Saturday 26 February 2022

تفسير سورة البقرة ح 9 نعم الله على بني إسرائيل كيف عاملوها

  
  

تفسير سورة البقرة – ح ٩- تعداد نعم الله ، وبيان شرهم وسخفهم، وعصيانا للمنعم

 

محور مواضيع هذا الجزء:

- بيان شدة تعنت بني إسرائيل على موسى عليه السلام، وردهم لأوامر الله، وكثرة أسئلتهم. ومنها يظهر فضل صحابة النبي محمد ﷺ في سرعة استجابتهم للنبي، فيجازوا بالنعم التي تأتي بها معجزات النبي ﷺ.

-بيان أن الله قد انعم على هذه الأمة بالحنفية السمحة مع  كونها كاملة تامة، لا يدخلها شائبة، يقر بها من  أنصف.

-تعداد بعض من نعم الله على بني إسرائيل، وكيف قابلوها، وكيف كان مآلهم.

التفسير:

قوله تعالى: ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ) وهذا القول غاية الظلم والجراءة على الله وعلى رسوله

وقصة هذا القول كما رواها ابن جرير: لما رجع موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل، وقال لأخيه وللسامري ما قال، وحرَّق العجل وذراه في اليم،  اختار موسى منهم سبعين رجلا، الخيِّر فالخيِّر، وقال: انطلقوا إلى اللّه وتوبوا إلى اللّه مما صنعتم، واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم. صوموا وتطَّهروا وطهِّروا ثيابكم، فخرج بهم إلى طور سيناء لميقاتِ وقَّته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم، فقال له السبعون - فيما ذكر لي - حين صنعوا ما أمروا به وخرجوا للقاء اللّه: يا موسى اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا. فقال: أفعل. فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا. وكان موسى إذا كلمه اللّه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب، ودنا القوم حتى دخلوا في الغمام وقعوا سجوداً فسمعوه وهو يكلم موسى، يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل، فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم، فقالوا لموسى: )لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) قال: فسمعوا صوتاً فصعقوا، يقول ماتوا. قال السدي في قوله: ( فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ) الصاعقة: نار تأتي مع الربق والصواعق، فماتوا، إما الموت،  أو الغشية العظيمة،  فقام موسى يبكي ويدعو اللّه ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم ويقول: )قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا) (الأعراف ١٥٥)، فهولاء قد سفهوا، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما يفعل السفهاء منا؟ أي قال :اخترت منهم سبعين رجلاً الخير فالخير، أفأرجع إليهم وليس معي منهم رجُل واحد! فما الذي يصدقوني به ويأمنوني عليه بعد هذا؟ قال: (إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ) (الأعراف ١٥٦) أي: رجعنا إليك تائبون، فلم يزل موسى يناشد ربه عزّ وجلّ ويطلب إليه حتى ردَّ إليهم أرواحهم، أي إن اللّه أحياهم فقاموا وعاشوا ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون؟ قال: فذلك قوله تعالى: ( ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .وطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا إلا أن يقتلوا أنفسهم فكان كما سبق وقلنا. 

وقال الربيع ابن أنَس: كان موتهم عقوبة لهم فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم.

وما جاء في الصعق عند النفخة الأولى: وصعق الأرواح عند النفخ في الصور لا يلزم منه موتها، ففي الحديث الصحيح أن «الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بقائمة العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور».وفي هذا دلالة على أن موسى ومن معه صعقوا هو الغشية، لأنه ﷺ قد ذاق الموت، هو وكل البشر الذين ماتوا قبل يوم القيامة.

لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم، شرع يذكِّرهم أيضاً بما أسبغ عليهم من النعم، فذكر نعمته عليكم في التيه والبرية الخالية من الظلال وسعة الأرزاق، فقال: ( وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ) ، كان هذا في البرّية ظلل عليهم الغمام من الشمس، و (الغمام) جمع غمامة، سمي بذلك لأنه يغمّ السماء أي يواريها ويسترها، وهو السحاب الأبيض ظللوا به في التيه ليقيهم حرّ الشمس، (وَأَنزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ ) اختلفت عبارات المفسِّرين في المن ما هو؟ قيل: وهو اسم جامع لكل رزق حسن يحصل بلا تعب، ومنه الزنجبيل والكمأة والخبر وغير ذلك، لا يحتاج لزراعة وعناية.

قال ابن عباس: كان المن ينزل عليهم على الأشجار فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاءوا، وقال السُّدي: قالوا: يا موسى كيف لنا بما ههنا، أي الطعام؟ فأنزل عليهم المنّ فكان يسقط على شجرة الزنجبيل. وقال قتادة: كان المن ينزل عليهم في محلّهم سقوط الثلج، أشدّ بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس يأخذ الرجل منهم قدر ما يكفيه يومه ذلك.

الغرض أن عبارات المفسرين متقاربة في شرح المن. فمنهم من فسَّره بالطعام، ومنهم من فسَّره بالشراب، والظاهر - واللّه أعلم - أنه كل ما امتنَّ اللّه به عليهم من طعام وشراب وغير ذلك مما ليس لهم فيه عمل ولا كد.

فالمن المشهور إن أكل وحده كان طعاماً وحلاوة، وإن مُزج مع الماء صار شرابا طيّباً، وإن ركِّب مع غيره صار نوعاً آخر، ولكن ليس هو المراد من الآية وحده، والدليل على ذلك قول النبي صلى اللَه عليه وسلم : " الكَمْأَةُ مِنَ المَنِّ، وماؤُها شِفاءٌ لِلْعَيْنِ" (رواه البخاري وأخرجه الجماعة إلا أبا داود).وقال رسول الله ﷺ: " العَجْوَةُ من الجنةِ ، وفيها شِفاءٌ من السُّمِّ ، والْكَمْأَةُ من المَنِّ وماؤُها شفاءٌ للعينِ" (تفرد بإخراجه الترمذي وقال حديث حسن غريب).

( وَالسَّلْوَى) طائر صغير يقال له السماني، طيب اللحم، فكان ينزل عليهم من المن والسلوى ما يكفيهم ويقيتهم، وكان الرجل يذبح منها قدر ما يكفيه يومه ذلك، فإذا تعدى فسد ولم يبق عنده، وقال: ( كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ) أي: رزقا لا يحصل نظيره لأهل المدن المترفهين، فلم يشكروا هذه النعمة، واستمروا على قساوة القلوب وكثرة الذنوب.

(وَمَا ظَلَمُونَا ) يعني بتلك الأفعال المخالفة لأوامرنا لأن الله لا تضره معصية العاصين، كما لا تنفعه طاعات الطائعين، (وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) فيعود ضرره عليهم.

عبرة:

وقوله تعالى: (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏) أي أمرناهم بالأكل مما رزقناهم وأن يعبدوا، فخالفوا وكفروا فظلموا أنفسهم. هذا مع ما شاهدوه من الآيات البينات، والمعجزات القاطعات، وخوارق العادات، من ههنا تتبين فضيلة أصحاب محمد ﷺ، ورضي عنهم على سائر أصحاب الأنبياء، في صبرهم وثباتهم، وعدم تعنتهم مع ما كانوا معه في أسفاره وغزواته، منها عام تبوك في ذلك القيظ والحرّ الشديد والجهد، لم يسألوا خرق عادة ولا إيجاد أمر مع أن ذلك كان سهلاً على النبي ﷺ، ولكن لما أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم فجمعوا ما معهم فجاء قدْر مبرك الشاة فدعا اللّه فيه وأمرهم فملئوا كل وعاء معهم، وكذا لما احتاجوا إلى الماء سأل اللّه تعالى فجاءتهم سحابة فأمطرتهم فشربوا وسقوا الإبل وملئوا أسقيتهم ثم نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر. رضي الله عنهم أجمعين.

