Tuesday 29 April 2014

تدبر آيات من القرآن العظيم - الحزب الثامن عشر ج 1 - عاقبة من تعلم اعلم ثم انتكس على عقبيه



تدبر آيات من القرآن العظيم – الحزب الثامن عشر – ج1 – مثل من لا عاقبة من تعلم العلم ثم انتكس على عقبيه

قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ( 175 )وَلَوْ شِئْنَا لَرَ‌فَعْنَاهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْ‌ضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُ‌كْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُ‌ونَ ( 176 )ـ

التفسير : 

قالوا هو رجل من بني إسرائيل يقال له بلعم بن باعوراء "ذكره عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه"؛ وقال كعب: كان رجلاً من أهل البلقاء وكان يعلم الاسم الأكبر، وكان مقيماً ببيت المقدس مع الجبارين.
والمشهور في سبب نزول هذه الآية الكريمة: إنما هو رجل من المتقدمين في زمن بني إسرائيل، اسمه بلعم بن باعوراء ، كان يعلم اسم الله الأكبر، وكان مجاب الدعوة، ولا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه.
 لما نزل موسى ببني إسرائيل بالجبارين ، أتى بلعم بن باعوراء  بنو عمه وقومه فقالوا: إن موسى رجل حديد ومعه جنود كثيرة، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا، فادع الله أن يردَّ عنا موسى ومن معه، قال: إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه ذهبت دنياي وآخرتي، فلم يزالوا به حتى دعا عليهم فسلخه الله ما كان عليه، فذلك قوله تعالى: ( فانسلخ منها فأتبعه الشيطان)  الآية. وقوله تعالى: ( فأتبعه الشيطان) أي استحوذ عليه وعلى أمره فمهما أمره امتثل وأطاعه، ولهذا قال:( فكان من الغاوين)  أي من الهالكين الحائرين البائرين.
وقوله تعالى: ( ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه) ، يقول تعالى: ( ولو شئنا لرفعناه بها) أي لرفعناه من التدنس عن قاذورات الدنيا بالآيات التي آتيناه إياها، ( ولكنه أخلد إلى الأرض) أي مال إلى زينة الحياة الدنيا وزهرتها، وأقبل على لذاتها ونعيمها، وغرته كما غرت غيره من غير أولي البصائر والنهى.
قصته :
قال السُدّي: لما انقضت الأربعون سنة التي قال الله: ( فإنها محرمة عليهم أربعين سنة)( المائدة 26 ) بعث يوشع بن نون نبياً فدعا بني إسرائيل، فأخبرهم أنه نبي، وأن الله أمره أن يقاتل الجبارين، فبايعوه وصدقوه، وانطلق إلى رجل من بني إسرائيل يقال له: بلعام فكان عالماً يعلم الاسم الأعظم المكتوم، فكفر  لعنه الله، وأتى الجبارين، وقال لهم: لا ترهبوا بني إسرائيل فإني إذا خرجتم تقاتلونهم أدعو عليهم دعوة فيهلكون،  
ومن رواية  محمد بن إسحاق بن يسار عن سالم عن أبي النضر: أنه حدث أن موسى عليه السلام لما نزل في أرض بني كنعان من أرض الشام أتى قوم بلعام إليه، فقالوا له هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل،  قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل، وإنا قومك، وليس لنا منزل، وأنت رجل مجاب الدعوة، فاخرج فادع الله عليهم قال: ويلكم نبي الله معه الملائكة والمؤمنون، كيف أذهب أدعو عليه وأنا أعلم من الله ما أعلم؟ قالوا له: ما لنا من منزل، فلم يزالوا به يرفقونه ويتضرعون إليه حتى فتنوه، فافتتن؛ فركب حمارة له متوجهاً إلى الجبل الذي يطلعه على عسكر بني إسرائيل - وهو جبل حسبان - فلما سار عليها غير كثير ربضت به فنزل عنها فضربها، حتى إذا أزلقها قامت فركبها، فلم تسر به كثيراً حتى ربضت به فضربها، حتى إذا أزلقها أذن لها فكلمته حجة عليه، فقالت: ويحك يا بلعم أين تذهب؟ أما ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا؟ تذهب إلى نبي الله والمؤمنين لتدعو عليهم، فلم ينزع عنها، فضربها، فخلى الله سبيلها، حين فعل بها ذلك، فانطلقت به حتى إذا أشرفت به على رأس حسبان على عسكر موسى وبني إسرائيل جعل يدعو عليهم ولا يدعو عليهم بشر إلا صرف الله لسانه إلى قومه، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف الله لسانه إلى بني إسرائيل، فقال له قومه: أتدري يا بلعم ما تصنع؟ إنما تدعو لهم وتدعو علينا، قال: فهذا ما لا أملك. هذا شيء قد غلب الله عليه، قال: واندلع لسانه فوقع على صدره، فقال لهم: قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة، ولم يبق إلا المكر والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال، جملوا النساء وأعطوهن السلع، ثم أرسلوهن إلى العسكر يبعنها فيه، ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها، فإنهم إن زنى رجل واحد منهم كفيتموهم، ففعلوا، فلما دخل النساء العسكر مرت امرأة من الكنعانيين برجل من عظماء بني إسرائيل وهو زمري بن شلوم""رأس سبط شمعون بن يعقوب، فلما رآها أعجبته، فقام فأخذ بيدها، وأتى بها موسى وقال: إني سأظنك ستقول: هذا حرام عليك لا تقربها، قال: أجل هي حرام عليك، قال: فوالله لا أطيعك في هذا، فدخل بها قبته، فوقع عليها، وأرسل الله عزَّ وجلَّ الطاعون في بني إسرائيل، وكان فنحاص صاحب أمر موسى غائباً حين صنع زمري بن شلوم ما صنع، فجاء الطاعون يجوس فيهم، فأخبر الخبر، فأخذ حربته ثم دخل القبة وهما متضاجعان فانتظمهما بحربته ( أي طعنهما بها) ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء وجعل يقول: اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك، ورفع الطاعون، فعد من هلك من بني إسرائيل في الطاعون فيما بين أن أصاب زمري المرأة إلى أن قتله فنحاص، فوجدوه قد هلك منهم سبعون ألفاً، والمقلل لهم يقول عشرون ألفاً في ساعة من النهار.
 ففي بلعام بن باعوراء أنزل الله: (  واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها - إلى قوله - لعلهم يتفكرون) "
وأخرج  ابن جرير بمثله وفيه أن الزنى وقع من عدد من الجند الذين كانوا مع موسى عليه السلام فسلّط الله عليهم الطاعون فمات منهم سبعون ألفاً.
وقوله تعالى: ( فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) اختلف المفسرون في معناه، فعلى سياق ابن إسحاق عن سالم أبي النضر أن بلعاماً اندلع لسانه على صدره فتشبيهه بالكلب في لهثه في كلتا حالتيه إن زجر وإن ترك ظاهر، وقيل: معناه فصار مثله في ضلاله واستمراره فيه وعدم انتفاعه بالدعاء إلى الإيمان وعدم الدعاء، كالكلب في لهيثه في حالتيه إن حملت عليه، وإن تركته هو يلهث في الحالين، فكذلك هذا لا ينتفع بالموعظة والدعوة إلى الإيمان ولا عدمه، كما قال تعالى: ( سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون)، ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) وقيل: معناه أن قلب الكافر والمنافق والضال ضعيف فارغ من الهدى فهو كثير الوجيب فعبر عن هذا بهذا نقل نحو هذا عن الحسن البصري وغيره ، ثم يقول تعالى لنبيه محمد : ( فاقصص القصص لعلهم يتفكرون)،أي لعل بني إسرائيل العالمين بحال بلعام، وما جرى له في إضلال الله إياه وإبعاده من رحمته، بسبب أنه استعمل نعمة الله عليه في تعليمه الاسم الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب، في غير طاعة ربه، بل دعا به على حزب الرحمن، أتباع عبده ورسوله في ذلك الزمان، كليم الله موسى بن عمران عليه السلام،  فيحذروا أن يكونوا مثله، فإن الله قد أعطاهم علماً وميزهم على من عداهم من الأعراب، وجعل بأيديهم صفة محمد يعرفونها كما يعرفون أبناءهم، فهم أحق الناس وأولاهم باتباعه ومناصرته وموازرته كما أخبرتهم أنبياؤهم بذلك وأمرتهم به.
 ولهذا قال الله تعالى فيمن خالف منهم ما في كتابه وكتمه فلم يعلم به العباد، أحل الله به ذلاً في الدنيا موصولا بذل الآخرة، وقوله: ( ساء مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا) أي ساء مثلهم أن شبهوا بالكلاب التي لا همة لها إلا في تحصيل أكلة أو شهوة، فمن خرج عن حيز العلم والهدى وأقبل على شهوة نفسه، واتبع هواه صار شبيهاً بالكلب وبئس المثل مثله؛ ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله قال: (ليس منا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه) ""هو في الصحيحين من حديث ابن عباس"".
قوله: ( وأنفسهم كانوا يظلمون) أي ما ظلمهم الله، ولكن هم ظلموا أنفسهم بإعراضهم عن اتباع الهدى وطاعة المولى، إلى الركون إلى دار البلى، والاقبال على تحصيل اللذات وموافقة الهوى.

