Saturday 22 January 2022

تفسير سورة البقرة ح4 لم ضرب الله مثلين للمنافقين الناري والمائي

 

تفسير سورة البقرة- ج4 – الحق ربنا يفصل في صفات المنافقين بالأمثلة عليهم لتنجلي صفاتهم، فاحذروهم

 

محور مواضيع هذه الآيات من السورة:

- بيان أهم صفاتهم ، وهو التلون حسب الزمان، والمخالطين بهم.

- ضرب الأمثال زيادة في البيان لأحوالهم، ومنها يؤخذ أنهم لا يدومون على حال.

- أن المنافق جبان يخاف أن ينكشف أمره إذا كان في النور.

- أول نداء من الحق سبحانه وتعالى بترتيب المصحف هو للناس كافة، يأمرهم بالتزام الغاية من خلقهم؛ (.... اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) ، وبين مآل من يمتثل له.

- تحدي الله عز وجل المتكلم بالقرآن للخلق بأن يأتوا بمثله، وبادرهم بما سيكون.

التفسير:

قوله تعالى: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (

يقول سبحانه تعالى:وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين قالوا: ( آمَنَّا ) أي:أظهروا لهم الإيمان والموالاة والمصافاة، غرورًا منهم للمؤمنين ونفاقا ومصانعة وتقية، ولِيَشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم، ( وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ) يعني: وإذا انصرفوا وذهبوا وخلصوا إلى شياطينهم. فضمن (خَلَوْا ) معنى انصرفوا؛ لتعديته بـــ إلى، ليدل على الفعل المضمر والفعل الملفوظ به. ومنهم من قال: « إلى » هنا بمعنى « مع » ، والأول أحسن، وعليه يدور كلام ابن جرير.

وقال السدي عن أبي مالك: ( خَلَوْا ) يعني:مضوا، و ( شَيَاطِينِهِمْ ) يعني:سادتهم وكبراءهم ورؤساءهم من أحبار اليهود ورؤوس المشركين والمنافقين.

قال السدي في تفسيره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرّة عن ابن مسعود، عن ناس من أصحاب النبي ﷺ:  (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) يعني:هم رؤوسهم من الكفر.

عن ابن عباس: ( وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) يعني: إلى رؤوسهم من أهل الكفر، أو  من يهود الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول.

وقال مجاهد: ( وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) إلى أصحابهم من المنافقين والمشركين.

قال ابن جرير: وشياطين كل شيء مَرَدَتُه، العتاة، وتكون الشياطين من الإنس والجن، كما قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) [ الأنعام١١٢ ] .

وفي المسند عن أبي ذر قال:قال رسول اللهﷺ: « نعوذ بالله من شياطين الإنس والجن » . فقلت:يا رسول الله، وللإنس شياطين؟ قال: « نعم » .

وقوله تعالى: ( قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ ) قال محمد بن إسحاق، عن  سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أي إنا على مثل ما أنتم عليه ( إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ) أي:إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعب بهم، ساخرون بأصحاب محمد ﷺ.

وقوله تعالى جوابًا لهم ومقابلة على صنيعهم: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)

وقال ابن جرير: أخبر الله تعالى أنه فاعل بهم ذلك يوم القيامة، في قوله: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ...) الآية [ الحديد١٣]

 وقوله تعالى: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) [ آل عمران ١٧٨] . قال:فهذا وما أشبهه، من استهزاء الله، تعالى ذكره، وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين، وأهل الشرك به عند قائل هذا القول، ومتأول هذا التأويل.

قال:وقال آخرون:بل استهزاؤه بهم توبيخه إياهم، ولومه لهم على ما ركبوا من معاصيه، والكفر به.

قال:وقال آخرون:هذا وأمثاله على سبيل الجواب، كقول الرّجل لمن يخدعه إذا ظفر به: أنا الذي خدعتك. ولم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه، قالوا: وكذلك قوله: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [ آل عمران٥٤] و ( اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ) على الجواب، والله لا يكون منه المكر ولا الهزء، والمعنى:أن المكر والهُزْء حَاق بهم.

وقال آخرون: قوله: (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) وقوله: ( يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ )[ النساء:١٤٢]، وقوله: ( فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ )[ التوبة٧٩ ] ، وما أشبه ذلك، وهو  إخبار من الله تعالى أنه يجازيهم جَزَاءَ الاستهزاء، ويعاقبهم عقوبة الخداع فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مُخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ.

 وإن اختلف المعنيان كما قال تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) [ الشورى٤٠] ، وقوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) [ البقرة١٩٤ ]، فالأول ظلم، والثاني عدل، فهما وإن اتفق لفظاهما فقد اختلف معناهما.

وقوله تعالى: (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) وعن ابن مسعود، وعن أناس من الصحابة قالوا  يَمدهم: يملي لهم، وقال مجاهد: يزيدهم.