 

وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * .

 

وقوله :( وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا )، وهذا أيضا من نعمته عليهم بعد معصيتهم إياه، فأمرهم بدخول قرية تكون لهم عزا ووطنا ومسكنا، ويحصل لهم فيها الرزق الرغد، وأن يكون دخولهم على وجه خاضعين لله فيه بالفعل،

قوله تعالى (هَذِهِ الْقَرْيَةَ ) أي المدينة سميت بذلك لأنها تقرت أي اجتمعت الناس فيها، ومنه قريت الماء في الحوض أي جمعته، قال الجمهور : هي بيت المقدس وقيل : أريحاء من بيت المقدس قال عمر بن شبة كانت قاعدة ومسكن ملوك، وقيل: الرملة والأردن وفلسطين وتدمر. وقوله: (فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا)،أي: كثيرا واسعا ، وهو نعت لمصدر محذوف أي أكلاً رغداً، ويجوز أن يكون في موضع الحال على ما تقدم وكانت أرضا مباركة عظيمة الغلة فلذلك قال (رَغَدًا)

وهذه نعمه أخرى وهى أنه أباح لهم دخول البلدة وأزال عنهم التيه، وهو دخول الباب (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ)  سجدا: خاضعين ذليلين هيئة، وبالقول وهو أن يقولوا: ( حِطَّةٌ ) أي أن يحط عنهم خطاياهم بسؤالهم إياه مغفرته.

والباب الذي أمروا بدخول هو باب في بيت المقدس يعرف اليوم بـ (باب حطه) عن مجاهد وغيره وقيل : باب القبة التي كان يصلي إليها موسى وبنو إسرائيل و (سُجَّدًا) قال ابن عباس : منحنين ركوعا ، وقيل: متواضعين خشوعا لا على هية متعينة. وقوله تعالى: ( وَقُولُوا ) عطف على أدخلوا. قوله تعالى (حِطَّةٌ)  بالرفع قراءة الجمهور على إضمار مبتدأ أي مسألتنا حطة أو يكون حكاية. قال الأخفش : وقرئت(حِطَّةً)  بالنصب على معنى احطط عنا ذنوبنا حطة.

قال النحاس : الحديث عن ابن عباس أنه قيل لهم : قولوا لا إله إلا الله وفي حديث آخر عنه قيل لهم قولوا مغفرة - تفسير للنصب، أي قولوا شيئا يحط ذنوبكم كما يقال : قل خيرا

( نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ) بسؤالكم المغفرة، ( وَسَنزيدُ الْمُحْسِنِينَ ) بأعمالهم، أي: جزاء عاجل وآجلا.

( فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ) منهم، ولم يقل فبدلوا لأنهم لم يكونوا كلهم بدلوا (قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ) فقالوا بدل حطة: حبة في حنطة، استهانة بأمر الله، واستهزاء وإذا بدلوا القول مع خفته فتبديلهم للفعل من باب أولى وأحرى، ولهذا دخلوا يزحفون على أدبارهم، ولما كان هذا الطغيان أكبر سبب لوقوع عقوبة الله بهم، قال: ( فَأَنزلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) منهم ( رِجْزًا ) أي: عذابا (مِنَ السَّمَاءِ) بسبب فسقهم وبغيهم.

وقوله: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ) استسقى؛ أي طلب وسأل السقيَ لقومه. والعرب تقول : سقيته وأسقيته لغتان، الاستسقاء إنما يكون عند عدم الماء وحبس القطر وإذا كان كذلك فالواجب حينئذ إظهار العبودية والفقر والمسكنة والذلة مع التوبة النصوح. وقد استسقى نبينا محمد ﷺ فخرج إلى المصلى متواضعا متذللا متخشعا مترسلا متضرعا وحسبك به فكيف بنا ولا توبة معنا إلا العناد ومخالفة رب العباد فأنى نسقى،  وقد ورد في حديث عن ابن عمر : (لم يُنقِصْ قَومٌ المِكيالَ والميزانَ إلَّا أُخِذوا بالسِّنينَ، وشِدَّةِ المَؤُونةِ، وجَورِ السُّلْطانِ عليهم، ولم يَمنَعوا زَكاةَ أمْوالِهم إلَّا مُنِعوا القَطْرَ من السَّماءِ؛ ولولا البَهائِمُ لم يُمطَروا.) (في الجامع الصغير للسيوطي اسناده ضعيف)

