Monday 31 October 2016

الأمثال في القرآن - المثل الثاني عشر- سورة آل عمران - مثل في مصير ما ينفقه الكافر في الحياة الدنيا

 



 





المثل الثاني عشر  – سورة آل عمران – مثل في مصير ما ينفقه الكافر في الدنيا 

المثل اليوم في حال الكفار يوم القيامة ، وما مصير أعمالهم التي  كانوا يرجون أن ينالوا مقابلها خيرا ، فالكافر قد يعمل من أعمال الخير، وقد يكون له أبناء بارين به ، لكن هل يغنيه هذا أو ينفعه؟ وما جزاء حسناتهم؟
تعال نرى كيف صور لنا ربنا حالهم ومآلهم؟  وبم شبه أعمالهم الحسنة؟
تعالوا إلى آية المثل، ولبيان فيمن أنزلت نحتاج إلى آية قبلها ليتم المعنى ..

قال تعالى :ـ  { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ *} [آل عمران: 116-117] :

قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } يشمل كل من كفر بالله من يهودي أو نصراني أو شيوعي أو دهري أو مسلماً ارتد.

والمراد  به الكفر الأكبر؛ لقوله تعالى: {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} لأن أصحاب النار الخالدين فيها أبدا لن يكونوا إلا الكفار كفراً أكبر؛ لأن صاحب الشيء هو الملازم له ، الذي لا انفكاك له عنه وقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} ، قوله: {لَنْ تُغْنِيَ} أي لن تمنع ولن تدفع، فأعمالهم عاجزة عن منع ما أراد الله وعن رفعه.

لم يخصص الله تعالى الأموال والأولاد في النفع:

وقوله: {أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}  ذكر الأموال لأن الأموال يفتدي بها الإنسان نفسه في مواطن الحرج، وقال: { وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ } لأن الأولاد هم الذين يدافعون عن آبائهم وأمهاتهم.

قوله: {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}  ففي الآخرة لا يغني عنهم مالهم ولا أولادهم، و هم أصحاب النار هم فيها خالدون.وقوله: {أَصْحَابُ النَّارِ}  أي أهلها الملازمون لها. و{ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي ماكثون فيها أبدا.

ثم مثَّل الله تعالى لحال أموالهم يوم القيامة، بحيث صارت لا تغني عنهم شيئاً ولا تنفعهم {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ}:

هذا تشبيه تمثيلي؛ لأن التشبيه  نوعان:

تشبيه إفرادي:
مثل أن نقول: فلان كالبحر، فلان كالأسد.
 وتشبيه تمثيلي:
بمعنى أن تشبّه الهيئة بالهيئة، يكون المشبه شيئاً مؤلفاً من عدة أمور، والمشبه به كذلك يكون شيئاً مؤلفاً من عدة أمور، فيسمَّى عند البلاغيين تشبيهاً تمثيلياً، فقوله تعالى: { كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } الصورة هنا: ريح شديدة فيها برودة عظيمة ولها صرير من شدتها،  أصابت زرع قوم ظلموا أنفسهم، فالتشبيه مركب الآن من ريح شديدة باردة أصابت : أي بالضرر- من مصيبٌ ومُصاب- { حَرْثَ قَوْمٍ }، أي أصابت زرع قوم { ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } أي استحقوا أن يعذبهم الله عزّ وجل بهذه الريح لأنهم ظلموا أنفسهم بكفرهم به سبحانه، فأهلكته: أي الحرث، فإذا هبت الريح العاصفة الباردة القوية فإنها سوف تهلك الحرث والثمر.
ووجه الشبه ظاهر؛ لأنهم سُلطوا على أموالهم تسليطاً عظيماً بالرعاية والتكثير، وهم يرجون أن تنفعهم وتصد عنهم السوء،  لكن لم ينتفعوا بهذا التسليط فصارت هي هباءً كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ } [الأنفال: 36]

وهذا التمثيل لحال الكفار أنفاقهم أموالهم لن ينتفعوا به إطلاقاً، كمثل ريح فيها صِرٌّ أصابت زرع قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته، وقوله: {فِيهَا صِرٌّ}  الصرَّ يعني أمرين: البرودة وشدة الصوت، لها صرير من شدتها وباردة، هذه لا تبقي على الزرع ولا تذر، فأهلكتهم. وفي معنى الصر : أنه الصوت في قوله تعالى: { فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ } أي زوجة سيدنا إبراهيم سارة أقبلت { فِي صَرَّةٍ } صيحة حال مجيئها،  أي جاءت صائحة- من غرابة ما سمعت من البشرى لإبراهيم عليه السلام بالولد-  
قال تعالى: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} يعني ما ظلمهم الله عزّ وجل حين سلط على إهلاك أموالهم بدون أن ينتفعوا بها؛ ولكن هم من أوقع الظلم بأنفسهم {وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}

هم الذين يظلمون أنفسهم بكفرهم بآيات الله، ولا أحد أجبرهم على هذا الكفر، وخلق الله الخلق على الفطرة ، لكنهم مالوا عنها، فظلموا أنفسهم، وإذا فعل الإنسان الشيء من نفسه فلا يلومن إلا نفسه.
في تقديم المفعول به فائدة:
وقد قدم المفعول به ( أنفسهم ) الفعل ، وذلك للحصر – اي أنهم لم يظلموا إلا أنفسهم ، لم يظلموا الله سبحانه وتعالى، كما قال: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}

من فوائد الآيتين الكريمتين:

1 ـ بيان أن الكفار مهما بلغوا في القوة عدداً : «أولاد» ومدداً «أموال»،  فإن قوتهم لن تغنيهم من الله شيئاً، مهما كثرت قوتهم عدداً ومدداً فإنها لن تغني عنهم من الله شيئاً.

2 ـ تمام قدرة الله وسلطته على العباد حيث إن الكفار العتاة لا يستطيعون أن يدفعوا شيئاً بأموالهم وأولادهم مما قضاه الله عزّ وجل، لكن هل يفهم من الآية أن المؤمنين تغني عنهم أموالهم وأولادهم من الله شيئاً؟ قلنا: هذا غير مراد؛ لأن الآية سيقت في الرد على الكفار الذين يفتخرون بأموالهم وأولادهم، فبيَّن الله أن أموالهم وأولادهم لا تغني عنهم من الله شيئاً، أما المؤمنون فقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [المنافقون: 9] ولا أحد ينفعه ماله وولده إلا أن يكون عوناً له على طاعة الله.

3 ـ حسن أو تمام بلاغة القرآن، وذلك بقياس الغائب على الشاهد، ووجهه أن الريح التي فيها صِرٌّ وأصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم كل يعرف أنها مدمرة ومهلكة، فكذلك – ما لم تروا من مصير أعمال الكافرين - هالكة لا خير فيها؛ لأن الكفر مدمر لها، ومحبط العمل الصالح :{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة54] .وقوله تعالى في مصير أعمال أهل الكفر: { وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا }( الفرقان 23)

4 ـ أن الكافر لن ينتفع بما عمل من أعمال خير في الآخرة، ووجهه أنه إذا هلك ما عمله وزال فإنه لن ينفعه لكن قد ينفعه في الدنيا، فيدفع الله عنه به من البلاء ما يدفع، أو يحصل من الخير الذي يرجوه ما يحصل بسبب الإنفاق الذي أنفقه من ماله.

5  ـ أن نفس الإنسان عنده أمانة يلحقها ظلمُه ، ويلحقها بره وإحسانه، فيجب أن يرعى هذه الأمانة حقَّها، وإذا كان يجب على الإنسان أن يرعى الأمانة في ولده وأهله ففي نفسه من باب أولى، ولهذا قال تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة 195] هذه وصية منه تعالى لنا بأنفسنا وقال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ} [النساء11] فأوصانا الله بأولادنا وصية منه لنا بأولادنا، والولد بضعة من أبيه. 

اللهم إنّا نسالك بأحب الأسماء إليك، ونسألك يالله بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك،  أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا وجلاء همومنا وغمومنا وشفاء لنا من كل داء ، اللهم إنّا نسالك باسمك العظيم الأعظم الذي إذا سئلت به أعطيت،  وإذا استعفيت به أعفيت، وإذا استغفرت به غفرت، وأن ترزقنا خير الرزق من العمل والمال والأولاد، وأن تبارك لنا فيه