Tuesday 28 February 2023

السيرة النبوية الشريفة فتح مكة ح3

   

الفتح الأعظم: فتح مكة المكرمــة-ح٣

أذهبوا فأنتم الطلقاء 

صلاة الفتح

بعد ما فتح الله له مكة، امر بلالا أن يؤذن من على ظهر الكعبة..

هدم ﷺ الأصنام التي في الكعبة، وبعث ثلاث بعوث لهدم أعظمها عندهم


 

بلال يؤذن على ظهر الكعبة:

وفي يوم فتح مكة حان وقت صلاة الظهر، فأمر النبي بلالاً رضي الله عنه أن يؤذن بالصلاة، فعلا على ظهر الكعبة فأذَّن عليها.

 ذكر ابن هشام وابن كثير في السيرة النبوية، وابن القيم في زاد المعاد: "أن رسول الله دخل الكعبة عام الفتح ومعه بلال، فأمره أن يؤذن، وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب بن أسيد لقد أكرم الله أسيداً ألا يكون سمع هذا، فيسمع منه ما يغيظه. فقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنه مُحِق لاتبعته، فقال أبو سفيان: لا أقول شيئاً، لو تكلمتُ لَأخْبرَتْ عني هذه الحَصَى، فخرج عليهم النبي ، فقال: "قد علمتُ الذي قلتم، ثم ذكر ذلك لهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا، فنقول أخبرك".

قول أبي سفيان: "لو تكلمتُ لَأخْبرَتْ عني هذه الحصى" يعني: أنه أدرك أن محمداً نبي يوحى إليه، وسوف يصل إليه الأمر عن طريق الوحي ـ

وهذا صواب ـ، وذلك لأن من معجزات نبينا وإرهاصات نبوته أن الحجر كان يسلم عليه حتى من قبل بعثته، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كنتُ معَ النَّبيِّ بمَكةَ ، فخرَجنا في بَعضِ نواحيها فما استَقبلَه جبَلٌ ولا شجرٌ إلَّا وَهوَ يقولُ : السَّلامُ عليكَ يا رسولَ اللَّهِ) رواه الترمذي وصححه الألباني.

 وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن النبي قال: (إنِّي لأَعْرِفُ حَجَرًا بمَكَّةَ كانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أنْ أُبْعَثَ إنِّي لأَعْرِفُهُ الآنَ.) رواه مسلم. قال النووي: "فيه معجزة له ، وفي هذا إثبات التمييز في بعض الجمادات، وهو موافق لقوله تعالى في الحجارة: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة٧٤)

 

لماذا قال الرسول لبلال يوم فتح مكة قم للأذان ولم يقم هو بذلك؟

الإجابــة

فلم يقم بذلك لعدة حِكَم فيما يظهر لنا والعلم عند الله تعالى

 أولا: لأن سنته جرت ألا يتولى الإمام الأذان.

ثانيا: لأن في ذلك إغاظة للمشركين، إذ يرون بلالا الذي كانوا يتفننون في إيصال ألوان الأذى إليه على إسلامه، يصعد أمامهم على ظهر الكعبة لينادي بالأذان –الذي هو شعار الإسلام- وهو في أعز ما يكون، بينما هم في أذل ما يكون، ويؤيد هذا ما ذكره ابن كثير في "البداية والنهاية": أن رسول الله أمر بلالا عام الفتح فأذن على الكعبة ليغيظ به المشركين.

ثالثا: لأن في ذلك تكريما لبلال الذي صبر على الأذى في سبيل الله، ذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" عن ابن أبي مليكة قال: أمر رسول الله بلالا فأذن يوم الفتح فوق الكعبة، فقال رجل من قريش للحارث بن هشام: ألا ترى إلى هذا العبد أين صعد؟! فقال: دعه، فإن يكن الله يكرهه فسيغيره.

وبلال هو مؤذن الرسول ، وكان يقول له: "أرحنا بها يا بلال "

نسبه:

سيدنا بلال بن حمامة-وحمامة أمه- من بني جُمح ولد بمكة، عذب في الله تعالى كثيراً بعد إسلامه على يدي أبي جهل وأمية بن خلف، وكان على ذلك صابراً محتسباً، يقول: أحدٌ أحد، قال سعيد بن المسيب عنه: كان شحيحاً على دينه، وكان يعذب، فإذا أراد المشركون أن يقاربهم، قال: الله الله انتهى. من أسد الغابة في معرفة الصحابة.

ثم اشتراه أبو بكر رضي الله عنه فأعتقه، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا. انتهى. من أسد الغابة.

وكان بلال مؤذن رسول الله مع ابن أم مكتوم، ولم يؤذن بعد وفاة النبي إلا مرة واحدة زار فيها المدينة، فبكى الناس لأذانه، وحُق لهم البكاء.

توفي بلال رضي الله عنه وله بضع وستون سنة، وذلك سنة ثماني عشرة للهجرة الشريفة، ودفن بباب الصفير، على ما صححه ابن كثير في البداية والنهاية، وله أخ اسمه خالد، وأخت اسمها غفيرة، وهي مولاة عمر بن عبد الله مولى غفرة المحدث، ولم يعقب بلال. انتهى.

(ولم يعقب) أي لم يترك عقباً - وهو الولد - .

أما عن اسم زوجته فهي هالة بنت عوف أخت عبد الرحمن بن عوف، رواه الدار قطني وهو أثر صحيح.

إقامة رسول الله ﷺ بمكة :

ولما تم فتح مكة تخوف الأنصار أن يقيم بها رسول اللهﷺ، لأنها بلده وبلد عشيرته وقومه – وذلك حين كان رسول الله ﷺ على الصفا، رافعاً يديه يدعو – فلما فرغ من الدعاء قال لهم : معاذ الله، المحيا محياكم والممات مماتكم، فاطمأن الأنصار وذهب خوفهم وفرحوا .

ومن مما قاله رسول الله في الأنصار: في الصحيحين من حديث البراء أن النبي قال في الأنصار « لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق ».

حديث أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: (آيَةُ الإيمانِ حُبُّ الأَنْصارِ، وَآيَةُ النِّفاقِ بُغْضُ الأَنْصارِ). متفق عليه.

2- حديث الْبَراء قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ : (الأَنْصارُ لا يُحِبُّهُمْ إِلاَّ مُؤْمِنٌ، وَلا يُبْغِضُهُمْ إِلاّ مُنافِقٌ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللهُ). متفق عليه.

بقي رسول اللهﷺ بمكة تسعة عشر يوماً يجدد معالم الإسلام، ويطهرها من آثار الجاهلية، وقد جدد أنصاب الحرم، ونادى مناديه: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنماً إلا كسره.

هدم عزى وسواع ومناة: 

ولخمس وعشرين من رمضان بعث رسول الله ﷺ خالد بن الوليد في ثلاثين فارساً إلى نخلة ، ليهدم العزى وهيكلها، فتوجه إليها ، وهدمها ، وكانت أكبر أصنامهم .

ثم أرسل عمرو بن العاص في رمضان نفسه لهدم سواع، وهو أعظم صنم لهذيل، كان هيكله برهاط على قرابة 150 كيلو متراً شمال شرقي مكة فذهب إليه وهدمه، وأسلم سادنه لما رأي من عجزه .

ثم بعث سيد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه في رمضان نفسه إلى مناة في عشرين فارساً ، وكانت بالمشلل عند قديد، وهي صنم كلب وخزاعة وغسان والأوس والخزرج ، فأتاها وكسرها ، وهدم هيكلها

بعث خالد إلى بني جذيمة :   

ثم بعث خالد بن الوليد في شهر شوال إلى بني جذيمة ليدعوهم إلى الإسلام ، ومعه ثلاثمائة وخمسون رجلاً من المهاجرين والأنصار وبني سليم ، فلما دعاهم إلى الإسلام قالوا : صبأنا ، صبأنا . فقتلهم وأسرهم . ثم أمر يوماً أن يقتل كل رجل أسيره ، فأبى ابن عمرو أصحابه ذلك ، ولما رجعوا ذكروا ذلك للنبي ﷺ فرفع يديه وقال مرتين : اللهم أبرأ إليك مما صنع خالد ، ثم بعث علياً رضي الله عنه بمال، فودى قتلاهم، وأعطى بدل ما ضاع من أموالهم، وفضل فضل فتركه لهم . ونزلت فيه هذه الأية : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) (النساء ٩٤)‏

" كانَ بيْنَ خَالِدِ بنِ الوَلِيدِ، وبيْنَ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ شيءٌ، فَسَبَّهُ خَالِدٌ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ : "لا تَسُبُّوا أَحَدًا مِن أَصْحَابِي، فإنَّ أَحَدَكُمْ لو أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، ما أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلَا نَصِيفَهُ". 

 

يتبع - تفسير مبسط لسورة الفتح تثبت ما أهم معالم الفتح الأكبر

Thursday 23 February 2023

تفسير سورة البقرة ح 32 ما هي الأهلة وآيات القتال بين آيات الحج

   

تفسير سورة البقرة- ح ٣٢

          بداية – ذكر الحج وأحكامه

 (ۚيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ۗ)

لا تعرف المواقيت والآجال إلا بدليل؛ الأهلة

(وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)

آيات أحكام القتال، في الحرم خاصة، بين أحكام الحج، ما أوجه الشبه

(وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ)

 

محور مواضيع هذا الجزء:

-بعد ما ذكر من أحكام الصيام، ربط بينه وبين الحج بالأهلة، التي هي توقيت لهاتين الشعيرتين.

-فلذلك كان أول ما بدأ ربنا بتجليته من أحكام الحج بيان ميقاته والذي لا يعرف إلا بالهلال.

-هل الهلال واحد؟ أم عدة أهلة؟

-بعد أن ذكر الله الأهلة نبه على فعل كانوا يفعلونه في الجاهلية،وبين بطلانه.

-العلة من تخليل الحديث عن القتال في سبيل الله بين آيات الحج، وأوجه الشبه بينهما.

-هل يحل قتال في مكة المكرمة؟

التفسير:

قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ۗ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١٨٩)

في سبب نزول قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ) ورد عن ابن عباس قوله: سأل الناس رسول الله ﷺ عن الأهلة ، فنزلت هذه الآية : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ۗ) يعلمون بها حل دينهم، وعدة نسائهم، ووقت حجهم .

وعن أبي العالية: بلغنا أنهم قالوا: يا رسول الله، لم خلقت الأهلة ؟ فأنزل الله الآية.. يقول : جعلها الله مواقيت لصوم المسلمين وإفطارهم، وعدة نسائهم، ومحل ديْنهم .

وعن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول اللهﷺ : " جعل اللهُ الأهلَّةَ مواقيتَ للناسِ، فصوموا لرؤيتِه، وأَفطِروا لرؤيتِه، فإن غُمَّ عليكم فعُدُّوا ثلاثين يومًا " .(صحيح الجامع- الألباني)

والأهلة: جمع الهلال، وجمع وهو واحد في الحقيقة من حيث كونه هلالا واحدا في شهر، غير كونه هلالا في آخر، فإنما جمع أحواله من الأهلة. ويريد بالأهلة بدايات الشهور ، وانتهائها.