فائدة : 

-     وقد ورد في معنى هذه الآية حديث حذيفة بن اليمان رضي اللّه عنه قال، قال رسول الله : (إن مما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن حتى إذا رؤيت بهجته عليه وكان رداؤه الإسلام، اعتراه إلى ما شاء الله، انسلخ منه ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشرك) قال: قلت يا نبيّ الله أيها أولى بالشرك المرمي أو الرامي؟ قال: (بل الرامي) ""أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي قال ابن كثير: إسناده جيد"أي من رمي جاره بالشرك ( او قال عنه أنه مشرك ) فهو المشرك. 

-     امية بن الصلت كاد أن يسلم ، ثم انتكس على عقبيه:
قال عبد الله بن عمرو في قوله: ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا) الآية، قال: هو صاحبكم أمية بن أبي الصلت؛ وقد روي من غير وجه عنه وهو صحيح إليه، وكأنه إنما أراد أن أمية بن أبي الصلت يشبهه به، وليس يعني أنه هو المقصود .
وقد جاء في بعض الأحاديث أنه ممن آمن لسانه ولم يؤمن قلبه، فإن له أشعاراً ربانية وحكماً وفصاحة، ولكنه لم يشرح الله صدره للإسلام.
وفي قصته :
وروى الحافظ ابن عساكر عن الزهري أنه قال: قال أمية بن أبي الصلت: ألا رسول لنا منا يخبرنا........... ما بعد غايتنا من رأس مجراني
فقد كان يتمنى أن يبعث فيهم رسول يهديهم السبيل ، وقد كان قد اتصل إليه علم كثير من علم الشرائع المتقدمة، ولكنه لم ينتفع بعلمه.
 قال: ثم خرج أمية بن أبي الصلت إلى البحرين، وتنبأ رسول الله ، وأقام أمية بالبحرين ثماني سنين، ثم قدم الطائف فقال لهم: ما يقول محمد بن عبد الله؟ قالوا: يزعم أنه نبي هو الذي كنت تتمنى. قال: فخرج حتى قدم عليه مكة فلقيه فقال: يا ابن عبد المطلب ما هذا الذي تقول؟ قال: أقول إني رسول الله، وأن لا إله إلا هو. قال: إني أريد أن أكلمك فعدني غدا. قال: فموعدك غدا. قال: فتحب أن آتيك وحدي أو في جماعة من أصحابي، وتأتيني وحدك أو في جماعة من أصحابك؟ فقال رسول الله: أي ذلك شئت. قال: فإني آتيك في جماعة، فأت في جماعة. قال: فلما كان الغد غدا أمية في جماعة من قريش، قال: وغدا رسول الله معه نفر من أصحابه حتى جلسوا في ظل الكعبة.
قال: فبدأ أمية فخطب، ثم سجع، ثم أنشد الشعر، حتى إذا فرغ الشعر قال: أجبني يا ابن عبد المطلب فقال رسول الله : « بسم الله الرحمن الرحيم ( يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ) ». حتى إذا فرغ منها وثب أمية يجر رجليه قال: فتبعته قريش يقولون: ما تقول يا أمية؟ قال: أشهد أنه على الحق. فقالوا: هل تتبعه؟ قال: حتى أنظر في أمره.
 قال: ثم خرج أمية إلى الشام، وقدم رسول الله المدينة فلما قتل أهل بدر، قدم أمية من الشام حتى نزل بدرا، ثم ترحل يريد رسول الله فقال قائل: يا أبا الصلت ما تريد؟ قال: أريد محمدا. قال: وما تصنع؟ قال: أؤمن به، وألقي إليه مقاليد هذا الأمر. قال: أتدري من في القليب؟ قال: لا، قال: فيه عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وهما ابنا خالك - وأمه ربيعة بنت عبد شمس - قال: فجدع أذني ناقته، وقطع ذنبها، ثم وقف على القليب يرثيهم ويقول:
 ما ذا ببدر فالعقنقل * من مرازبة جحاجح
القصيدة إلى آخرها، ثم رجع إلى مكة والطائف وترك الإسلام.
وأنشد شعره عند الوفاة:
 كل عيش وإن تطاول دهرا * صائر مرة إلى أن يزولا
 ليتني كنت قبل ما قد بدا لي * في قلال الجبال أرعى الوعولا
 فاجعل الموت نصب عينيك واحذر * غولة الدهر إن للدهر غولا
ومن شعره أيضاً:
يا نَفسُ مالَكِ دونَ اللَهِ مِن  واقِ        وَما عَلى حَدَثانِ الدَهرِ مِن باقِ
وهو ما دعى رسول الله أن يقول عنه أنه كاد أن يسلم ، كما في صحيح مسلم ؛ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: ( أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد(  ألا كل شيء ما خلا الله باطل ) وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم)
. نسأل الله تعالى ثبات على الحق ، وقد جاء في الحديث عن النبي :( العلم علمان علم في القلب فذلك العلم النافع ، وعلم في اللسان فذلك حجة الله تعالى على ابن آدم ) فهذا مثل علم بلعام نعوذ بالله منه ونسأله التوفيق والممات على التحقيق .

Monday 28 April 2014

تدبر أيات من القرآن العظيم - الحزب السابع عشر ج 3 - عاقبة التحايل على أحكام الله



تدبر آيات من القرآن العظيم – الحزب 17 – ج 3 – عاقبة التحايل على حكم الله

لقد قص الله جل وعلا  علينا في كتابه العديد من القصص للعبرة والعظة، فكتاب الله هو المنبع للهدى والحق، فيه يجد المسلم النور الذي يضيء له الطريق، ومنه يفوز بالقوة والخشية من الله، ومن أعرض عن هذا الصراط فما هو بحي، ولو نما جسمه ونبض عرقه، بل هو ميت كما قال جل وعز

( أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)  [(122) سورة الأنعام] 

ألا وإن المرء المؤمن حينما يقرأ ويتأمل في معالم كتاب ربه بقلب غير لاه ولا مقفل ، هو كمتعبد يغشى في مصلاه، ينهل من تلك القصص التي قصها الله علينا العبر والعظات بمن كان قبلنا، وننظر إلى الأمور بعواقبها، وليس بمتعها الحالية والوقتية، فما كتاب الله بكتاب لهو وتسلية، وما قص الله علينا هذه القصص للترفيه، إن هي أمثال يضربها ربنا لنا، وما يعقلها إلا العالمون المتأملون المتفكرون فيها بقلب شهيد .
 وفي سورة الأعراف قص الله تعالى كثير من قصص الأمم السابقة ، ومنهم بني إسرائيل، مما يستحق التأمل ، وما زال يؤخذ كعبرة لمن عمل عملهم،  تعال نقرأ مصير من تحايل على أحكام الله جل وعلا، ومن كان معهم مما يدعي الصلاح ولا يعمل به؛  قال تعالى:

( وَسْئَلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي ٱلسَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ* وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ* فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُّوء وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ* فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ* ) [163 – 166  سورة الأعراف]

إن حاصل معنى هذه الآيات في سورة الأعراف، هو أن اليهود المعاندين لنبي الله الخاتم كبرا وحسدا من عند أنفسهم ، زعموا أن بني إسرائيل لم يكن فيهم عصيان ولا معاندة لمِاَ أمروا به، فهم شعب الله المختار ، وهم أبناء الله وأحباؤه بزعمهم ،  وردا عليهم ، وبيانا للحق ، وما هم عليه ،  أمر الله نبيه أن يسألهم على جهة التوبيخ لهم والتقريع عن هذه القرية، وهي على المشهور من أقوال المفسرين قرية "أيلة" على شاطئ بحر القلزم بين مدين والطور، هذه القرية أهلها من اليهود، وكانوا يعتدون في يوم السبت، ويخالفون شرع الله، حيث إنه نهاهم عن الصيد فيه، وكان الله سبحانه قد ابتلاهم واختبرهم في أمر الحيتان بأن تغيب عنهم سائر الأيام، فإذا كانوا يوم السبت جاءتهم في الماء شُرّعا مقبلة إليهم مصطفة، فإذا كان ليلة الأحد غابت بجملتها، فكانت هذه فتنة عظيمة لهم ، يريدون الصيد للاكل والبيع والربح ، وقد أمروا إلا يصيدوا في هذا اليوم وذلك وأضر بهم، فتفتقت أذهانهم عن الحيلة يحجزوا الحيتان إذا أتتهم يوم السبت في حفر ، ولا يأخذوها إلا يوم الأحد ، وزين لهم الشيطان المعصية وهونها عليهم فهي حيلة وهم لم يفعلوا الحرام مباشرة ، فصاروا يحفرون حفراً يخرج إليها ماء البحر على أخدود، فإذا جاءت الحيتان يوم السبت وكانت في الحفرة ألقوا فيها الحجارة فمنعوها من الخروج إلى البحر، فإذا كان الأحد أخذوها، حتى كثر صيد الحوت، ومُشي به في الأسواق، وأعلن الفسقة بصيده بعد ان كانوا في أول أمرهمم يخفونها ، فلما انتشرت وزاد الربح هان عليهم المجاهرة فيها بل والمفاخرة ، فنهضت فرقة منهم ونهت عن ذلك، وجاهرت بالنهي واعتزلت، وفرقة أخرى لم تعص ولم تنه، بل قالوا للناهين:
(وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا)
فكان الجواب العدل : ( قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ*)
أجل نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر لانه واجب علينا وإن لم يستجيبوا لنا ، فعتذر إلى الله أننا نهينا عن المنكر ، ولا ندري لعل الله أن يهدي بنا أحد منهم
 فلما لم يستجب العاصون، أخذهم الله بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون،
( فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُّوء وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ )
 فنص سبحانه على هلاك العاصين ، ونجاة الناهين ، وسكت عن الساكتين عن المنكر، فهم لا يستحقون مدحاً فيمدحوا، ولا ارتكبوا عظيماً فيذموا.
انظروا معي كيف حال الصحابة مع قصص القرآن ، كيف أنهم لا يمرون عليها مرور الكرام ، بل يبحثون عن حالهم ، من أي الفرق نحن ، روى ابن جرير بسنده عن عكرمة قال: دخلت على ابن عباس  رضي الله عنهما، والمصحف في حجره وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك يا ابن عباس جعلني الله فداءك؟ فقال: هؤلاء الورقات، وإذا هو في سورة الأعراف، فقال: ويلك، تعرف القرية التي كانت حاضرة البحر؟ فقلت: تلك أيلة، فقال ابن عباس: لا أسمع الفرقة الثالثة ذكرت، نخاف أن نكون مثلهم، نرى فلا ننكر، فقلت: أما تسمع قوله:
( فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ) قال: فسرّي عنه وكساني حلةً".( اي أنه ذكره بأن العذاب أخذ الذين عتوا عما نهوا عنه ، وليس الفرقة الساكتة )
من أهم العبر في آيات سورة الأعراف أنه ينبغي على أهل العلم وذوي الإصلاح أن يقوموا بواجب النصح والوعظ في إنكار المنكرات، على الوجوه التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، ولا يمنعهم من التمادي على الوعظ بالأمر والنهي والإصرار عليه، لا يمنعهم عدم القبول من المخالف؛ لأنه فرضٌ فرضه الله قُبل أو لم يُقبل، وأن هذا هو الذي يحفظ للأمة كيانها بأمر الله، وبذلك تكون المعذرة إلى الله، وبذلك يدفع الله البلايا عن البشر:
 (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [117 سورة هود]
ولم يقل ربنا سبحانه وتعالى: وأهلها صالحون، فإن مجرد الصلاح ليس كفيلاً في النجاة من العقوبة الإلهية الرادعة، بل قال (وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)، فلا بد أن يعمل الصالح لينجو من الإثم ، وينجو من معه ،لا بد أن يكونوا  صالحون ومصلحون .
 ولأجل ذلك قال النبي : (لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه) وحلّق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم إذا كثر الخبث) [رواه البخاري ومسلم].
إن المعاصي والمنكرات هي الداء العضال، الذي به خراب المجتمعات وهلاكها، وإن التفريط في تغيير المنكرات ومكافحتها والقضاء عليها من أعظم أسباب حلول العقاب ونزول العذاب، يقول النبي
(ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب) [رواه أبو داوود وغيره].
وكتب عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- إلى بعض عماله أما بعد: "فإنه لم يظهر المنكر في قوم قط ثم لم ينههم أهل الصلاح بينهم إلا أصابهم الله بعذاب من عنده أو بأيدي من يشاء من عباده، ولا يزال الناس معصومين من العقوبات والنقمات ما قُمع أهل الباطل واستُخفِيَ فيهم المحارم".
وإن عدم التناهي بين المسلمين من أعظم أسباب اللعن والطرد والإبعاد عن رحمة أرحم الراحمين، يقول النبي
(إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض )
 ثم تلا :
 ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ* كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) [(78 - 79) سورة المائدة]
ثم قال : (والله لتأمرنّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنّه على الحق أطراً ولتقصرنّه على الحق قصراً أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم) [رواه أبو داوود والترمذي].
أن من استقام على شريعة الله استحق من الله الكرامة والرضوان، ومن حاد عن سبيل الحق والهدى باء باللعن والخيبة والخسران.

اللهم أنا نسألك الثبات على دينك الحق حتى نلقاك وأنت راض عنا