وغاية هذا بيان نعم الله عليهم ، وجحدهم القريبا، يقوله تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في إجابتي لنبيكم موسى عليه السلام، حين استسقاني لكم وتيسيري لكم الماء، وإخراجه لكم من حجر يحمل معكم، وتفجيري الماء لكم منه من ثنتي عشرة عيناً لكل سبط من أسباطكم عينُ قد عرفوها، فكلوا من المن والسلوى واشربوا من هذا الماء الذي أنبعته لكم، بلا سعي منكم ولا جَدّ، واعبدوا الذي سخَّر لكم ذلك

( فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ ) إما حجر مخصوص معلوم عنده، وإما اسم جنس.

 قال ابن عباس رضي اللّه عنه: وجعل بين ظهرانيهم حجر مربع، وأمر موسى عليه السلام فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً في كل ناحية منه ثلاث عيون، وأعلم كل سبط عينهم يشربون منها، وقال قتادة: كان حجراً طورياً - من الطور - يحملونه معهم حتى نزلوا ضربه موسى بعصاه، وقيل: هو الحجر الذي وضع عليه موسى ثوبه حين اغتسل فقال له جبريل ارفع هذا الحجر فإن فيه قدرة، ولك فيه معجزة، فحمله في مخلاته. وعن الحسن: لم يأمره أن يضرب حجراً بعينه، قال: وهذا أظهر في المعجزة وأبين في القدرة، فكان يضرب الحجر بعصاه فينفجر ثم يضربه فييبس،  قال ابن عباس لما كان بنو إسرائيل في التيه شق لهم من الحجر أنهاراً، والله أعلم.

( فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ) وقبائل بني إسرائيل اثنتا عشرة قبيلة، { فانفجرت منه } في الكلام حذف تقديره فضرب فانفجرت. وقد كان تعالى قادرا على تفجير الماء وفلق الحجر من غير ضرب لكن أراد أن يربط المسببات بالأسباب حكمة منه للعباد في وصولهم إلى المراد وليرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم في المعاد.

والانفجار : الانشقاق ومنه انشق الفجر، وانفجر الماء انفجارا : انفتح.  وفي الأعراف قال: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ) (الأعراف ١٦) ، ففي سورة البقرة تعداد للنعم، فقال (فانفجرت‏..) ، وفي الأعراف توبيخ لهم.

فقال: (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ) منهم (مَشْرَبَهُمْ) أي: محلهم الذي يشربون عليه من هذه الأعين, فلا يزاحم بعضهم بعضا, بل يشربونه متهنئين لا متكدرين, ولهذا قال: (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ) أي: الذي آتاكم من غير سعي ولا تعب، (وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ) أي: تخربوا على وجه الإفساد.

عبرة:

قوله تعالى: (وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ) ؛ وردت هذه العبارة خمس مرات، أولها هذه في بني إسرائيل، ومنها ثلاث منها في قوم شعيب، أهل مدين، ومرة في قوم صالح عليه وعلى انبياء الله السلام.

1. (.....كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ)  ﴿البقرة٦٠﴾‏

2. (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) ﴿الأعراف ٧٤﴾‏

3. ( وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) ﴿هود ٨٥﴾‏

4.  (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)  ﴿الشعراء ١٨٣﴾‏

5. (وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) ﴿العنكبوت  ٣٦﴾‏

خص قوم شعيب بها ثلاث مرات، ونهاهم عن التطفيف في المكيال وجعله فسادا في الأرض، ونهى عنها بني إسرائيل  لأنهم سيسيرون على دربهم في الفساد بالأرض بالتطفيف، والربا، وهو شق أكبر منه. علما منه ربنا سبحانه بأنهم أينما كانوا عثوا ونشروا الفساد في الأرض.

وقوله تعالى: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ).

أي: واذكروا إذ قلتم لموسى، على وجه التملل لنعم الله والاحتقار لها، بعد أن أنعمت عليكم وأنزلت عليكم المنَّ والسلوى طعاماً طيباً نافعاً هنيئاً سهلاً، واذكروا ضجركم مما رزقناكم وسؤالكم موسى الأطعمة الدنيئة من البقول ونحوها مما سألتم.

قال الحسن البصري: فبطروا وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه، وكانوا قوماً أهل أعداس وبصل وبقل وفوم، فقالوا: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا..)، وإنما قالوا على طعام واحد وهم يأكلون المن والسلوى لأنه لا يتبدَّل ولا يتغير كل يوم فهو مأكل واحد، فقالوا إنهم  جنس من الطعام،  وإن كان كما تقدم أنواعا من طعام لا جد لهم ولا تعب في كسبه، لكنها لا تتغير، (فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِنْ بَقْلِهَا) أي: نباتها الورقي الذي ليس بشجر يقوم على ساقه، ( وَقِثَّائِهَا ) وهو من أنواع الخيار (وَفُومِهَا) أي: ثومها، والعدس والبصل معروف.

وللتنبيه ، ورد ما يدعى أنه حديث رواه على بن أبي طالب عن النبيﷺ قال: (عليكم بالعدَسِ فإنَّه مباركٌ ، وإنَّه يُرِقُّ القلبَ ، ويُكثِرُ الدَّمعةَ ، وإنَّه قد بارك فيه سبعون نبيًّا ) (حديث موضوع)

قال لهم موسى (قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) وهو الأطعمة المذكورة، (بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ) وهو المن والسلوى، فهذا غير لائق بكم، فإن هذه الأطعمة التي طلبتم، أي مصر هبطتموه وجدتموها، وأما طعامكم الذي من الله به عليكم، فهو خير الأطعمة وأشرفها، فكيف تطلبون به بدلا؟

قال القرطبي في الوجوه التي توجب فضل المن والسلوى على الشيء الذي طلبوه وهى خمسة : الأول : أن البقول لما كانت فيها بعض الآثار غير النافعة، أو الضرر  لها  بالنسبة إلى المن والسلوى؛ كانا أفضل.

 الثاني : لما كان المن والسلوى طعاما مّن الله به عليهم وأمرهم بأكله وكان في استدامة أمر الله وشكر نعمته أجر وذخر في الآخرة، والذي طلبوه عار من هذه الخصائل كان أدنى في هذا الوجه. الثالث : لما كان ما مّن الله به عليهم أطيب وألذ من الذي سألوه، كان ما سألوه أدنى من هذا الوجه لا محالة.

الرابع : لما كان ما أعطوا لا كلفة فيه ولا تعب، والذي طلبوه لا يجيء إلا بالحرث والزراعة والتعب كان أدنى.

 الخامس : لما كان ما ينزل عليهم لا مرية في حله وخلوصه لنزوله من عند الله، والحبوب والأرض يتخللها البيوع والغصوب وتدخلها الشبه، كانت أدنى من هذا الوجه

قوله: (اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ)، قال: ( مِصْرًا) مصروفة

فمن صرفها أراد مصرا من الأمصار غير معين. و روى عكرمة عن ابن عباس في قوله : (اهْبِطُوا مِصْرًا)  قال : مصرا من هذه الأمصار. وقالت طائفة ممن صرفها أيضا : أراد مصر فرعون بعينها. استدل الأولون بما اقتضاه ظاهر القرآن من أمرهم دخول القرية، وبما تظاهرت به الرواية أنهم سكنوا الشام بعد التيه، فقالوا هي المقصودة،  واستدل الآخرون بما في القرآن من أن الله أورث، بني إسرائيل ديار آل فرعون وأثارهم، فهي مصر المقصودة، وأجازوا صرفها، و (مصر) بترك الصرف موجودة في مصحف أبى بن كعب وقراءة ابن مسعود.