قال ابن جرير:والصواب يزيدهم على وجه الإملاء والترك لهم في عُتُوّهم وتَمَرّدهم، كما قال: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) [الأنعام١١٠] .

والطغيان:هو المجاوزة في الشيء. كما قال: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ )[ الحاقة١١] ، وقال الضحاك، عن ابن عباس: (فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) في كفرهم يترددون.

العمه؛  في اللغة:

قال ابن جرير:والعَمَه:الضلال، يقال:عمه فلان يَعْمَه عَمَهًا وعُمُوهًا: إذا ضل.

عَمَهَ السَّائِرُ : تَحَيَّرَ وَتَرَدَّدَ فِي الطَّرِيقِ وَلَمْ يَدْرِ أَيْنَ يَذْهَبُ

عمهَ الشخص : فهو أعْمَهُ، وعامِه، وهي عَمْهاءُ، وعَمِهَةٌ ، والمفعول: مَعْمُوه فيه

عَمَهُ الْبَصِيرَةِ : أَيْ عَمَى الْعَقْلِ وَالْفِطْنَةِ

أَصَابهُ الْعَمَهُ : أَيْ فُقْدَانُ مَلَكَةِ الإِدْرَاكِ بِالحِسِّ، وَعَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ أَشْكَالِ الأَشْيَاءِ وَالأَشْخَاصِ وَطَبِيعَتِهَا

قال:وقوله: (فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) في ضلالهم وكفرهم الذي غمرهم دَنَسُه، وعَلاهم رجْسه، يترددون حيارى ضُلالا لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا؛ لأن الله تعالى قد طبع على قلوبهم وختم عليها، وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها، فلا يبصرون رُشْدًا، ولا يهتدون سبيلا.

وقال بعضهم: العمى في العين، والعمه في القلب

 وقد يستعمل العمى في القلب أيضا: قال الله تعالى: (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) [ الحج٤٦ ]

 

وقوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِين )

 

عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) قال: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى.

وعن ابن عباس: أي: اشتروا الكفر بالإيمان. وقال مجاهد: آمنوا ثمّ كفروا، ثم هم استحبوا الضلالة على الهدى، وهذا يشبهه في المعنى قوله تعالى في ثمود:  (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) [ فصلت١٧] .

وحاصل قول المفسرين فيما تقدم: أن المنافقين عَدَلوا عن الهدى إلى الضلال، واعتاضوا عن الهدى بالضلالة، وهو معنى قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) أي بذلوا الهدى ثمنا للضلالة، وسواء في ذلك من كان منهم قد حصل له الإيمان ثم رجع عنه إلى الكفر، كما قال تعالى فيهم: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) [ المنافقون٣]

 أو أنهم استحبوا الضلالة على الهدى، كما يكون حال فريق آخر منهم، فإنهم أنواع وأقسام؛ ولهذا قال تعالى: ( فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) أي:ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة، ( وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) أي: راشدين في صنيعهم ذلك.

قال ابن جرير: عن قتادة ( فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة.

 

الأمثال في القرآن :

فالتمثيل هو القالب الذي يبرز المعاني في صورة حية تستقر في الأذهان، وذلك مثل تشبيه الغائب بالحاضر، والمعقول بالمحسوس، وقيام النظير على النظير، وكم من معنى جميل أكسبه التمثيل روعة وجمالا، فكان ذلك أدعى لتقبل النفس له، واقتناع العقل به، هو من أساليب القرآن الكريم في ضروب بيانه ونواحي إعجازه.

وأول أمثال القرآن جاء في سورة البقرة، وهما مثلان يضربهما الله تعالى للمنافقين، لبيان حالهم.

الأول : ما يسمى بالمثل الناري ، والثاني هو المثل المائي .

ولنتعرف على كل واحد منهما على حدة، نبدأ  بما بدأ  به الله هنا ؛ المثل الناري :

قال سبحانه وتعالى: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [البقرة١٧-١٨]

المعنى الإجمالي للمثل النّاري:

أي: مثلهم المطابق لما كانوا عليه كمثل الذي استوقد نارا، أي: كان في ظلمة عظيمة، وحاجة إلى النار شديدة فاستوقدها من غيره، ولم تكن عنده معدة، بل هي خارجة عنه، فلما أضاءت النار ما حوله, ونظر المحل الذي هو فيه, وما فيه من المخاوف وأمنها, وانتفع بتلك النار، وقرت بها عينه، وظن أنه قادر عليها، فبينما هو كذلك؛ إذ ذهب الله بنوره، فذهب عنه النو  وذهب معه السرور، وبقي في الظلمة العظيمة والنار المحرقة، فذهب ما فيها من الإشراق، وبقي ما فيها من الإحراق، فبقي في ظلمات متعددة: ظلمة الليل، وظلمة السحاب وظلمة المطر  والظلمة الحاصلة بعد النور،  فكيف يكون حال هذا الموصوف؟

 فكذلك هؤلاء المنافقون، استوقدوا نار الإيمان من المؤمنين، ولم تكن صفة لهم، فانتفعوا بها وحقنت بذلك دماؤهم، وسلمت أموالهم، وحصل لهم نوع من الأمن في الدنيا، فبينما هم على ذلك إذ هجم عليهم الموت، فسلبهم الانتفاع بذلك النور، وحصل لهم كل هم وغم وعذاب، وحصل لهم ظلمة القبر، وظلمة الكفر, وظلمة النفاق، وظلم المعاصي على اختلاف أنواعها، وبعد ذلك ظلمة النار [ وبئس القرار ] .

 

فلهذا قال تعالى عنهم  : ( صُمٌّ ) أي: عن سماع الخير، ( بُكْمٌ ) أي : عن النطق به، ( عُمْيٌ ) عن رؤية الحق، ( فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) لأنهم تركوا الحق بعد أن عرفوه، فلا يرجعون إليه، بخلاف من ترك الحق عن جهل وضلال، فإنه لا يعقل، وهو أقرب رجوعا منهم.

فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضاً عن الهدى، واستحبابهم الغي على الرشد، كأنهم صم لا يسمعون النذارة ولا البشارة ، عميٌ لا يرون الحق ولا طريقه، انحازوا عنه بعد أن عرفوه، ولم بعودوا إليه، فهم قد أبصروا الحق ثم عموا عنه، وآمنوا ثم كفروا فصاروا يتخبطون في الظلمات.

 وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا، كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع، فهذا هو مثلهم هذا المثل الناري الذي ضربه الله للمنافقين.

 

لم كان تخصيص المنافقين بهذين المثلين؛ النّاري والمائي:

 

 في المثل النّاري في قوله عنهم أن مثلهم هو:ـ (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً) لما في النار من مادة النور.

 وفي المثل المائي يمثل لهم وبحالهم بـ (أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ)  لما في الماء من مادة الحياة.

 وقد نزل الوحي من السماء متضمنا لإنارة القلوب بنوره، وحياتها بمادته وذكر الله حظ المنافقين في الحالتين- فهم بمنزلة من استوقد نارا للإضاءة والنفع حيث انتفعوا ماديا بالدخول في الإسلام ولكن لم يكن له أثر نوري في قلوبهم فذهب الله بما في النار من الإضاءة، ( ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) وبقي ما فيها من الإحراق وهذا مثلهم الناري .

 

فوائد وعبر من المثل النّاري:

 

أكثر القرآن الكريم من ذكر المنافقين لعظم وخبث ودسيسة ودجل المنافقين وفسادهم سرائرهم وأعمالهم ، وإفسادهم لغيرهم، ولذلك كان أول مثل في القرآن فيهم، وتشبيه لحالهم أشد التشبيه.

ولتوضيح خبث حال هذه الفئة من الناس نذكر هنا باختصار عن النفاق.

النفاق:

النفاق كالكفر والشرك والفسق، درجات ومراتب؛ منها ما هو مخرج من الإسلام، ومنها غير مخرج منه، والنفاق مرض يستشري في المجتمعات، وهو على قسمين:

1-نفاق اعتقادي.

2- نفاق عملي.

القسم الأول :ـ النفاق الاعتقادي: وهو النفاق الأكبر؛ المخرج من الملة، والموجب للخلود في الدرك الأسفل من النار:وهو إبطان الكفر في القلب، وإظهار الإيمان على اللسان والجوارح، ويترتب على هذا النوع ما يترتب على الكفر الأكبر؛ من حيث انتفاء الإيمان عن صاحبه، وخلوده في جهنم؛ لكن المنافق أشد عذاباً من الكافر؛ لأنه في الدرك الأسفل من النار إذا مات عليه.

والمنافق إذا لم يظهر ما في باطنه من مخالفة الدين، وأظهر الأعمال الظاهرة من الإسلام؛ فهو في الظاهر مسلم، وتجري عليه أحكام الإسلام الظاهرة في الدنيا، ويعامل معاملة المسلمين؛ لأننا لم نؤمر بالشق عن ما في القلوب، وهذا في الأصل خارج عن نطاق وقدرة ابن آدم.

والنفاق: إذا أطلق ذكره في القرآن؛ فإن المراد به النفاق الأكبر المنافي للإيمان.

والمنافقون شر وأسوأ أنواع الكفار؛ لأنهم زادوا على كفرهم الكذب والمراوغة والخداع للمؤمنين، ولذلك أخبرنا الله تعالى عن صفاتهم في القرآن بالتفصيل، ووصفهم بصفات الشر كلها؛ لكي لا يقع المؤمنون في حبائلهم وخداعهم.

