اللّه بالإخلاص له والاستسلام والانقياد فأجاب إلى ذلك شرعاً وقدراً . والإسلام هنا على أتم وجوهه.

 والإسلام في كلام العرب : الخضوع والانقياد للمستسلم. وليس كل إسلام إيمانا، وكل إيمان إسلام ، لأن من آمن بالله فقد استلم وانقاد لله . وليس كل من أسلم آمن بالله؛ لأنه قد يتكلم فزعا من السيف ، ولا يكون ذلك إيمانا ، ودليلنا قوله تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَـٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) ﴿الحجرات ١٤﴾. فأخبر الله تعالى أنه ليس كل من أسلم مؤمنا ، فدل على أنه ليس كل مسلم مؤمنا ،عن سعد بن أبي وقاص:  أنَّ رَسولَ اللهِ ﷺ أعْطَى رَهْطًا وسَعْدٌ جالِسٌ فيهم، قالَ سَعْدٌ: فَتَرَكَ رَسولُ اللهِ ﷺ منهمْ مَن لَمْ يُعْطِهِ، وهو أعْجَبُهُمْ إلَيَّ، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، ما لكَ عن فُلانٍ؟ فَواللَّهِ إنِّي لأَراهُ مُؤْمِنًا، فقالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: أوْ مُسْلِمًا، .... ) (رواه مسلم ) الحديث ، فدل على أن الإيمان ليس الإسلام ، فإن الإيمان باطن ، والإسلام ظاهر ، وهذا بين . وقد يطلق الإيمان بمعنى الإسلام ، والإسلام ويراد به الإيمان ، للزوم أحدهما الآخر وصدوره عنه ، كالإسلام الذي هو ثمرة الإيمان ودلالة على صحته.

وقوله‏:‏ ‏ ( وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) أي وصّى بهذه الملة وهي الإسلام للّه، أو يعود الضمير على الكلمة وهي قوله‏:‏ ‏(أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏)‏ لحرصهم عليها ومحبتهم لها حافظوا عليها إلى حين الوفاة،  ووصوا أبناءهم من بعدهم، كقوله تعالى‏:‏ ‏ (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ..) ﴿الزخرف٢٨﴾.

  ووسياق الآيات بين أن إسحاق ولد له يعقوب في حياة الخليل وسارة، لأن البشارة وقعت بهما في قوله‏:‏ ‏ (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ )﴿هود ٧١﴾‏ ، وقال تعالى:‏ (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ) ﴿الأنبياء ٧٢﴾‏‏، وهذا يقتضي أنه وجد في حياته، وأيضاً فإنه باني بيت المقدس كما نطقت بذلك الكتب المتقدمة، وثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر قلت‏: (قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ؟ قالَ: المَسْجِدُ الحَرَامُ. قُلتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قالَ: ثُمَّ المَسْجِدُ الأقْصَى. قُلتُ: كَمْ كانَ بيْنَهُمَا؟ قالَ: أَرْبَعُونَ) ( البخاري)، ومن زعم أن سليمان هو باني بيت المقدس فقد أخطأ،  إنما كان جدده بعد خرابه وزخرفه - لإن المدة بين إبراهيم عليه السلام ، وسليمان عليه السلام تزيد على ألوف السنين واللّه أعلم.

‏ووصى وأوصى لغتان لقريش وغيرهم بمعنى ، مثل كرمنا وأكرمنا ، وقرئ بهما . وفي مصحف عبد الله " ووصى " ، وفي مصحف عثمان " وأوصى " وهي قراءة أهل المدينة والشام .

ووصى " وفيه معنى التكثير . " وإبراهيمُ " رفع بفعله " ويعقوبُ " عطف عليه ، وقيل : هو مقطوع مستأنف، والمعنى : وأوصى يعقوب وقال يا بني إن الله اصطفى لكم الدين ، فيكون إبراهيم قد وصى بنيه، ثم وصى بعده يعقوب بنيه.

وقوله: (يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)، لكم الدين أي الإسلام ، والألف واللام في " الدين " للعهد؛  لأنهم قد كانوا عرفوه . فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون إيجاز بليغ.والمعنى: الزموا الإسلام ودوموا عليه ولا تفارقوه حتى تموتوا . فأتى بلفظ موجز يتضمن المقصود، ويتضمن وعظا وتذكيرا بالموت ، وذلك أن المرء يتحقق أنه يموت ولا يدري متى ،

لا نهي تموتن في موضع جزم بالنهي، أكد بالنون الثقيلة، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين . إلا وأنتم مسلمون ابتداء وخبر في موضع الحال، أي محسنون بربكم الظن، وقيل مخلصون، وقيل مفوضون ، وقيل مؤمنون .

وقوله تعالى: (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)

يقول تعالى محتجاً على المشركين من العرب أبناء إسماعيل، وعلى الكفار من بني إسرائيل بأن يعقوب لما حضرته الوفاة، وصّى بنيه بعبادة الله وحده لا شريك له فقال لهم‏:‏ ‏ (مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) ، وهذا من باب التغليب لأن إسماعيل عمه، قال النحاس‏:‏ والعرب تسمي العم أباً نقله القرطبي، وقد استدل بهذه الآية الكريمة من جعل الجد أباً وحجب به الإخوة - كما هو قول الصديق - حكاه البخاري عنه‏.‏ وقوله:‏‏ (إِلَٰهًا وَاحِدًا )‏ أي نوحده بالألوهية ولا نشرك به شيئاً غيره، ‏ (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)

 ‏ أي مطيعون خاضعون؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏ ( وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) ﴿آل عمران ٨٣﴾‏ ‏‏.‏ والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة وإن تنوعت شرائعهم واختلفت مناهجهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏ (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) ﴿الأنبياء ٢٥﴾ ‏ وقال ﷺ ‏:‏ ‏"أنا أَوْلَى النَّاسِ بابْنِ مَرْيَمَ، ليسَ بَيْنِي وبيْنَهُ نَبِيٌّ، وَالأنْبِيَاءُ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ ، امهاتهم شتى ودينهم واحد." ‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏ أي مضت، ‏ (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ) ‏ أي أن السلف الماضين من آبائكم من الأنبياء والصالحين لا ينفعكم انتسابكم إليهم إذا لم تفعلوا خيراً يعود نفعه عليكم، فإن لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم.

وهذا مذهب أهل السنة ، والآي في القرآن بهذا المعنى كثيرة . فالعبد مكتسب لأفعاله، على معنى أنه خلقت له قدرة مقارنة للفعل ، يدرك بها الفرق بين حركة الاختيار وحركة الرعشة مثلا ، وذلك التمكن هو مناط التكليف .  (وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، أي لا يؤاخذ أحد بذنب أحد، مثل قوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ.. )﴿الأنعام ١٦٤﴾‏  أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى،  ولهذا جاء في الأثر‏:‏ "مَنْ أبْطأَ بهِ عملُهُ لمْ يُسرِعْ بهِ نَسبُهُ" ‏( صحيح ابن حبان- الألباني).