Friday 30 April 2021

تفسير وتدبر للآيات- سورة الحجر ج2 نعم الخالق في السماء وفي الأرض

 
 
 
 

تابع تفسير سورة الحجر – ج 2 – آيات الله في السماء والأرض وفي أنفسكم أليست دالة على عظمة الخالق؟

 

في هذا الجزء من السورة نجول بسرعة بين عظمة خلق الله بكلمات موجزة تحمل معاني كثيرة بديعة، بدأها ربنا من الأعلى من السماء والجبال إلى الأرض والزرع والمطر حتى هيأها لخلق الخليفة؛

قال تعالى: { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} يذكر تعالى خلقه السماء في ارتفاعها، وما زينها به من الكواكب الثوابت والسيارات، لمن تأمل وكرر النظر فيما يرى من العجائب والآيات الباهرات، ما يحار نظره فيه، ولهذا قال مجاهد وقتادة: البروج ههنا هي الكواكب وهذا كقوله تعالى: { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا} ( الفرقان٦١)، ومنهم من قال: البروج هي منازل الشمس والقمر، وهو الأولى، وهو ما يشار إليه بالأبراج؛ من برج أي قصر أو مدار، قال ابن جرير: أي قصورا وبيوتا فيها الحرس، خلقها الله في السماء. فالله أعلم. وقوله سبحانه:  {وَزَيَّنَّاهَا} يعني السماء؛ كما قال في سورة الملك {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} (الملك  ٥). وهنا قال: {وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} للمعتبرين والمتفكرين، والمعتبرين من عظمة الخلق، وزينة السماء ومصابيحها هي الكواكب المضيئة.

وقوله تعالى: {وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ}. بين الله تعالى أنه حفظ السموات من الجن أن يسترقوا السمع، وهو كما جاء في سورة الجن، { وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا ﴿٨﴾ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ۖ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا ﴿٩﴾ وقد مضى القول فيه.

 ثم ذكر تعالى خلقه الأرض ومده إياها وتوسيعها وبسطها، وما جعل فيها من الجبال الرواسي والأودية والأراضي والرمال، {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ..}، وذكر جملة ما أنبت فيها من الزروع والثمار المتناسبة، وقال ابن عباس: { مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ} : أي من كل شيء يوزن ويقدر بقدر.

 وقوله: { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} المعايش وهي جمع معيشة، أو ما يقيم العيش، أو حياة الخلق هيأه ربنا لهم ويسره، وليسوا هم السبب فيه، ولهذا أردف فقال: {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ}، أي هيأته لكم ، ولجميع الخلق ، أنا- سبحانه—أرزقهم ، ليس أنتم، وهي الدواب والأنعام. وقال ابن جرير: هم العبيد والإماء والدواب والأنعام، فالله يرزقهم، ولستم أنتم الرازقين لهم.

 والقصد أنه تعالى يمتن عليهم بما يسّر لهم من أسباب المكاسب ووجوه الأسباب وصنوف المعايش، وبما سخر لهم من الدواب التي يركبونها، والأنعام التي يأكلونها، والعبيد والإماء التي يستخدمونها، ورزقهم على خالقهم لا عليهم، فلهم هم المنفعة، والرزق على اللّه تعالى.

وقوله تعالى: { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ}  أي وإن من شيء من أرزاق الخلق ومنافعهم إلا عندنا خزائنه؛ والخزائن جمع الخزانة، وهو الموضع الذي يستر فيه الإنسان ماله والخزانة أيضا مصدر خزن يخزن. وما كان في خزانة الإنسان كان معدا له. فكذلك ما يقدِّر عليه ربه فكأنه معد له عنده، قيل المطر المنزل من السماء هو خزائن الأرزاق، لأن به نبات كل شيء. وقيل : الخزائن المفاتيح، أي في السماء مفاتيح الأرزاق، {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ}  أي ولكن لا ننزله إلا على حسب مشيئتنا وعلى حسب حاجة الخلق إليه؛ كما قال { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ ۚ} [الشورى٢٧). وروي عن ابن مسعود والحكم بن عيينة وغيرهما أنه ليس عام أكثر مطرا من عام، ولكن الله يقسمه كيف شاء، فيمطر قوم ويحرم آخرون، وربما كان المطر. في البحار والقفار. وقوله ( نُنَزِّلُهُ) الإنزال هنا  بمعنى الإنشاء والإيجاد؛ كقوله { وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} (الزمر ٦)،  وقيل: الإنزال بمعنى الإعطاء، وسماه إنزالا لأن أحكام الله وأوامره إنما تنزل من السماء.

وقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ}، هنا قال: { الرِّيَاحَ } بالجمع. وقرأ حمزة بالتوحيد؛ لأن معنى الريح الجمع أيضا وإن كان لفظها لفظ الواحد. يقال : جاءت الريح من كل جانب. وكذلك تفعل العرب في كل شيء اتسع، وأما وجه قراءة العامة فلأن الله تعالى نعتها بـ { لواقح} وهي جمع ، فناسب اللفظ.

الفرق بين الريح والرياح عندما تذكر في القرآن:
كلها تُسمَّى ريحًا ورياحًا، لكن الغالب أنَّ الواحدة تكون في الشرِّ، والرياح المتتابعة يكون فيها خير:
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} (الروم٤٦)، والريح العاصفة في الغالب تكون شرًّا، لكن مهما كانت -سواء ريح شديدة أو رياح متتابعة- يسأل الله خيرها، ويتعوَّذ بالله من شرِّها، والغالب أن الرياح المتتابعة تكون خيرًا: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ، وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } (الأعراف٥٧) بين يدي المطر، وقوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}  (الفرقان ٤٨) ، وقوله :{ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (النمل٦٣)، وهكذا ، والله أعلم.

 

يقول تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ}، يرسل الريح فتحمل الماء من السماء، ثم تمر مر السحاب حتى تدر كما تدر اللقحة، وهي الناقة الحلوب، أو قيل الحامل.

في اللغة:
معنى لواقح : حوامل؛
لأنها تحمل الماء والتراب والسحاب والخير والنفع. قال الأزهري : وجعل الريح لاقحا لأنها تحمل السحاب؛ أي تقله وتصرفه ثم تمريه فتستدره، أي تنزله.

قال الله تعالى { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ } ( الأعراف٥٧) أي إذا حملت. وناقة لاقح ونوق لواقح إذا حملت الأجنة في بطونها. وقيل : لواقح بمعنى ملقحة وهو الأصل.

وقال بعض العلماء : ومعنى الإِلقاح أن الرياح تلقح السحاب بالماء بتوجيه عمل الحرارة والبرودة متعاقبين ، فينشأ عن ذلك البخار الذى يصير ماء فى الجو ، ثم ينزل مطرًا على الأرض ، وأنها تلقح الشجر ذا الثمرة ، بأن تنقل إلى نوره غبرة دقيقة من نوْر الشجر الذكر ، فتصلح ثمرته أو تثبت .

ومن بلاغة الآية الكريمة ، إيراد هذا الوصف - لواقح - لإِفادة كلا المعنيين لعمل الرياح، هو الحمل للسحاب والمطر وغيرهما ، أو التلقيح للنبات.

وفي تأبير النخل قصة :

وهي ما ورد عن طلحة بن عبيد الله قال: مَرَرْتُ مع رَسولِ اللهِ ﷺ بقَوْمٍ علَى رُؤُوسِ النَّخْلِ، فَقالَ: ما يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟ فَقالوا: يُلَقِّحُونَهُ، يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ في الأُنْثَى فتَلْقَحُ، فَقالَ رَسولُ اللهِﷺ: ما أَظُنُّ يُغْنِي ذلكَ شيئًا، قالَ: فَأُخْبِرُوا بذلكَ فَتَرَكُوهُ، فَأُخْبِرَ رَسولُ اللهِﷺ بذلكَ فَقالَ: إنْ كانَ يَنْفَعُهُمْ ذلكَ فَلْيَصْنَعُوهُ، فإنِّي إنَّما ظَنَنْتُ ظَنًّا، فلا تُؤَاخِذُونِي بالظَّنِّ، وَلَكِنْ إذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شيئًا، فَخُذُوا به، فإنِّي لَنْ أَكْذِبَ علَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ." (مسلم)

ولفظه هو المشتهر بين الناس ، جاء معناه في آخر الحديث السابق ، وهو قوله : ( أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ ) أو ( إِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِ ، فَإِذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ ) .

التفسير العلمي لتلقيح السحب بالرياح:

هذا بالنسبة لتلقيح الرياح للنبات، وهناك تلقيح آخر تقوم به الرياح ولكنه للسحاب، وهو أكثر مناسبة للآية الكريمة.

فقد أثبت العلم الحديث أن هناك  نوعين من التلقيح تتم في السحب:

1. تلقيح السحب الحارة بالسحب الباردة مما يزيد عملية التكاثف، وبالتالي نزول المطر وهو الذي لا يكون مصحوب بالبرق والرعد.

2. تلقيح السحب موجبة الشحنة بالسحب سالبة الشحنة، ويحدث تفريغاً وشرراً كهربائياً، فينتج عنه اندماج بين ذرات الهيدروجين والأكسجين الذي يكون الماء، فينزل المطر، ويكون المطر مصحوباً بالبرق والرعد وهو صوت تمدد الهواء الناجم عن التفريغ.

والسحاب نوعان: نوع ممطر، ونوع غير ممطر، والفرق بين السحابة التي تمطر والسحابة التي لا تمطر هو: أن الأولى لها مدد مستمر من بخار الماء، ونوى التكاثف بواسطة الرياح أو الهواء الصاعد، أما الثانية فليس لها أي مدد. ومن هنا تكون (الفاء) في قول الله: {فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} هي فاء السببية، أي نَجَمَ عن هذا التلقيح نزول المطر.

ودائماً ما يربط القرآن الكريم بين الرياح والمطر، فيقول تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (الأعراف ٥٧).

وقوله تعالى: {فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أي من السحاب. وكل ما علاك فأظلك يسمى سماء. وقيل: من جهة السماء. { ماء} أي مطرا. { فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} أي جعلنا ذلك المطر لسقياكم ولشرب مواشيكم وأرضكم. {وما أنتم له بخازنين} أي ليست خزائنه عندكم؛ أي نحن الخازنون لهذا الماء ننزله إذا شئنا ونمسكه إذا شئنا، {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ۖ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} (المؤمنون ١٨). وقال سفيان : لستم بمانعين المطر، ويحتمل أن المراد: وما أنتم له بحافظين، بل نحن ننزله ونحفظه عليكم ونجعله معيناً وينابيع في الأرض، ولو شاء تعالى لأغاره وذهب به، { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ } ( الملك٣٠) ، ولكن من رحمته أنزله وجعله عذباً وحفظه في العيون والآبار والأنهار، ليبقى لهم في طول السنة يشربون ويسقون أنعامهم وزروعهم وثمارهم.

{وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} إخبار عن قدرته تعالى على بدء الخلق وإعادته، وأنه هو الذي أحيى الخلق من العدم، ثم يميتهم، ثم يبعثهم ليوم الجمع، وأخبر تعالى بأنه يرث الأرض ومن عليها وإليه يرجعون: {وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ثم أخبر تعالى عن تمام علمه بهم أولهم وآخرهم فقال: { وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ} الآية. قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: المستقدمون كل من هلك من لدن آدم عليه السلام، والمستأخرون من هو حي ومن سيأتي إلى يوم القيامة، وهو اختيار ابن جرير رحمه اللّه.

وقال ابن جرير، عن مروان بن الحكم أنه قال: كان أناس يستأخرون في الصفوف من أجل النساء، فأنزل اللّه: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ}، والحديث الوارد في هذا فيه نكارة شديدة فلا يعول عليه. وعن محمد بن كعب أنه لما سمع  عون بن عبد الله يقول تفسير هذه الآية  وأنها في صفوف الصلاة، فقال محمد بن كعب: ليس هكذا {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ}: الميت والمقتول، و{الْمُسْتَأْخِرِينَ} من يخلق بعد، ولذلك قال تعالى بعدها: {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ ۚ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} ، فقال عون بن عبد اللّه: وفقك اللّه وجزاك خيراً.

وقوله تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} قال ابن عباس: المراد بالصلصال التراب اليابس، كقوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} (الرحمن١٤)، وقوله: { مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} أي الصلصال من حمأ وهو الطين، والمسنون الأملس، وعن ابن عباس أنه قال: هو التراب الرطب، وقيل: المراد بالمسنون ههنا المصبوب. وقوله: { وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ } أي من قبل الإنسان، {مِن نَّارِ السَّمُومِ } قال ابن عباس: هي السموم التي تقتل، وعن ابن عباس: أن الجان خلق من لهب النار، وقد ورد في الصحيح: (خُلِقَتِ المَلائِكَةُ مِن نُورٍ، وخُلِقَ الجانُّ مِن مارِجٍ مِن نارٍ، وخُلِقَ آدَمُ ممَّا وُصِفَ لَكُمْ.) (رواه مسلم)، والمقصود من الآية التنبيه على شرف آدم عليه السلام، وطيب عنصره وطهارة محتده.

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } يذكر تعالى أنه ذكر خلق آدم في ملائكته، قبل خلقه له وتشريفه إياه بأمر الملائكة بالسجود له، فيقول: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} النفخ إجراء الريح في الشيء. والروح جسم لطيف، أجرى الله العادة بأن يخلق الحياة في البدن مع ذلك الجسم، وأن النفس والروح اسمان لمسمى واحد.  

وحقيقة إضافة خلق إلى الخالق؛ كما هنا: الروح خلق من خلقه أضافه إلى نفسه تشريفا وتكريما؛ كقوله : (أرضي وسمائي وبيتي وناقة الله وشهر الله). ومثله: { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ۖ} ( النساء ١٧١).

قال ربنا للملائكة: فإذا ركبت فيه الحياة، أو ما يخلق فيه الحياة؛ {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} أي خروا له ساجدين. وهو سجود تحية وتكريم لا سجود عبادة. ولله أن يفضل من يريد؛  ويستنتج من هذا الأمر أن  الله فضل الأنبياء على الملائكة، لأنه أسجد الملائكة لآدم عليه السلام.

  وقيل : أمروا بالسجود لله عند آدم عليه السلام، أي تجاهه.

ويذكر تخلف إبليس عدوه عن السجود له حسداً وكفراً، وعناداً واستكباراً وافتخاراً بالباطل، قال: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ* إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ *قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}، ولهذا فجاء رد الكبر‏:‏  {قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ‏‏}

متشابهات:

وردت قصة خلق الله لآدم في سبع مواضع من القرآن الكريم:  سورة البقرة – الأعراف – الحجر – الاسراء- الكهف – طه – ص .

في كيفية رد إبليس لأمر الله بالسجود:

 سورة البقرة جاءت (إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) العلامة: سورة البقرة أطول سورة فجاء أطول نسق

في سورة الحجر:  (فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * الاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (الحجر 31 ) ، ووردت ( أبى) في سورة ( طه) أيضا.

في سورة ): (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ*إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ (ص 74 ) العلامة: سورة (ص) تتناسب الصاد مع السين في ( استكبر)

في سؤال إبليس لم لم يسجد؟ وجوابه:
في  الحجر  :(قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَر خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَال مِّنْ حَمَإ مَّسْنُون *قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (الحجر35)

3- ص 75:  (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّار وَخَلَقْتَهُ مِن طِين* قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ *وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (ص 78 )

في سورة ص عند ذكر خلق آدم جاء قوله تعالى (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ   إنِّي خَالِقٌ بَشَراً  مِن طِين) فكان الرد من إبليس فيه كلمة الطين (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّار وَخَلَقْتَهُ مِن طِين )

- في سورة الحجر جاء جواب ابليس عليه لعنة الله (قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَر خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَال مِّنْ حَمَإ مَّسْنُون) العلامة أنه في سورة الحجر عند ذكر خلق آدم جاء قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَال مِّنْ حَمَإ مَّسْنُون) وايضا نتذكر أن اسم سورة الحجر مكون من عدة حروف فجاء النسق من عدة كلمات

بينما في ص الذي اسمها من حرف واحد فيكون القول من كلمة واحدة (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّار وَخَلَقْتَهُ مِن طِين)

- يوجد تماثل في سورة الحجر وص في موضع طرد إبليس (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ )،في السورتين،

 والآية بعدها متشابه بختلاف أنه في الحجر جاء قوله تعالى (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ) بينما في سورة ص جاء قوله تعالى(وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي) العلامة : أن اسم سورة الحجر معرف بال التعريف فجاء ت اللعنة معرفة بال بينما اسم سورة ص غير معرف فجاءت كلمة لعنتي غير معرفة .

نلاحظ أن سورة الأعراف جاءت مختلفة في السياق عن ما جاء في سورتي الحجر و ص ففيهما تماثل في الثلاثة الآيات التالية:

في الحجر: قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿٣٦﴾ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ ﴿٣٧﴾ إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ﴿٣٨﴾

في (ص): قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿٧٩﴾ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ ﴿٨٠﴾ إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ﴿٨١﴾

في رد إبليس على الإمهال:

في الحجر : قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿٣٩﴾ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴿٤٠﴾

في (ص) : (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿٨٢﴾ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴿٨٣﴾

- وردت أيضا الآية (إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) متماثلة في الحجر و ص

في سورة ص لما وردت كلمة فبعزتك وعزة الله حق جاء بعدها: (َقالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ)