تدبر آيات من القرآن العظيم – الحزب الثامن
عشر – ج1 – مثل من لا عاقبة من تعلم العلم ثم انتكس على عقبيه
قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا
فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ( 175 )وَلَوْ شِئْنَا
لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ
كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ
الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ( 176 )ـ
التفسير :
قالوا هو رجل من بني إسرائيل يقال له
بلعم بن باعوراء "ذكره عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه"؛ وقال كعب:
كان رجلاً من أهل البلقاء وكان يعلم الاسم الأكبر، وكان مقيماً ببيت المقدس مع
الجبارين.
والمشهور في سبب نزول هذه الآية
الكريمة: إنما هو رجل من المتقدمين في زمن بني إسرائيل، اسمه بلعم بن باعوراء ، كان
يعلم اسم الله الأكبر، وكان مجاب الدعوة، ولا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه.
لما نزل موسى ببني إسرائيل بالجبارين ، أتى بلعم
بن باعوراء بنو عمه وقومه فقالوا: إن موسى
رجل حديد ومعه جنود كثيرة، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا، فادع الله أن يردَّ عنا
موسى ومن معه، قال: إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه ذهبت دنياي وآخرتي، فلم
يزالوا به حتى دعا عليهم فسلخه الله ما كان عليه، فذلك قوله تعالى: ( فانسلخ منها فأتبعه الشيطان) الآية. وقوله
تعالى: ( فأتبعه الشيطان) أي استحوذ عليه وعلى أمره فمهما أمره امتثل وأطاعه، ولهذا قال:( فكان من الغاوين) أي من الهالكين الحائرين البائرين.
وقوله تعالى: ( ولو شئنا لرفعناه
بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه) ، يقول تعالى: ( ولو شئنا لرفعناه بها) أي لرفعناه من التدنس عن قاذورات الدنيا بالآيات التي آتيناه
إياها، ( ولكنه أخلد إلى
الأرض) أي مال إلى زينة الحياة الدنيا وزهرتها، وأقبل على لذاتها ونعيمها،
وغرته كما غرت غيره من غير أولي البصائر والنهى.
قصته :
قال السُدّي: لما انقضت الأربعون سنة
التي قال الله: ( فإنها محرمة عليهم أربعين سنة)( المائدة 26 ) بعث يوشع بن نون نبياً فدعا بني إسرائيل، فأخبرهم أنه
نبي، وأن الله أمره أن يقاتل الجبارين، فبايعوه وصدقوه، وانطلق إلى رجل من بني
إسرائيل يقال له: بلعام فكان عالماً يعلم الاسم الأعظم المكتوم، فكفر لعنه الله، وأتى الجبارين، وقال
لهم: لا ترهبوا بني إسرائيل فإني إذا خرجتم تقاتلونهم أدعو عليهم دعوة فيهلكون،
ومن رواية محمد بن إسحاق بن يسار عن سالم عن أبي النضر:
أنه حدث أن موسى عليه السلام لما نزل في أرض بني كنعان من أرض الشام أتى قوم بلعام
إليه، فقالوا له هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل، قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني
إسرائيل، وإنا قومك، وليس لنا منزل، وأنت رجل مجاب الدعوة، فاخرج فادع الله عليهم
قال: ويلكم نبي الله معه الملائكة والمؤمنون، كيف أذهب أدعو عليه وأنا أعلم من الله
ما أعلم؟ قالوا له: ما لنا من منزل، فلم يزالوا به يرفقونه ويتضرعون إليه حتى
فتنوه، فافتتن؛ فركب حمارة له متوجهاً إلى الجبل الذي يطلعه على عسكر بني إسرائيل
- وهو جبل حسبان - فلما سار عليها غير كثير ربضت به فنزل عنها فضربها، حتى إذا
أزلقها قامت فركبها، فلم تسر به كثيراً حتى ربضت به فضربها، حتى إذا أزلقها أذن
لها فكلمته حجة عليه، فقالت: ويحك يا بلعم أين تذهب؟ أما ترى الملائكة أمامي تردني
عن وجهي هذا؟ تذهب إلى نبي الله والمؤمنين لتدعو عليهم، فلم ينزع عنها، فضربها،
فخلى الله سبيلها، حين فعل بها ذلك، فانطلقت به حتى إذا أشرفت به على رأس حسبان
على عسكر موسى وبني إسرائيل جعل يدعو عليهم ولا يدعو عليهم بشر إلا صرف الله لسانه
إلى قومه، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف الله لسانه إلى بني إسرائيل، فقال له قومه: أتدري
يا بلعم ما تصنع؟ إنما تدعو لهم وتدعو علينا، قال: فهذا ما لا أملك. هذا
شيء قد غلب الله عليه، قال: واندلع لسانه فوقع على صدره، فقال لهم: قد ذهبت مني
الآن الدنيا والآخرة، ولم يبق إلا المكر والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال، جملوا النساء
وأعطوهن السلع، ثم أرسلوهن إلى العسكر يبعنها فيه، ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من
رجل أرادها، فإنهم إن زنى رجل واحد منهم كفيتموهم، ففعلوا، فلما دخل النساء العسكر
مرت امرأة من الكنعانيين برجل من عظماء بني إسرائيل وهو زمري بن
شلوم""رأس سبط شمعون بن يعقوب، فلما رآها أعجبته، فقام فأخذ بيدها، وأتى
بها موسى وقال: إني سأظنك ستقول: هذا حرام عليك لا تقربها، قال: أجل هي حرام عليك،
قال: فوالله لا أطيعك في هذا، فدخل بها قبته، فوقع عليها، وأرسل الله عزَّ وجلَّ
الطاعون في بني إسرائيل، وكان فنحاص صاحب أمر موسى غائباً حين صنع زمري بن شلوم ما
صنع، فجاء الطاعون يجوس فيهم، فأخبر الخبر، فأخذ حربته ثم دخل القبة وهما متضاجعان
فانتظمهما بحربته ( أي طعنهما بها) ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء وجعل يقول: اللهم
هكذا نفعل بمن يعصيك، ورفع الطاعون، فعد من هلك من بني إسرائيل في الطاعون فيما
بين أن أصاب زمري المرأة إلى أن قتله فنحاص، فوجدوه قد هلك منهم سبعون ألفاً،
والمقلل لهم يقول عشرون ألفاً في ساعة من النهار.
ففي بلعام بن باعوراء أنزل الله: ( واتل عليهم
نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها - إلى قوله - لعلهم يتفكرون) "
وأخرج ابن جرير بمثله وفيه أن الزنى وقع من عدد من
الجند الذين كانوا مع موسى عليه السلام فسلّط الله عليهم الطاعون فمات منهم سبعون
ألفاً.
وقوله تعالى: ( فمثله كمثل الكلب إن
تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) اختلف المفسرون في معناه، فعلى سياق ابن إسحاق عن سالم أبي النضر
أن بلعاماً اندلع لسانه على صدره فتشبيهه بالكلب في لهثه في كلتا حالتيه إن زجر
وإن ترك ظاهر، وقيل: معناه فصار مثله في ضلاله واستمراره فيه وعدم انتفاعه بالدعاء
إلى الإيمان وعدم الدعاء، كالكلب في لهيثه في حالتيه إن حملت عليه، وإن تركته هو
يلهث في الحالين، فكذلك هذا لا ينتفع بالموعظة والدعوة إلى الإيمان ولا عدمه، كما
قال تعالى: ( سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون)، ( استغفر
لهم أو لا تستغفر لهم) وقيل: معناه أن قلب الكافر والمنافق والضال ضعيف فارغ من الهدى فهو
كثير الوجيب فعبر عن هذا بهذا نقل نحو هذا عن الحسن البصري وغيره ، ثم يقول تعالى لنبيه
محمد ﷺ: ( فاقصص
القصص لعلهم يتفكرون)،أي لعل بني إسرائيل
العالمين بحال بلعام، وما جرى له في إضلال الله إياه وإبعاده من رحمته، بسبب أنه
استعمل نعمة الله عليه في تعليمه الاسم الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به
أجاب، في غير طاعة ربه، بل دعا به على حزب الرحمن، أتباع عبده ورسوله في ذلك
الزمان، كليم الله موسى بن عمران عليه السلام، فيحذروا أن يكونوا مثله، فإن الله قد أعطاهم
علماً وميزهم على من عداهم من الأعراب، وجعل بأيديهم صفة محمد ﷺ يعرفونها كما يعرفون أبناءهم، فهم أحق الناس وأولاهم باتباعه
ومناصرته وموازرته كما أخبرتهم أنبياؤهم بذلك وأمرتهم به.
ولهذا قال الله تعالى فيمن خالف منهم ما في
كتابه وكتمه فلم يعلم به العباد، أحل الله به ذلاً في الدنيا موصولا بذل الآخرة، وقوله: ( ساء مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا) أي ساء مثلهم أن شبهوا بالكلاب التي لا همة لها إلا في تحصيل أكلة
أو شهوة، فمن خرج عن حيز العلم والهدى وأقبل على شهوة نفسه، واتبع هواه صار شبيهاً
بالكلب وبئس المثل مثله؛ ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: (ليس منا
مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه) ""هو في الصحيحين من حديث ابن عباس"".
قوله: ( وأنفسهم كانوا
يظلمون) أي ما ظلمهم الله، ولكن هم ظلموا أنفسهم بإعراضهم عن اتباع الهدى
وطاعة المولى، إلى الركون إلى دار البلى، والاقبال على تحصيل اللذات وموافقة الهوى.
فائدة :
-
وقد ورد في معنى هذه الآية حديث حذيفة بن اليمان رضي اللّه عنه
قال، قال رسول الله ﷺ: (إن مما أتخوف عليكم
رجل قرأ القرآن حتى إذا رؤيت بهجته عليه وكان رداؤه الإسلام، اعتراه إلى ما شاء الله،
انسلخ منه ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشرك) قال: قلت يا نبيّ الله أيها أولى بالشرك المرمي أو الرامي؟ قال: (بل الرامي) ""أخرجه
الحافظ أبو يعلى الموصلي قال ابن كثير: إسناده جيد"أي من رمي جاره بالشرك ( او
قال عنه أنه مشرك ) فهو المشرك.
-
امية بن الصلت كاد أن يسلم ، ثم انتكس على عقبيه:
قال عبد الله بن عمرو في قوله: ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا) الآية، قال: هو
صاحبكم أمية بن أبي الصلت؛ وقد روي من غير وجه عنه وهو صحيح إليه، وكأنه إنما أراد
أن أمية بن أبي الصلت يشبهه به، وليس يعني أنه هو المقصود .
وقد جاء في بعض الأحاديث أنه ممن آمن
لسانه ولم يؤمن قلبه، فإن له أشعاراً ربانية وحكماً وفصاحة، ولكنه لم يشرح الله
صدره للإسلام.
وفي قصته :
وروى الحافظ ابن عساكر عن الزهري أنه قال: قال أمية بن أبي الصلت:
ألا رسول لنا منا يخبرنا........... ما بعد غايتنا من رأس مجراني
فقد كان يتمنى أن يبعث فيهم رسول
يهديهم السبيل ، وقد كان قد اتصل إليه علم كثير من علم الشرائع المتقدمة، ولكنه لم
ينتفع بعلمه.
قال: ثم خرج أمية بن أبي
الصلت إلى البحرين، وتنبأ رسول الله ﷺ ، وأقام أمية بالبحرين
ثماني سنين، ثم قدم الطائف فقال لهم: ما يقول محمد بن عبد الله؟ قالوا: يزعم أنه
نبي هو الذي كنت تتمنى. قال: فخرج حتى قدم عليه مكة فلقيه فقال: يا ابن عبد المطلب
ما هذا الذي تقول؟ قال: أقول إني رسول الله، وأن
لا إله إلا هو. قال: إني أريد أن أكلمك فعدني غدا. قال: فموعدك غدا. قال: فتحب أن آتيك وحدي أو في جماعة
من أصحابي، وتأتيني وحدك أو في جماعة من أصحابك؟ فقال رسول الله ﷺ: أي ذلك شئت.
قال: فإني آتيك في جماعة، فأت في جماعة. قال: فلما كان الغد غدا أمية في جماعة من
قريش، قال: وغدا رسول الله ﷺ معه نفر من أصحابه حتى جلسوا في ظل الكعبة.
قال: فبدأ أمية فخطب، ثم سجع، ثم أنشد الشعر، حتى إذا فرغ الشعر
قال: أجبني يا ابن عبد
المطلب فقال رسول الله ﷺ: « بسم
الله الرحمن الرحيم ( يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ) ». حتى إذا فرغ منها وثب أمية يجر رجليه قال: فتبعته قريش يقولون: ما
تقول يا أمية؟ قال: أشهد أنه على الحق. فقالوا: هل تتبعه؟ قال: حتى أنظر في
أمره.
قال: ثم خرج أمية إلى الشام،
وقدم رسول الله ﷺ المدينة فلما قتل أهل بدر، قدم أمية
من الشام حتى نزل بدرا، ثم ترحل يريد رسول الله ﷺ فقال قائل: يا
أبا الصلت ما تريد؟ قال: أريد محمدا. قال: وما تصنع؟ قال: أؤمن به، وألقي إليه مقاليد هذا الأمر. قال: أتدري من في القليب؟
قال: لا، قال: فيه عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وهما ابنا خالك - وأمه
ربيعة بنت عبد شمس - قال: فجدع أذني ناقته، وقطع ذنبها، ثم وقف على القليب يرثيهم
ويقول:
ما ذا ببدر فالعقنقل * من
مرازبة جحاجح
القصيدة إلى آخرها، ثم رجع إلى مكة والطائف وترك الإسلام.
وأنشد شعره عند الوفاة:
كل عيش وإن تطاول دهرا *
صائر مرة إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما قد بدا
لي * في قلال الجبال أرعى الوعولا
فاجعل الموت نصب عينيك
واحذر * غولة الدهر إن للدهر غولا
ومن شعره أيضاً:
يا نَفسُ مالَكِ دونَ اللَهِ مِن واقِ وَما عَلى حَدَثانِ الدَهرِ مِن باقِ
وهو ما دعى رسول الله ﷺ أن يقول عنه أنه كاد أن يسلم
، كما في صحيح مسلم ؛ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: ( أصدق كلمة قالها شاعر
كلمة لبيد( ألا كل شيء ما خلا الله باطل )
وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم)
. نسأل الله تعالى ثبات على الحق ، وقد جاء في الحديث عن النبي ﷺ :( العلم علمان علم في القلب فذلك العلم
النافع ، وعلم في اللسان فذلك حجة الله تعالى على ابن آدم ) فهذا مثل علم بلعام نعوذ بالله منه
ونسأله التوفيق والممات على التحقيق .