وذلك كقوله تعالى: المشرقين: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) (الرحمن  ١٧)، وقوله تعالى:‏ مشارق: (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ) (المعارج ٤٠)‏  والمشرق واحد.

وفي لغة العرب يطلق لفظ الهلال لليلتين من آخر الشهر، وليلتين من أوله، وقيل: لثلاث من أوله، وقيل: بل هو هلال حتى يبهر بضوئه السماء، وذلك ليلة سبع . ومن لفظ الهلال: استهل الصبي إذا ظهرت حياته بصراخه، واستهل وجهه فرحا وتهلل إذا ظهر فيه السرور .

هلال في اللغة:

هلال: جذر [هلل]، "هَلَلُ الْمَطَرِ" : أَوَّلُهُ.

تهلُّلاً:  فهو مُتهلِّل - تهلَّل وجهُه فرحًا، ويقال: هَلَّ؛ بشَّ، أشرق، ابتهج وسُرّ " تهلَّل وجْهُ الأمّ عند قدوم ولدها". • تهلَّل السَّحابُ: تلألأ وأضاء. • تهلَّل الدَّمعُ: سالَ.

وقولهم: أهللنا الهلال إذا دخلنا فيه. قال الجوهري : "وأهل الهلال واستهل" على ما لم يسم فاعله- أهل الله الهلال- ويقال أيضا : استهل بمعنى تبين، ولا يقال: أهل ويقال: أهللنا عن ليلة كذا

وقوله تعالى: (قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ۗ.) تبيين لوجه الحكمة في زيادة القمر ونقصانه ، وهو زوال الإشكال في الآجال والمعاملات والإيمان والحج والعدد والصوم والفطر ومدة الحمل والإجارات والأكرية ، إلى غير ذلك من مصالح العباد، وإحصاء الأهلة أيسر من إحصاء الأيام .

ونظيره قوله الحق: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ۖ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا) ﴿الإسراء١٢﴾، وقوله : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ..) ﴿يونس ٥﴾‏

بالشمس والقمرِ تُعرف الأزمنة والأوقات، وتُضبطُ أوقاتُ الشهور والعبادات، وبدايةُ ونهايةُ الآجالِ والمعاملات (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)

وهذا التناوبُ والاختلافُ في الليل والنهار الذي تُحدثه الشمسُ والقمر آيةٌ للعباد ومستودعٌ للأعمال.

علق الله توقيتَ دخولِ الشهرِ ونهايتِه بهذا الهلال، وجعل سبحانه في السنةِ اثني عشر شهرا، وهي الأشهرُ القمرية التي تبدأ بمحرمْ وتنتهي بذي الحجة، فإذا انتقضت هذه الشهورُ عرف الناسُ انقضاءَ السنة، وهذا التوقيتُ القمريُ هو التوقيتُ المعتمد السنويُ عند ربِّ العالمين منذ أن خلق الله السمواتِ والأرض، ويدل عليه  قول الله جل في علاه (إن عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) (التوبة ٣٦)‏

بينما جعل الله الشمس آيةُ الله في النهار الذي جعله الله معاشا للناس، وجعل مراحل أفولها مواقيت، وتعرف هذه المواقيت بالظل، فدليل الشمس هو الظلِّ، وذلك قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) (الفرقان٤٥)‏

فالشمس هي الدليل للناس على مواقيت أعمالهم اليومية، وأحوالهم، وهي مواقيت الصلواتِ: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) (الإسراء  ٧٨)‏،  فإذا زالتِ الشمسُ عن وسطِ السماء دخلَ وقتُ الظهر، وإذا صار ظِلُّ كُلِّ شيءٍ مثليه دخل وقتُ العصر، وإذا غربت وغاب قرصُها دخل وقتُ المغرب.، وإذا غاب الشفقُ الأحمرُ وهو بقيةُ ضوءِ الشمس بعد الغروب دخل وقت العشاء، وإذا طلع نورُ الفجر وهو مبادئُ ضوءِ الشمس قبل أن تشرِقَ دخل وقتُ صلاة الصبح، فسبحان الذي جعل ارتباطَ هذه الصلوات بهذه الشمس – التوقيت اليومي بالشمس، والتوقيت الشهري بالقمر، فسبحان الله  (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ۖ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً.) ، كل منهما له عمله.

مواقيت المواقيت: جمع الميقات وهو الوقت، وقيل: الميقات منتهى الوقت. ومواقيت لا تنصرف، لأنه جمع لا نظير له في الآحاد، فهو جمع ونهاية جمع، إذ ليس يجمع .

والحَج:  بفتح الحاء قراءة الجمهور ، وقرأ ابن أبي إسحاق بالكسر في جميع القرآن، وفي قوله : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) ﴿آل عمران ٩٧﴾. سيبويه : الحَج كالرَد والشَد، والحِج كالذِكر ، فهما مصدران بمعنى وقيل: الفتح مصدر ، والكسر الاسم.

وقوله : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ۚ) روى البخاري: بسنده عن البراء قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره، فأنزل الله (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ۚ)  .

والبيوت جمع بيت، وقرئ بضم الباء وكسرها.

وعن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال: كانت الأنصار إذا قدموا من سفر لم يدخل الرجل من قبل بابه ، فنزلت هذه الآية .

وقال الأعمش، عن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله : "كانت قُرَيشٌ يُدعَوْنَ الحُمْسَ، وكانوا يدخُلونَ منَ الأبوابِ في الإحرامِ، وكانتِ الأنصارُ وسائرُ العربِ لا يدخُلونَ منَ الأبوابِ في الإحرامِ، فبيْنَما رسولُ اللهِ ﷺ في بُستانٍ فخرَجَ من بابِه، وخرَجَ معه قُطْبةُ بنُ عامرٍ الأنصاريُّ، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، إنَّ قُطْبةَ بنَ عامرٍ رَجلٌ فاجرٌ، إنَّه خرَجَ معكَ منَ البابِ، فقال: ما حمَلَكَ على ذلك؟ قال: رأيْتُكَ فعَلْتَ ففعَلْتُ كما فعَلْتَ، فقال: إنِّي أَحْمَسيٌّ، قال: إنَّ ديني دينُكَ، فأنزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى) ، ( صحيح على شرط مسلم)

معنى الحُمْسُ:

حَمِس: حَمِس الشرُّ: اشتدّ.. والحُمْسُ: قريش، لأنّهم كانوا يتشدّدون في دينهم وشجاعتهم فلا يُطاقون، وقيل: كانوا لا يستظلّون أيّام مِنًى، ولا يدخلون البيوت من أبوابها وهم مُحْرِمون، لا ينبغي للحمس أن يأتقطوا الأقط ولا يسلئوا السمن وهم حرم، ولا يدخلون بيتًا من شعر ولا يستظلّوا إن استظلّوا إلاّ في بيوت الأدم ما كانوا حرمًا، ثمّ رفعوا في ذلك فقالوا: لا ينبغي لأهل الحلّ أن يأكلوا طعامًا جاؤوا به معهم من الحل إلى الحرم إذا جاؤوا حجاجا أو عمارا، ولا يطوفون بالبيت إذا قدموا أوّل طوافهم إلاّ في ثياب الحمس، فإن لم يجدوا منها شيئًا طافوا بالبيت عراة..قالوا: وكانت الحمس سكّان الحرم، وكانوا لا يخرجون أيّام الموسم إلى عرفات، إنّما يقفون بالمزدلفة ويقولون: نحن أهل الله ولا نخرج من الحرم" (ابن منظور)

و"الحُمس: الأمكنة الصلبة، جمع أحمس، وبه لقب قريش، وكنانة، ومن تابعهم في الجاهلية لتحمسهم في دينهم، أو لالتجائهم بالحمساء، وهي الكعبة، لأنّ حجرها أبيض إلى السواد، والحماسة الشجاعة" (عبد المنعم، د.ت، ج1).

وقد أورد ابن هشام في سيرته :"قال ابن إسحاق: وقد كانت قريش- ابتدعت [أمر] الحُمس رأيًا رأوه [وأرادوه] فقالوا: نحن بنو إبراهيم وأهل الحرمة، [وولاة البيت]، وقطان مكة وساكنها، فليس لأحد من العرب مثل حقنا، ولا مثل منزلتنا، ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا، فلا تعظموا شيئا من الحل- اي أهل الحل من خارج مكة- كما تعظمون أهل الحرم، فإنّكم إن فعلتم ذلك استخفّت العرب بحرمتكم.

 فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها، وهم يعرفون ويقرّون أنّها من المشاعر والحج ودين إبراهيم عليه السلام، ويرون لسائر العرب أن يقفوا عليها وأن يفيضوا منها إلاّ أنّهم قالوا نحن أهل الحرم فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة ولا نعظّم غيرها، كما نعظّمها نحن الحُمْس .

والحمس أهل الحرم، ثمّ جعلوا لمن ولدوا من العرب من ساكن الحل والحرم مثل الذي لهم" وعند ابن هشام، 1995، مج1 "..قال ابن إسحاق: " .....حَتَّى قَالُوا: لَا يَنْبَغِي لِلْحُمْسِ أَنْ يَأْتَقِطُوا الْأَقِطَ، وَلَا يَسْلَئُوا السَّمْنَ وَهُمْ حُرُمٌ، وَلَا يَدْخُلُوا بَيْتًا مِنْ شَعَرٍ، وَلَا يَسْتَظِلُّوا إنْ اسْتَظَلُّوا إلَّا فِي بُيُوتِ الْأَدَمِ  مَا كَانُوا حُرُمًا، ثُمَّ رَفَعُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالُوا: لَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْحِلِّ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ طَعَامٍ جَاءُوا بِهِ مَعَهُمْ مِنْ الْحِلِّ إلَى الْحَرَمِ، إذَا جَاءُوا حُجَّاجًا أَوْ عُمَّارًا، وَلَا يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ إذَا قَدِمُوا أَوَّلَ طَوَافِهِمْ إلَّا فِي ثِيَابِ الْحُمْسِ، فَإِنَّ لَمْ يَجِدُوا مِنْهَا شَيْئًا طَافُوا بِالْبَيْتِ عُرَاةً، فَإِنْ تَكَرَّمَ مِنْهُمْ مُتَكَرِّمٌ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ، وَلَمْ يَجِدْ ثِيَابَ الْحُمْسِ، فَطَافَ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي جَاءَ بِهَا مِنْ الْحِلِّ، أَلْقَاهَا إذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ، ثُمَّ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا، وَلَمْ يَمَسَّهَا هُوَ، وَلَا أَحَدٌ غَيْرُهُ أَبَدًا."

وقال الحسن البصري: كان أقوام من أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم سفرا وخرج من بيته يريد سفره الذي خرج له ، ثم بدا له بعد خروجه أن يقيم ويدع سفره، لم يدخل البيت من بابه، ولكن يتسوره من قبل ظهره ، فقال الله تعالى: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى)  الآية . وقيل كان الرجل إذا اعتكف لم يدخل منزله من باب البيت، فأنزل الله هذه الآية .

وقال أبو عبيدة : الآية ضرب مثل؛  المعنى ليس البر أن تسألوا الجهال ولكن اتقوا الله واسألوا العلماء ، فهذا كما تقول: أتيت هذا الأمر من بابه.