ومن صفات هذا النوع من المنافقين:

-الكفر وعدم الإيمان.

-التولي والإعراض عن حكم الله تعالى وحكم رسوله ﷺ.

-الاستهزاء بالدين وأهله والسخرية منهم.

-الميل بالكلية إلى أعداء الدين، ومظاهرتهم ومناصرتهم على المؤمنين والمسلمين.

-تكذيب الرسولﷺ ، أو بعض ما جاء به الرسول ﷺ ، أو الإستهزاء به أو ببعض أعماله وخصاله، أو أبغاض الرسول ﷺ.

- أو الاستهزاء والسخرية بالمؤمنين؛ لأجل إيمانهم وطاعتهم لله تعالى ولرسوله ﷺ.

وهذا الصنف من المنافقين موجودون في كل زمان ومكان وهذا النوع الذي وصف الله عز وجل المنافقين به في أول آيات سورة البقرة ، إذ قال في الآية الثالثة: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) [ البقرة ١٠] وهو مرض القلب الشك والريب والتردد، فليس عندهم علم ولا يقين.

 وأمراض القلوب: تزيد وتنقص، والكفر يزيد وينقص، كما والإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.

 وتنقسم أمراض القلوب إلى قسمين: مرض شبهة وشك، ومرض شهوة.

فأول أمراض القلوب: مرض الشبهة والشك هو الأشد؛ لأنه مرض في الاعتقاد، وشك في العقيدة. قال تعالى: ( فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا )[البقرة ١٠]  أي: زاد مرض الشبهة والشهوة في قلوبهم بغفلتهم ، وكثرة معاصيهم.

وثاني أمراض القلوب :ـ مرض شهوة المعاصي كمن يحب الزنا والفواحش, ويحب الغناء، فهذا عنده مرض شهوة المعاصي

 قال الله تعالى في سورة الأحزاب مخاطباً لأزواج النبي ﷺ: ( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) [الأحزاب ٣٢]  أي: مرض الشهوة، فنهيت المرأة عن الخضوع بالقول؛ لأنها إذا رخمت الصوت وحسنته طمع فيها الفاسق.

2- القسم الثاني من النفاق : النفاق العملي: وهو النفاق الأصغر؛ غير المخرج من الملة ، وظاهره اختلاف السر والعلانية في الأعمال، وذلك بعمل شيء من أعمال المنافقين؛ مع بقاء أصل الإيمان في القلب وصاحبه لا يخرج من الملة، ولا يُنفى عنه مطلق الإيمان، ولا مسمى الإسلام، وهو معرّض للعذاب كسائر المعاصي، دون الخلود في النار، وصاحبه قد تناله شفاعة الشافعين .

وهذا النوع من النفاق مقدمة وطريق للنفاق الأكبر؛ لمن سلكه وكان ديدنه.

وأمثلة ذلك: الكذب في الحديث، وإخلاف الوعد، وخيانة الأمانة، والفجور في الخصومة، والغدر بالعهود، وكالرياء الذي لا يكون في أصل العمل، وإظهار المودة للغير والقيام له بالخدمة مع إضمار عكسه في النفس.

قال النبي ﷺ: (أربع من كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خُلَّة منهن كانت فيه خُلَّة من نفاق حتى يدعها: إذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غَدَر، وإذا وعَدَ أخلف، وإذا خاصم فَجَر" (البخاري ومسلم واللفظ له)

 

الحكمة من ضرب مثل المنافقين بمن استوقد النار:

        

قال أهل العلم: إنما ضرب الله لهم المثل النار لثلاثة أسباب:

أولاً: أن النار لا توقد إلا بوقود وبحطب: فوقودها الإيمان، وهو العقيدة والأعمال الصالحة، والمنافق ليس عنده وقود من إيمان في قلبه، فالمنافق يتكلم بلسانه غير الذي يضمره في قلبه لأنه لا وقود عنده، ولا يوجد في قلبه شيء يسقي به هذا الإيمان من الأعمال الصالحة ،فانطفأت عليه جذوة الإيمان.

ثانياً:ـ قيل: جعل الله لهم النار مثلاً؛ لأن فيها احتراقاً، فهي إما أن تضيء وتنفع ،وإما أن تحرق، فذهب الله بالنور الذي فيه الإنارة والبصر والضوء وبقي لهم خاصية الإحراق في قلوبهم لعنة يلقونها إلى يوم القيامة.

في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً) [البقرة ١٧]

انظر! كيف قال: ( اسْتَوْقَدَ ) قال أهل العلم: السين هنا هي سين الطلب؛ وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، فمعنى ( اسْتَوْقَدَ ) أي طلب الإيقاد، لم يوقد النار بنفسه بل أوقدها له غيره - أو حمل نفسه على إيقادها-  فالمنافق قد أنار له غيره طريق الإيمان – وقد يكون قد بحث عنه – ثم لم يلبث أن أطفأه بنفسه لنفسه، لم يحافظ عليه بكثرة شك قلبه، ومعاصيه.

السر في قوله: (بِنُورِهِمْ) وليس – بإضاءتهم - 

 

قال تعالى: ( فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) لماذا لم يقل: ذهب الله بإضاءتهم؟ بالرغم من أن أصل الفعل: قوله ( فَلَمَّا أَضَاءَتْ) ، ومصدر(أَضَاءَتْ) هو  إِضاءَة؛ فالأصل أن تكون (فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بإضاءتهم) لكن في القرآن قال: (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ) ما هو السر؟ السر هو في الفرق بين الضياء والنور .

والفرق بين النور والضياء هو:

قد يفرق بينهما بأن الضوء: ما كان من ذات الشيء المضئ، والنور: ما كان مستفادًا من غيره.أي هو مستفاد من المُضيء، وعليه جرى قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا).[يونس ٥]

وقال الراغب الأصفهاني :" النور الضوء المنتشر الذي يعين على الإبصار.وهو ضربان: دنيوي وأخروي.

والدنيوي ضربان:

معقول بعين البصيرة، وهو ما انتشر من الأنوار الإلهية كنور العقل ونور القرآن. ومنه: ﴿ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّـهِ نُورٌ‌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ﴾ (المائدة ١٥ ) 

ومحسوس بعين التبصر وهو ما انتشر من الأجسام النيرة،كالقمر والنجوم النيرات، ومنه: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا) [يونس ٥]

ومن النور الأخروي قوله تعالى: (يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم) (الحديد ١٢)" أهـ   المصدر: معجم الفروق اللغوية

فعلية يفهم أنه استبدل الضياء بقوله ذهب بنورهم ليظهر ان مصدر النور في الآخرة  وهو النار ما زال باقيا، ولكن انتفى النفع منه، وهو الإستنارة والرؤية والبصيرة إلا نفع ما يظهرونه من الإيمان الذي تثبت لهم به أحكام المسلمين من المناكح والتوارث والأمن على أنفسهم وأولادهم وأموالهم،  هو ما لهم منه ، وما بقي لهم من  أصله إلا النار تحرقهم يوم القيامة ، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْ‌كِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ‌ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرً‌ا ﴾ ( النساء١٤٥)

 

الإلتفات في الآيات :

 

ورد في هذه الآيات ما يعبر عنه أهل اللغة بالإلتفات ، وهو تغيير صيغة الكلام ، إما من الجمع إلى الإفراد أو العكس ، أو من المخاطب إلى الغائب ، أو في زمان الفعل ، وغيره كثير، وهذا أفصح في الكلام وأبلغ في النظام. قال الزمخشري:ـ أنّ للإلتفات تأثيراً نفسيّاً لزيادة توقد نشاط السامع، وإيقاظٍه إلى الكلام، وهذا على ما يبدو يأتي نتيجة تحول الأسلوب فيتقيظ لذلك السامع لعدم سير الكلام على منوال واحد.  

فقد جاء في أول الآية التفات من الجمع في ( مثلهم ) إلى الإفراد في (الذي) والسبب هو أن الجمع جاء باعتبار المعنى- أي كلهم بشبهون ( الذي ) استوقد نارا -  والإفراد باعتبار اللفظ.

وقد جاء بعده في أثناء المثل الإلتفات من الواحد إلى الجمع ، فجاء في أول الكلام بصيغة الواحد ( حوله ) ثم صار إلى الجمع في ( بنورهم ) في قوله تعالى: (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ) ﴿١٧﴾‏

وفي هذا الإلتفات دليل على أن الإيمان لا يقتصر نفعه على صاحبه (أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ) حيث تعداه الضياء إلى غيره ممن حوله .

ثم يأتي المثل الثاني في القرآن ، وهو يقترن بالمثل الأول أقترانا وثيقا

المثل الثاني: المثل المائي الذي قال الله فيه: ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة ١٩-٢٠ ]

 

المعنى الإجمالي للمثل:

 

وذكر مثلهم المائي فشبههم بحال من أصابه مطر فيه ظلمة ورعد وبرق فخارت قواه  خوفا، ووضع إصبعيه في أذنيه وأغمض عينيه خوفا من صاعقة تصيبه، لأن القرآن بزواجره ونواهيه وخطابه نزل عليهم نزول الصواعق. سحابٌ كثيفٌ قاتم تصحبه عواصف الرَّعد المطيرة ، مطر شديد الانصباب

الصَّيِّبُ : المطَر

الصَّيِّبُ : السَّحَابُ ذو الصَّوْب، وهو  السحاب الكثيف القاتم تصحبه عواصف الرعد المطيرة، وأطلق بعد على المطر الشديد الإنصباب (معجم المعاني الجامع)

وهذا المثل ضربه الله لطائفة أخرى من المنافقين عندهم شك وريب، يؤمنون أحياناً ويكفرون أحياناً، يؤمنون حين يلمع بهم الحق ويضيء، ولكن إيمانهم ضعيف، فإذا غاب عنهم الحق ولم يبصروه يكفرون، فشبههم بالصيَّب.