ولما كان الذي جرى منهم فيه أكبر دليل على قلة صبرهم واحتقارهم لأوامر الله ونعمه، جازاهم من جنس عملهم فقال: ( وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ) أي ألزموهما وقضي عليهم بهما، مأخوذ من ضرب القباب، وهي الذلة  التي تشاهد على ظاهر أبدانهم (وَالْمَسْكَنَةُ) بقلوبهم، فلم تكن أنفسهم عزيزة، ولا لهم همم عالية، بل أنفسهم أنفس مهينة، وهممهم أردأ الهمم.

الذل: هو الصغار. والمسكنة : الفقر. فلا يوجد يهودي وإن كان غنيا خاليا من زي الفقر وخضوعه ومهانته. وقيل : الذلة فرض الجزية،  والمسكنة الخضوع، وهي مأخوذة من السكون، أي قلل الفقر حركته ( وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) أي: أي انقلبوا ورجعوا، أي لزمهم ذلك. ومنه قوله عليه السلام في دعائه ومناجاته : (أبو ء بنعمتك علي) أي أقر بها وألزمها نفسي. وأصله في اللغة الرجوع، يقال باء بكذا، أي رجع به، وباء إلى المباءة وهي المنزل أي رجع.

فهؤلاء القوم لم تكن غنيمتهم التي رجعوا بها وفازوا، إلا أن رجعوا بسخطه عليهم، فبئست الغنيمة غنيمتهم وبئست الحالة حالتهم.

( ذَلِكَ ) الذي استحقوا به غضبه ( بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ) فكفروا نعمة المن والسلوى، وكفروا بدلالات الله على الحق الموضحة لهم، فلما كفروا بها عاقبهم بغضبه عليهم، وبما كانوا من شدة كفرهم (يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) .

وقوله: ( بِغَيْرِ الْحَقِّ ) زيادة شناعة، وإلا فمن المعلوم أن قتل النبي لا يكون بحق، لكن لئلا يظن جهلهم وعدم علمهم.

( ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا ) بأن ارتكبوا معاصي الله ( وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ) يتعدون حدودهم مع الله وآياته، ويعتدون على عباد الله، فإن المعاصي يجر بعضها بعضا، فالغفلة ينشأ عنها الذنب الصغير، ثم ينشأ عنه الذنب الكبير، ثم ينشأ عنها أنواع البدع والكفر وغير ذلك، فنسأل الله العافية من كل بلاء.

قال القرطبي: واعلم أن الخطاب في هذه الآيات لأمة بني إسرائيل الذين كانوا موجودين وقت نزول القرآن، وهذه الأفعال المذكورة خوطبوا بها وهي فعل أسلافهم، ونسبت لهم لفوائد عديدة، منها:

أنهم كانوا يتمدحون ويزكون أنفسهم، ويزعمون فضلهم على محمد ومن آمن به، فبين الله من أحوال سلفهم التي قد تقررت عندهم، ما يبين به لكل أحد [ منهم ] أنهم ليسوا من أهل الصبر ومكارم الأخلاق، ومعالي الأعمال، فإذا كانت هذه حالة سلفهم، مع أن المظنة أنهم أولى وأرفع حالة ممن بعدهم فكيف الظن بالمخاطبين؟ 

ومنها: أن نعمة الله على المتقدمين منهم، نعمة واصلة إلى المتأخرين، والنعمة على الآباء نعمة على الأبناء، فخوطبوا بها، لأنها نعم تشملهم وتعمهم.

ومنها: أن أفعالهم أكثرها لم ينكروها، والراضي بالمعصية شريك للعاصي، إلى غير ذلك من الحِكَم التي لا يعلمها إلا الله.

والله أولى وأعلم