وقد قيل: إن الآية خرجت مخرج التنبيه من الله تعالى على قاعدة من قواعد الدين: أن على المسلمين أن يأتوا البر من وجهه، وهو الوجه الذي أمر الله تعالى به، فذكر إتيان البيوت من أبوابها مثلا ليشير به إلى أن نأتي الأمور من مأتاها الذي ندبنا الله تعالى إليه ففي هذه الآية بيان أن ما لم يشرعه الله قربة ولا ندب إليه لا يصير قربة بأن يتقرب به متقرب، وهذا مهم جدا لكل مسلم أن يعلمه، هو أن التقرب إلى الله يكون بما أمر به، على الوجه الذي أمر به.

قاعدة للتفريق بين ما هو بر وقربة بما ليس هو بر وقربة: وهو أن ينظر في ذلك العمل، فإن كان له نظير في الفرائض والسنن فيجوز أن يكون، وإن لم يكن فليس ببر ولا قربة.

قال : وبذلك جاءت الآخبارعن النبي ﷺ، ففي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال:" بيْنَا النبيُّ ﷺ يَخْطُبُ، إذَا هو برَجُلٍ قَائِمٍ، فَسَأَلَ عنْه فَقالوا: أبو إسْرَائِيلَ، نَذَرَ أنْ يَقُومَ ولَا يَقْعُدَ، ولَا يَسْتَظِلَّ، ولَا يَتَكَلَّمَ، ويَصُومَ. فَقَالَ النبيُّ ﷺ: مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ ولْيَسْتَظِلَّ ولْيَقْعُدْ، ولْيُتِمَّ صَوْمَهُ" فأبطل النبي ﷺ ما كان غير قربة مما لا أصل له في شريعته، وصحح ما كان قربة مما له نظير في الفرائض والسنن، وهو الصيام .

وقوله : (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)  أي: اتقوا الله فافعلوا ما أمركم به، واتركوا ما نهاكم عنه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) غدا إذا وقفتم بين يديه، فيجزيكم بأعمالكم على التمام، والكمال .

اقتران آيات الحج بآيات القتال في سورتين: سورة البقرة – سورة الحج

اقتران آيات الحج بآيات القتال، فإنَّ الناظر لحديث القرآن عن الحج لا تخطئ عينه لحظ هذا الاقتران والاجتماع بين آيات الحج وآيات القتال في ذات الوقت، وكيف أن آيات القتال تقترن بصورة ظاهرة بآيات الحج؛ فتارة تتوسطها وأخرى تأتي بعدها مباشرة.

ففي بداية الحديث عن الحج في سورة البقرة، يقول تعالى: (َيسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ...)  [البقرة١٨٩]، وبعد هذه الآية وقبل أن يتم أحكام الحج، عرج إلى القتال: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴿البقرة ١٩٠﴾‏

وما تسخلص من التشابه بينهما:

بعد أن فسرنا من أول آية للحج في هذه السورة، نتوقع بعدها أن يستمر الحديث عن الحج وأحكامه، ولكن ما بعد من  الآيات هو تحول ليتحدث عن القتال في عددٍ من الآيات، حيث يقول سبحانه وتعالى بعد ذلك مباشرة: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ.... الآية ) إلى  قوله تعالى: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ...) (البقرة ٩٥-١٩٠)

ثم  يعود القرآن مرة أخرى للحديث عن للحج في عدد من الآيات، فيقول: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ...) (البقرة  ١٩٦)

وهذا الاقتران بين آيات الحج وآيات القتال موجود أيضًا في سورة الحج ذاتها؛ فبعد أقوله تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ )﴿الحج: ٢٦﴾‏ ثم أمَر نبيه بالنداء في الناس بالحج... إلخ، ثم تحدثت بعدها مباشرة عن القتال، وذلك في قوله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) إلى قوله تعالى: (...... َلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز) [الحج ٣٨ -٤٠) 

علاقة الحج بالقتال:

وغير خافٍ أن هذا الاقتران والحديث عن القتال في ثنايا الحديث عن الحج أو بعده مباشرة أمرٌ يدل على أنه لا بد من  بوجود علاقة ما بين الحج والقتال.

إنّ هذه العلاقةفي نواحي، منها:

- أن كل منهما فيه التضحية والبذل على أصعدة كثيرة، وفي مناحٍ شتى من أجل إقامة المبدأ، وتحمّل سائر الصعاب من أجل ذلك؛ فالحاجّ لكي يؤدي فريضة الحج فإنَّ عليه أن يضحي بجزءٍ كبيرٍ من المال والوقت، وينسلخ عن العشراء، ويفارق الأهل والأحباب، و لا يدري هل يعود منها ثانية أم تناله المنيّة، إلى غير ذلك من الأمور.

-وهو نفس الأمر موجود مع المقاتل، والذي يتوجب عليه أن يفارق أهله وأحبابه ، ويركب متن الخطر، ويجازف بنفسه في سبيل تأدية واجبه،في تشابه مع فعل الحاج بصورة  واضحة.

-إنَّ على الحاج أن يلتزم بالصبر والعزم على بلوغ الهدف وتحمل المشاقِّ في سبيل تحصيله مهما بلغت قوتها واشتدت وطأتها؛ ولذا نلحظ أن النبي جعل عبادة الحج بديلًا عن الجهاد في حقّ النساء- فهو إذن مقارن له-؛ فعن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- أنها قالت: " يَا رَسولَ اللَّهِ، نَرَى الجِهَادَ أفْضَلَ العَمَلِ، أفلا نُجَاهِدُ؟ قالَ: لَا، لَكِنَّ أفْضَلَ الجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ." (البخاري)

قوله تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)

(وَقَاتِلُوا..) هذه الآية أول آية نزلت في الأمر بالقتال، ولا خلاف في أن القتال كان محظورا قبل الهجرة بقوله تعالى: ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..) (فصلت ٣٤) وقوله: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة ١٣)، ‏وما كان مثله مما نزل بمكة، فلما هاجر إلى المدينة أُمر بالقتال فنزلت الآية.

قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس:  هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة، فلما نزلت كان رسول الله ﷺ يقاتل من قاتله، ويكف عمن كف عنه حتى نزلت سورة براءة.

أي: كما يقاتلونكم فقاتلوهم أنتم، كما قال: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ..) (التوبة ٣٦)؛ ولهذا قال في هذه الآية : (واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ) أي: لتكن همتكم منبعثة على قتالهم ، كما أن همتهم منبعثة على قتالكم ، وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها ، قصاصا .

وقد حكي عن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، أن أول آية نزلت في القتال بعد الهجرة، (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (الحج ٣٩) وهو الأشهر وبه ورد الحديث .

وقوله : (وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)

أي : قاتلوا في سبيل الله ولا تعتدوا في ذلك ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي كما قاله الحسن البصري من المُثلة، والغلول، وقتل النساء والصبيان والشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم، والرهبان وأصحاب الصوامع ، وتحريق الأشجار وقتل الحيوان لغير مصلحة، ولهذا جاء في صحيح مسلم، عن بريدة : "إنَّ رسولَ اللهِ ﷺكانَ إذا بعثَ الجُيوشَ قال: " اغْزُوا بِسمِ اللهِ، وفي سبيلِ اللهِ، قاتِلوا مَن كفَرَ باللهِ، اغْزُوا، ولا تَغلُّوا، ولا تَغْدِروا، ولا تُمثِّلوا، ولا تَقْتُلوا وَليدًا." .

وعن ابن عباس قال : كإنَّ رسولَ اللهِ ﷺ كانَ إذا بعثَ الجُيوشَ قال: اغْزُوا بنصر اللهِ تعالى في سبيلِ اللهِ من كفرَ بالله، لا تغدِرُوا ولا تُمثِّلوا ولا تَغْلوا ولا تقتُلوا الوِلْدَانَ ولا أصحابَ الصَّوامعِ " ( رواه الإمام أحمد ).

ولأبي داود ، عن أنس مرفوعا ، نحوه . وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : أنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ في بَعْضِ مَغَازِي النبيِّ ﷺ مَقْتُولَةً، فأنْكَرَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ قَتْلَ النِّسَاءِ والصِّبْيَانِ" ، وورد في الأثر أنَّ أبا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ، بعَثَ جيشًا إلى الشَّامِ، فخرَجَ يَمْشي مَعَ يَزيدَ بنِ أَبي سُفيانَ، قالَ: ستجِدُ قومًا زعَموا أنَّهم حبَسوا أنفُسَهم، فدَعْهم وما زعَموا أنَّهم حبَسوا أنفُسَهم" (إسنادة صحيح، مرسل)، وهذا في الرهبان في الصوانع، والراهبات.

عن حذيفة بن اليمان قال: وضرب رسول الله ﷺمثلا، قال: " إنَّ قَومًا كانوا أهْلَ ضَعفٍ ومَسْكَنةٍ قاتَلَهم أهْلُ تَجبُّرٍ وعَداءٍ، فأظهَرَ اللهُ أهْلَ الضَّعفِ عليهم، فعَمَدوا إلى عَدُوِّهم فاستَعمَلوهم وسَلَّطوهم، فأسْخَطوا اللهَ عليهم إلى يَومِ يَلقَونَه.  ( إسناده حسن).

يمثل رسول اللهﷺ ما يفعل الله بالمعتدي

ومعنى الحديث : أن هؤلاء الضعفاء لما قدروا على الأقوياء، فاعتدوا عليهم واستعملوهم فيما لا يليق بهم، أسخطوا الله عليهم بسبب هذا الاعتداء. والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدا.

وقوله تعالى: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ۚ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ۖ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ۗ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ)

قوله تعالى : ثقفتموهم: أي وجدتموهم، يقال : ثقف يثقف ثقفا وثقفا ، ورجل ثقف لقف: إذا كان محكما لما يتناوله من الأمور .

(وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ۚ ) أي من مكة . قال الطبري: الخطاب للمهاجرين والضمير لكفار قريش .

وقوله: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ...)  أي الفتنة التي حملوكم عليها، وأرادوا رجوعكم بها إلى الكفر أشد من القتل. قال مجاهد: أي من أن يقتل المؤمن، فالقتل أخف عليه من الفتنة، وقال غيره : أي شركهم بالله وكفرهم به أعظم جرما وأشد من القتل الذي عيروكم به.

وقوله : (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ) كما جاء في الصحيحين : قالَ رسول الله يَومَ فَتْحِ مَكَّةَ: "إنَّ هذا البَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَومَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأرْضَ، فَهو حَرَامٌ بحُرْمَةِ اللَّهِ إلى يَومِ القِيَامَةِ، وإنَّه لَمْ يَحِلَّ القِتَالُ فيه لأحَدٍ قَبْلِي، ولَمْ يَحِلَّ لي إلَّا سَاعَةً مِن نَهَارٍ، فَهو حَرَامٌ بحُرْمَةِ اللَّهِ إلى يَومِ القِيَامَةِ، لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، ولَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، ولَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إلَّا مَن عَرَّفَهَا، ولَا يُخْتَلَى خَلَاهُ فَقالَ العَبَّاسُ: يا رَسولَ اللَّهِ، إلَّا الإذْخِرَ فإنَّه لِقَيْنِهِمْ ولِبُيُوتِهِمْ، قالَ: إلَّا الإذْخِرَ.."

يعني بذلك صلوات الله وسلامه عليه قتاله أهلها يوم فتح مكة، فإنه فتحها عنوة، وقتلت رجال منهم عند الخندمة، وقيل: صلحا ،  لقوله: من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن .والبأصح أن الفتح كان عنوة- من جهة خالد بن الوليد، وصلحا كون النبي ﷺعفا عنهم.

وقد حكى القرطبي : أن النهي عن القتال عند المسجد الحرام منسوخ . قال قتادة: نسخها قوله: (فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ) (التوبة ٥ ). وفي هذا نظر.

وقوله : (فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ۗ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) يقول تعالى: لا تقاتلوهم عند المسجد الحرام إلا أن يبدأوكم بالقتال فيه، فلكم حينئذ قتالهم وقتلهم دفعا للصايل كما بايع النبي ﷺ أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال، لما تألبت عليه بطون قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ، ثم كف الله القتال بينهم فقال: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ۚ) (الفتح٢٤ )، وقال : ( وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۖ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۚ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) ( الفتح ٢٥) .

وقيل: (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ)  منسوخة؛ لأن الإجماع قد تقرر بأن عدوا لو استولى على مكة وقال : لأقاتلكم ، وأمنعكم من الحج ولا أبرح من مكة ؛ لوجب قتاله وإن لم يبدأ بالقتال ، فمكة وغيرها من البلاد سواء . وإنما قيل فيها : هي حرام تعظيما لها ، ألا ترى أن رسول الله ﷺ بعث خالد بن الوليد يوم الفتح وقال: احصدهم بالسيف حتى تلقاني على الصفا حتى جاء العباس فقال : يا رسول الله ، ذهبت قريش ، فلا قريش بعد اليوم . ألا ترى أنه قال في تعظيمها: ولا يلتقط لقطتها إلا منشد واللقطة بها وبغيرها سواء.

وقوله تعالى: (فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)  (١٩٢)

أي : فإن تركوا القتال في الحرم ، وأنابوا إلى الإسلام والتوبة ، ( .. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) يغفر ذنوبهم، ولو كانوا قد قتلوا المسلمين في حرم الله، فإنه تعالى لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن تاب منه إليه .

وقوله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ۖ فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) (١٩٣)، ثم أمر تعالى بقتال الكفار : (حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ) أي: يفتنوكم في الدين .

(وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) أي: يكون دين الله هو الظاهر العالي على سائر الأديان، كما ثبت في الصحيحين : عن أبي موسى الأشعري ، قال : جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ ﷺ  فَقالَ الرَّجُلُ: يُقَاتِلُ حَمِيَّةً، ويُقَاتِلُ شَجَاعَةً، ويُقَاتِلُ رِيَاءً، فأيُّ ذلكَ في سَبيلِ اللَّهِ؟ قالَ: "مَن قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيَا، فَهو في سَبيلِ اللَّهِ. " .

وفي الصحيحين، عن جابر بن عبد الله أن رسول اللهﷺ قال: " أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ النَّاسَ حتَّى يقولوا: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فإذا قالوا: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِماءَهُمْ، وأَمْوالَهُمْ إلَّا بحَقِّها، وحِسابُهُمْ علَى اللهِ، ، وحسابهم على الله " وقوله: (فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) يقول : فإن انتهوا عما هم فيه من الشرك ، وقتال المؤمنين، فكفوا عنهم، فإن من قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم ، ولا عدوان إلا على الظالمين، وهذا معنى قول مجاهد: لا يقاتل إلا من قاتل . أو يكون تقديره ؛ فإن انتهوا فقد تخلصوا من الظلم، وهو الشرك . فلا عدوان عليهم بعد ذلك ، والمراد بالعدوان هاهنا المعاقبة والمقاتلة .

عن عبد الله بن عمر أنه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا : إن الناس صنعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبي ﷺ فما يمنعك أن تخرج ؟ قال : يمنعني أن الله حرم دم أخي . قالا : ألم يقل الله : ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) ؟ قال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله. زاد عثمان بن صالح عن ابن وهب قال : أخبرني فلان وحيوة بن شريح ، عن بكر بن عمرو المعافري أن بكير بن عبد الله حدثه ، عن نافع : أن رجلا أتى ابن عمر فقال [ له ] : يا أبا عبد الرحمن ، ما حملك على أن تحج عاما وتعتمر عاما ، وتترك الجهاد في سبيل الله ، وقد علمت ما رغب الله فيه ؟ فقال : يا ابن أخي ، بني الإسلام على خمس: الإيمان بالله ورسوله، والصلوات الخمس، وصيام رمضان، وأداء الزكاة ، وحج البيت . قال : يا أبا عبد الرحمن ، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه : (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ) ( الحجرات٩) ،

وقوله تعالى: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ۚ فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِين) َ (194)

قال عكرمة، عن ابن عباس: لما سار رسول الله ﷺ معتمرا في سنة ست من الهجرة ، وحبسه المشركون عن الدخول والوصول إلى البيت، وصدوه بمن معه من المسلمين في ذي القعدة ، وهو شهر حرام، حتى قاضاهم على الدخول من قابل ، فدخلها في السنة الآتية، هو ومن كان معه من المسلمين، وأقصه الله منهم، فنزلت في ذلك هذه الآية : (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ۚ )

وقال الإمام أحمد: عن جابر بن عبد الله، قال: لم يكن رسول الله ﷺ يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى ويغزوا فإذا حضره أقام حتى ينسلخ .هذا إسناد صحيح

ولهذا لما بلغ النبي ﷺ وهو مخيم بالحديبية أن عثمان قد قتل وكان قد بعثه في رسالة إلى المشركين بايع أصحابه، وكانوا ألفا وأربعمائة تحت الشجرة على قتال المشركين، فلما بلغه أن عثمان لم يقتل كف عن ذلك، وجنح إلى المسالمة والمصالحة ، فكان ما كان .

وكذلك لما فرغ من قتال هوازن يوم حنين وتحصن لهم بالطائف، عدل إليها، فحاصرها ودخل ذو القعدة وهو محاصرها بالمنجنيق، واستمر عليها إلى كمال أربعين يوما ، كما ثبت في الصحيحين عن أنس . فلما كثر القتل في أصحابه انصرف عنها ولم تفتح، ثم كر راجعا إلى مكة واعتمر من الجعرانة، حيث قسم غنائم حنين . وكانت عمرته ﷺ هذه في ذي القعدة أيضا عام ثمان

وقوله : (فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ) أمر بالعدل حتى في المشركين : كما قال: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ) (النحل١٢٦)، . وقال : (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ) (الشورى٤٠). .

وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن قوله: (فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ) نزلت بمكة حيث لا شوكة ولا جهاد ، ثم نسخ بآية الجهاد بالمدينة . وقد رد هذا القول ابن جرير ، وقال : بل [ هذه ] الآية مدنية بعد عمرة القضية.

وقد أطلق هاهنا الاعتداء على الاقتصاص، من باب المقابلة

وقوله : (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِين)، أمر لهم بطاعة الله وتقواه ، وإخبار بأنه تعالى مع الذين اتقوا بالنصر والتأييد في الدنيا والآخرة .

وقوله تعالى: (وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (١٩٥)

قال البخاري: عن حذيفة: (وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ) قال: نزلت في النفقة.

و عن أسلم أبي عمران قال : حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه ، ومعنا أبو أيوب الأنصاري، فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة. فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية ، إنَّما نزَلَت هذِهِ الآيةُ فينا مَعشرَ الأنصارِ -يعني قولَهُ تعالى: (وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) - قالَهُ ردًّا على من أنكَرَ على مَن حملَ على صفِّ الرُّومِ حتَّى دخلَ فيهِم

قال: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه ﷺ ونصره، حتى فشا الإسلام وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد ، وقد وضعت الحرب أوزارها ، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما . فنزل فينا : (وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ) فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد" (وقال الترمذي : حسن صحيح غريب ).

عن أبي إسحاق السبيعي قال : قال رجل: سألتُ البراءَ بنَ عازبٍ عنِ الرجلِ يَلقى المائةَ من العدوِّ فيقاتِلُ أيكونُ مِمَّنْ قالَ اللَّهُ فيهِ : (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرةِ ١٩٥) ؟ قالَ : قد قالَ اللَّهُ تعالى: ( فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ) (النساء٨٤) ، إنما هذا في النفقة . (رواه ابن مردويه وأخرجه الحاكم في مستدركه.وقال : صحيح على شرط الشيخين)

وعن أبي إسحاق ، عن البراء فذكره . وقال بعد قوله: ( تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) ولكن التهلكة أن يذنب الرجل الذنب، فيلقي بيده إلى التهلكة ولا يتوب .

وقال عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : (وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ)  ليس ذلك في القتال ، إنما هو في النفقة أن تمسك بيدك عن النفقة في سبيل الله . ولا تلق بيدك إلى التهلكة .

وعن الضحاك بن أبي جبيرة قال : كانت الأنصار يتصدقون وينفقون من أموالهم ، فأصابتهم سنة ، فأمسكوا عن النفقة في سبيل الله فنزلت : ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة )

وقال الحسن البصري : ( وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ)  قال : هو البخل .

وقال سماك بن حرب ، عن النعمان بن بشير في قوله : ( وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ) أن يذنب الرجل الذنب، فيقول : لا يغفر لي ، فأنزل الله : ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) رواه ابن مردويه .

وقال ابن أبي حاتم : وروي عن عبيدة السلماني ، والحسن ، وابن سيرين ، وأبي قلابة نحو ذلك . يعني : نحو قول النعمان بن بشير: إنها في الرجل يذنب الذنب فيعتقد أنه لا يغفر له ، فيلقي بيده إلى التهلكة ، أي: يستكثر من الذنوب فيهلك. ولهذا روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: التهلكة: عذاب الله .

وقال ابن أبي حاتم وابن جرير جميعا : حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني أبو صخر ، عن القرظي : أنه كان يقول في هذه الآية : ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) قال: كان القوم في سبيل الله، فيتزود الرجل. فكان أفضل زادا من الآخر ، أنفق البائس من زاده، حتى لا يبقى من زاده شيء، أحب أن يواسي صاحبه، فأنزل الله: (ووَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) .

وعن زيد بن أسلم في قول الله: (َأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ) وذلك أن رجالا كانوا يخرجون في بعوث يبعثها رسول الله ﷺ، بغير نفقة ، فإما يقطع بهم ، وإما كانوا عيالا فأمرهم الله أن يستنفقوا مما رزقهم الله، ولا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، والتهلكة أن يهلك رجال من الجوع أو العطش أو من المشي. وقال لمن بيده فضل : (وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) .

ومضمون الآية : الأمر بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه القربات ووجوه الطاعات ، وخاصة صرف الأموال في قتال الأعداء ، وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوهم ، والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار إن لزمه واعتاده . ثم عطف بالأمر بالإحسان ، وهو أعلى مقامات الطاعة ، فقال: (ووَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) .