قوله تعالى: (فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ) الرعد: الصواعق التي تصيبهم، والبرق: النور الذي يلمع ويضيء لهم أحياناً.

قال الله تعالى: ( يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ) فإيمانهم تارة يظهر وتارة يختفي، ولهذا قال: ( كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ ) يعني: إذا أضاء البرق مشوا، وإذا أظلم وقفوا، فهم في حيرة وتردد.

قال الله تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )

 

الفوائد والعبر:ـ

 

قوله تعالى: (أَوْ كَصَيِّبٍ): (أو) قيل: هي للتخيير.أي أضرب لهم مثل الذي استوقد نارا ، أو حال من رآى أو سمع البرق والرعد ، فهما سواء.

وقيل: هي للتقسيم أو التنويع ، تقول العرب: (خذ هذا القلم أو هذا القلم أو هذا القلم) فهذا تقسيم وليس بتخيير، أي أن المثلين ليسا لنوع واحد من المنافقين، بل هم أنواع ، ذكر في كل مثل نوع منهما- وهذا الأقرب .

 

المغايرة في ذكر القرآن (المطر)، و(الغيث)

 

والصيِّب: هو المطر؛ وللمطر أسماء حسب شدته واستمراره منها: (الوكل- الغادي- الوسمي- الولي- الطش- الرش- المطر- الغيث )

 

ويلاحظ:  أن الغالب في القرآن إذا ذكر الله المطر فهو للعذاب: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ) [الشعراء١٧٣].

وإذا ذكر الله الغيث فهو للرحمة، وهذا في الغالب؛ ولذلك يقول ﷺ: " مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث " ولم يقل: المطر.

 وفي سورة الفرقان قال عنه (ماءً طهورًا ) ولم يقل مطر:  (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۚ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا) (الفرقان ٤٨)‏

وذكر بعض أهل العلم كابن الجوزي : أن من أسباب إجابة الدعاء: نزول الغيث:

 ولذلك ترتاح القلوب إذا سمعت الطش والرش، وأنت تسأل الله أن ينزل على قلبك رحمةً كما أنزل على الأرض رحمةً سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

والله قارن بين غيث البلدان وغيث الأرواح والجنان بمقارنة، فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ) [الحديد ١٦] ثم قال بعدها: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) [الحديد ١٧]

فيا من يحيي الأرض بعد موتها بالمطر نسألك أن تحيي قلوبنا بالإيمان والقرآن والسنة.

 

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢)

هذا أمر عام لكل الناس بأمر عام، وهو العبادة الجامعة لامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، وتصديق خبره، فأمرهم تعالى بما خلقهم له، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) ( الذاريات ٥٦).

وفي الصحيحين عن ابن مسعود، قال:قلت:يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله نِدًّا، وهو خَلَقَكَ» قلت: ثم أَيُّ؟ قال: «ثم أن تقتل ولدك خَشْيَةَ أن يأكل معك» قلت: ثم أَيُّ؟ قال: «ثم أن تُزَانِي حَلِيْلَةَ جَارِكَ». ( متفق عليه).

وكذا حديث معاذ: « أتدري ما حق الله على عباده؟ أن يعبدوه لا يشركوا به شيئًا »

الحديث وفي الحديث الآخر: «لا يقولن أحدكم:ما شاء الله وشاء فلان، ولكن ليقل ما شاء الله، ثم شاء فلان»

وقوله تعالى: ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) يحتمل أن المعنى: أنكم إذا عبدتم الله وحده، اتقيتم بذلك سخطه وعذابه, لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك، ويحتمل أن يكون المعنى: أنكم إذا عبدتم الله صرتم من المتقين الموصوفين بالتقوى، وكلا المعنيين صحيح، وهما متلازمان، فمن أتى بالعبادة كاملة كان من المتقين، ومن كان من المتقين، حصلت له النجاة من عذاب الله وسخطه.

وقوله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا..)

 استدل على وجوب عبادته وحده، بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم، فخلقكم بعد العدم, وخلق الذين من قبلكم، وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة، فجعل لكم الأرض فراشا تستقرون عليها, وتنتفعون بالأبنية والزراعة والحراثة، والسلوك من محل إلى محل، وغير ذلك من أنواع الانتفاع بها، وجعل السماء بناء لمسكنكم، وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم،كالشمس والقمر والنجوم.

فقال تعالى:

( وَأَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ) والسماء: هو كل ما علا فوقك فهو سماء، وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ) [ الأنبياء٣٢] ، ولهذا قال المفسرون: المراد بالسماء هاهنا: السحاب، فأنزل تعالى منه – أي من السحاب: ماءَ، ( فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ ) كالحبوب، والثمار من نخيل وفواكه وزروع وغيرها ( رِزْقًا لَكُمْ ) به ترتزقون، وتقوتون وتعيشون وتفكهون.

(فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا) أي: نظراء وأشباها من المخلوقين، فتعبدونهم كما تعبدون الله, وتحبونهم كما تحبون الله, وهم مثلكم، مخلوقون، مرزوقون مدبرون، لا يملكون مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، ولا ينفعونكم ولا يضرون.

( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أن الله ليس له شريك، ولا نظير لا في الخلق والرزق  والتدبير، ولا في العبادة فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك؟ هذا من أعجب العجب، وأسفه السفه.

ومنْ أشبه آية بهذه الآية قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [ غافر٦٤ ] ومضمونه:أنه الخالق الرازق مالك الدار، وساكنيها، ورازقهم، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يُشْرَك به غَيره؛ ولهذا قال: ( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ )

وهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن عبادة ما سواه، وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته، وبطلان عبادة من سواه،  وهو  ذكر توحيد الربوبية، المتضمن لانفراده بالخلق والرزق والتدبير، فإذا كان كل أحد مقرا بأنه ليس له شريك في ذلك, فكذلك فليكن إقراره بأن الله لا شريك له في العبادة, وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري، وبطلان الشرك.

وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) ٢٤ (

وهذا دليل عقلي على صدق رسول الله ﷺ، وصحة ما جاء به، فقال: (إِنْ كُنْتُمْ) معشر المعاندين للرسول الرادين دعوته، الزاعمين كذبه في شك واشتباه، مما نزلنا على عبدنا، هل هو حق أو غيره ؟ فهاهنا أمر نصف، فيه الفيصلة بينكم وبينه، وهو أنه بشر مثلكم، ليس بأفصحكم ولا بأعلمكم وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم، لا يكتب ولا يقرأ، فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند الله، وقلتم أنتم أنه تقوَّله وافتراه، فإن كان الأمر كما تقولون، فأتوا بسورة من مثله، واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم، فإن هذا أمر يسير عليكم، خصوصا وأنتم أهل الفصاحة والخطابة، والعداوة العظيمة للرسول، فإن جئتم بسورة من مثله، فهو كما زعمتم، وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز، ولن تأتوا بسورة من مثله، ولكن هذا التقييم على وجه الإنصاف والتنزل معكم، فهذا آية كبرى، ودليل واضح  جلي على صدقه وصدق ما جاء به، فيتعين عليكم اتباعه واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة والشدة أن كانت وقودها الناس والحجارة،  ليست كنار الدنيا التي إنما تتقد بالحطب، وهذه النار الموصوفة معدة ومهيأة للكافرين بالله ورسله. فاحذروا الكفر برسوله بعد ما تبين لكم أنه رسول الله.

وهذه الآية ونحوها يسمونها آيات التحدي، وهو تعجيز الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن، قال تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) [الإسراء  ٨٨]

وكيف يقدر المخلوق من تراب، أن يكون كلامه ككلام رب الأرباب؟ أم كيف يقدر الناقص الفقير من كل الوجوه، أن يأتي بكلام ككلام الكامل،.

وفي قوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) إلى آخره  دليل على أن الذي يرجى له الهداية من الضلالة: هو   الشاك الحائر الذي لم يعرف الحق من الضلال، فهذا إذا بين له الحق فهو حري بالتوفيق إن كان صادقا في طلب الحق.

وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه، فهذا لا يمكن رجوعه، لأنه ترك الحق بعد ما تبين له، لم يتركه عن جهل، فلا حيلة فيه.

وكذلك الشاك غير الصادق في طلب الحق، بل هو معرض غير مجتهد في طلبه، فهذا في الغالب أنه لا يوفق.

وفي قوله تعالى: (مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ) وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم، دليل على أن أعظم أوصافه ﷺ قيامه بالعبودية، التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين.

كما وصفه بالعبودية في مقام الإسراء، فقال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ) [ الإسراء ١]، وفي مقام الإنزال، فقال: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ ) [ الفرقان ١]، وفيه أيضا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ) [ الكهف ١]

وفي قوله: ( أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) ونحوها من الآيات، دليل لمذهب أهل السنة والجماعة، أن الجنة والنار مخلوقتان خلافا للمعتزلة، وفيها أيضا، أن الموحدين وإن ارتكبوا بعض الكبائر لا يخلدون في النار، لأنه قال: ( أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) فلو كان عصاة الموحدين يخلدون فيها، لم تكن معدة للكافرين وحدهم.

وفيها دلالة على أن العذاب مستحق بأسبابه؛ وهو الكفر، وأنواع المعاصي على اختلاف درجاتها.

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )

لما ذكر جزاء الكافرين، ذكر جزاء المؤمنين، أهل الأعمال الصالحات، على طريقته تعالى في القرآن يجمع بين الترغيب والترهيب؛ ليكون العبد راغبا راهبا خائفا راجيا ، فقال: (وَبَشِّرِ) أي: يا أيها الرسول ومن قام مقامه في الدعوة إلى الله بشروا ولا تنفروا: (الَّذِينَ آمَنُوا) بقلوبهم (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) بجوارحهم، فصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة.

ووصفت أعمال الخير بالصالحات، لأن بها تصلح أحوال العبد، وتنفع غيره وتصلحه، في أمور دينه ودنياه وحياته الدنيوية والأخروية، ويزول بها عنه فساد الأحوال، فيكون بذلك من الصالحين، الذين يصلحون لمجاورة الرحمن في جنته.

فبشرهم (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) أي: بساتين جامعة من الأشجار العجيبة، والثمار الأنيقة، والظل المديد [من الأغصان والأفنان وبذلك] صارت جنة يجتن بها داخلها، وينعم فيها ساكنها.

ومادة "جَن" في اللغة

 معناها: ستر.

جاء في مفردات الراغب الأصفهاني: أصل الجَن: ستر الشيء عن الحواس؛ يقال :

جنه الليل، وأجنه، وجن عليه: ستره...

والجَنة كل بستان ذي شجر يستر بأشجاره.

والجنين الولد ما دام في بطن أمه. اهـ.

وقوله تعالى: ( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) أي: أنهار الماء واللبن والعسل والخمر، يفجرونها كيف شاءوا ويصرفونها أين ما أرادوان وتشرب منها تلك الأشجار فتنبت أصناف الثمار.

(كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ) أي: هذا من جنسه، وعلى وصفه، كلها متشابهة في الحسن واللذة، ليس فيها ثمرة خاصة، وليس لهم وقت خال من اللذة، فهم دائما متلذذون بأكلها.

وقوله: (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا) قيل: متشابها في الاسم مختلف الطعوم وقيل: متشابها في اللون، مختلفا في الاسم، وقيل: يشبه بعضه بعضا، في الحسن واللذة والفكاهة ولعل هذا الصحيح .

ثم لما ذكر مسكنهم وأقواتهم من الطعام والشراب وفواكههم, ذكر أزواجهم، فوصفهن بأكمل وصف وأوجزه وأوضحه فقال: ( وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ) فلم يقل «مطهرة من العيب الفلاني» ليشمل جميع أنواع التطهير، فهن مطهرات الأخلاق، مطهرات الخلق، مطهرات اللسان، مطهرات الأبصار، فأخلاقهن، أنهن عرب متحببات إلى أزواجهن بالخلق الحسن، وحسن التبعل، والأدب القولي والفعلي، ومطهر خَلْقهن من الحيض والنفاس والمني، والبول والغائط، والمخاط والبصاق، والرائحة الكريهة، ومطهرات الخَلْق أيضا، بكمال الجمال، فليس فيهن عيب ولا دمامة خلق، بل هن خيرات حسان، مطهرات اللسان والطرف، قاصرات طرفهن على أزواجهن، وقاصرات ألسنتهن عن كل كلام قبيح.

ففي هذه الآية الكريمة؛  ذكر المبشِّر والمبشَّر، والمبشَّر به، والسبب الموصل لهذه البشارة، فالمبشِّر: هو الرسول ﷺ ومن قام مقامه من أمته،

والمبشَّر: هم المؤمنون العاملون الصالحات،

والمبشَّر به: هي الجنات الموصوفات بتلك الصفات،

والسبب الموصل لذلك: هو الإيمان والعمل الصالح، فلا سبيل إلى الوصول إلى هذه البشارة إلا بهما، وهذا أعظم بشارة حاصلة، على يد أفضل الخلق، بأفضل الأسباب.

وفيه أيضا استحباب بشارة المؤمنين، وتنشيطهم على الأعمال بذكر جزائها وثمراتها،  فإنها بذلك تخف وتسهل، وأعظم بشرى حاصلة للإنسان، توفيقه للإيمان والعمل الصالح، فذلك أول البشارة وأصلها، ومن بعده البشرى عند الموت، ومن بعده الوصول إلى هذا النعيم المقيم، نسأل الله أن يجعلنا منهم.

وجاء بلفظ البشارة تهكمًا بالكافرين،في قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران٢١]

اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار