تسمية السورة:
سميت هذه السورة في كلام السلف (سورة إذا جاء نصر الله والفتح) .
روى البخاري ( أن عائشة قالت : لما نزلت سورة:( إذا جاء نصر الله والفتح) الحديث .
وسميت في المصاحف وفي معظم التفاسير (سورة النصر) لذكر نصر الله فيها، فسميت بالنصر المعهود عهدا ذكريا .
وهي معنونة في جامع الترمذي (سورة الفتح) لوقوع هذا اللفظ فيها فيكون هذا الاسم مشتركا بينها وبين إنا فتحنا لك فتحا مبينا .
وعن ابن مسعود أنها تسمى (سورة التوديع) في الإتقان، لما فيها من الإيماء إلى وداعه ﷺ اهـ . يعني : من الإشارة إلى اقتراب لحاقه بالرفيق الأعلى كما سيأتي عن عائشة
التعريف بالسورة:
سورة النصر سورة مدنية – من المفصل – ج( ٣٠) حزب(٦٠) – عدد آياتها ثلاث أيات-
-ترتيبها بالمصحف العاشرة بعد المائة .- نزلت بعد سورة التوبة .-بدأت باسلوب شرط " إذا جاء نصر الله والفتح " – ويطلق عليها سورة التوديع.
محور مواضيع السورة :
* هذه السورة هي بُشرى لرسول الله ﷺ بنصر الله تعالى، ودخول النّاس في دين الله أفواجاً، وتوجيه النبي الكريم ﷺ بالتّسبيح والاستغفار وحمد الله على كرمه وفضله حين يتحقّق نصر الله وكرمه وفتحه واجتماع النّاس جميعاً على دين التوحيد وعلى الإسلام.
* والسورة هي إيذان وإعلامٌ بأداء النّبي الكريم ﷺ للرّسالة العظيمة.وتمام تبليغه لما بُعث لأجله، وانتهاء المَهمّة الربانية التي كُلِّف بها.
*ثم هي وتوجيهٌ ربانيٌ للرسول الكريم ﷺ بالتأَهُّب والتجهُّز للرحيل ومداومة ذكر الله، بالتسبيح تارةً، والحمدِ تارةً، ومداومة الاستغفار، ومداومة الذكر عند الفرح وحصول المقصود.
سبب نزول السورة :
أخرج عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن الزهري قال: لما دخل رسول الله ﷺ مكة عام الفتح بعث خالد بن الوليد فقاتل بمن معه صفوف قريش بأسفل مكة، حتى هزمهم الله، ثم أمر بالسلاح فرفع عنهم، ودخلوا في الدين فأنزل الله ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) حتى ختمها.
أقصر سور القرآن:
ثلاث سور تساوت في عددالآيات: سورة الكوثر والعصر والنصر، عدد آياتها ثلاث، وأقصرهن سورة الكوثر عدة كلمات، ، وتليها والعصر، ثم النصر .
وفي حديث ابن أبي شيبة عن أبي إسحاق السبعي في حديث حادثة طعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فصلى عبد الرحمن بن عوف صلاة خفيفة بأقصر سورتين في القرآن ( إنا أعطيناك الكوثر ) و ( إذا جاء نصر الله والفتح ) .
وقت نزول السورة:
واختلف في وقت نزولها : فقيل نزلت منصرف النبيء ﷺ من خيبر أي: في سنة سبع ، ويؤيده ما رواه الطبري والطبراني عن ابن عباس : بينما رسول الله ﷺ بالمدينة نزلت (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)، قال رسول الله ﷺ: الله أكبر جاء نصر الله والفتح ، وجاء نصر أهل اليمن. فقال رجل : يا رسول الله وما أهل اليمن؟ قال : قوم رقيقة قلوبهم، لينة طباعهم، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية اهـ، ومجيء أهل اليمن أول مرة هو مجيء وفد الأشعريين عام غزوة خيبر.
ولم يختلف أهل التأويل أن المراد بالفتح في الآية هو فتح مكة، وعليه فالفتح مستقبل ودخول الناس في الدين أفواجا مستقبل أيضا وهو الأليق باستعمال ( إذا ) ويحمل قول النبيء ﷺ: "جاء نصر الله والفتح " على أنه استعمال الماضي في معنى المضارع لتحقق وقوعه، أو لأن النصر في خيبر كان بادرة لفتح مكة .
وعن قتادة : نزلت قبل وفاة رسول الله ﷺ بسنتين .
وقال الواحدي: عن ابن عباس ( نزلت منصرفه من حنين)، فيكون الفتح قد مضى ودخول الناس في الدين أفواجا مستقبلا، وهو في سنة الوفود سنة تسع، وعليه تكون ( إذا ) مستعملة في مجرد التوقيت دون تعيين .
وعن ابن عمر أن رسول الله ﷺ عاش بعد نزولها نحو ثلاثة أشهر وعليه تكون ( إذا ) مستعملة للزمن الماضي؛ لأن الفتح ودخول الناس في الدين قد وقعا .
وقد تظافرت الأخبار رواية وتأويلا أن هذه السورة تشتمل على إيماء إلى اقتراب أجل رسول الله ﷺ وليس في ذلك ما يرجح أحد الأقوال في وقت نزولها ، إذ لا خلاف في أن هذا الإيماء يشير إلى توقيت مجيء النصر والفتح ودخول الناس في الدين أفواجا ، فإذا حصل ذلك حان الأجل الشريف .
وفي حديث ابن عباس في صحيح البخاري : هو أجل رسول الله ﷺ أعلمه له قال : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)، وذلك علامة أجلك فسبح بحمد ربك واستغفره .
وفي هذا ما يؤول ما في بعض الأخبار من إشارة إلى اقتراب ذلك الأجل مثلما في حديث ابن عباس عند البيهقي في دلائل النبوة والدارمي وابن مردويه : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)، دعا رسول اللهﷺ فاطمة وقال : (إنه قد نعيت إلي نفسي فبكت) إلخ ، فإن قوله : " لما نزلت " مدرج من الراوي، وإنما هو إعلام لها في مرضه كما جاء في حديث الوفاة في الصحيحين ، فهذا جمع بين ما يلوح منه تعارض في هذا الشأن .
وروى الحافظ أبو بكر البزار والبيهقي، من حديث موسى بن عبيدة بسنده عن ابن عمر قال: أنـزلت هذه السورة: ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)، على رسول الله ﷺأوسط أيام التشريق، فعرف أنه الوداع، فأمر براحلته القصواء فَرحَلت، ثم قام فخطب الناس، فذكر خطبته المشهورة
وعن ابن عباس ، أنها آخر سورة نزلت من القرآن فتكون على قوله السورة المائة وأربع عشرة نزلت بعد سورة براءة ولم تنزل بعدها سورة أخرى كاملة، وهذا هو المشهور.
فضل السورة :
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ إِنَّ رَسُولَ لَّلهِ ﷺ قَالَ لِرَجُل مِنْ أَصْحَابـِهِ: " هَلْ تَزَوَّجْتَ يَا فُلاَن ؟" قَالَ : لاَ وَالَّلهِ يَا رَسُولَ الَّلهِ ، وَلاَ عِنْدِي مَا أَتـَزَوَّجُ بـِهِ ، قَالَ : " أَلَيْسَ مَعَكَ ( قُلْ هُوَ الَّلهُ أَحَدٌ )؟ " قَالَ : بَلَى ، قَالَ: " ثُلُثُ القُرآنِ " ، قَالَ : " أَلَيْس َ مَعَكَ (إِذَا جَاءَ نَصْرُ الَّلهِ وَالفَتْحُ )؟ قَالَ :
بَلَى ، قَالَ : " رُبـْعُ القُرآنِ " ، قَالَ ، " أَلَيْس َ مَعَك َ( قُلْ يَأَيـُّهَا الكَافِرُونَ)؟ " قَالَ : بَلَى ، قَالَ : "رُبـْعُ القُرآنِ " ، قَالَ : " أَلَيْسَ مَعَكَ (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا)؟ قَالَ : بَلَى ، قَالَ : " رُبـْعُ القُرآنِ ، تـَزَوَّجْ " ( أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ)
تفسير السورة:
في صحيح البخاري عن ابن عباس قال: كان عمر يُدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وَجَد في نفسه، فقال: لم يَْخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر:إنه ممن قد علمتم فدعاهم ذات يوم فأدخله معهم، فما رُؤيتُ أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليُريهم فقال:ما تقولون في قول الله، عز وجل: ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) ؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نَحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفُتح علينا. وسكت بعضهم فلم يقل شيئًا، فقال لي:أكذلك تقول يا ابن عباس؟ فقلت:لا. فقال:ما تقول؟ فقلت:هو أجلُ رسول الله ﷺ أعلمه له، قال: ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) فذلك علامة أجلك، ( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ) فقال عمر بن الخطاب: لا أعلم منها إلا ما تقول. تفرد به البخاري
وعند الإمام أحمد عن ابن عباس قال:لما نـزلت: ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) قال رسول الله ﷺ: « نُعِيَت إليّ نفسي » .. بأنه مقبوض في تلك السنة. تفرد به أحمد .
وعندالإمام أحمد أيضا عن ابن عباس قال:لما نـزلت: ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) علم النبي ﷺ أنه قد نُعِيت إليه نفسه، فقيل: ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) السورة كلها .
وقال الإمام أحمد أيضًا:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مُرّة، عن أبي البَختُري الطائي ، عن أبي سعيد الخدري، عنْ رسولِ اللهِﷺ أنهُ قال لمَّا نزلَتْ هذهِ السورةُ { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ } قال : قرأَها رسولُ اللهِ ﷺ حتى ختمَها ، وقال: "الناسُ حيزٌ، وأنا وأصحابِي حيزٌ" ، وقال :" لا هجرةَ بعدَ الفتحِ ولكنْ جهادٌ ونيةٌ ".
فالذي فسر به بعض الصحابة من جلساء عمر، رضي الله عنهم أجمعين، مِنْ أنه قد أمرنا إذا فتح الله علينا المدائن والحصون أن نحمد الله ونشكره ونسبحه، يعني نصلي ونستغفره - معنى مليح صحيح، وقد ثبت له شاهد من صلاة النبي ﷺ يوم فتح مكة وقت الضحى ثماني ركعات، فقال قائلون:هي صلاة الضحى. وأجيبوا بأنه لم يكن يواظب عليها، فكيف صلاها ذلك اليوم وقد كان مسافرًا لم يَنْو الإقامة بمكة؟ ولهذا أقام فيها إلى آخر شهر رمضان قريبًا من تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة ويُفطر هو وجميع الجيش، وكانوا نحوًا من عشرة آلاف. قال هؤلاء:وإنما كانت صلاة الفتح، قالوا: فيستحب لأمير الجيش إذا فتح بلدًا أن يصلي فيه أول ما يدخله ثماني ركعات. وهكذا فعل سعد بن أبي وقاص يوم فتح المدائن، ثم قال بعضهم:يصليها كلها بتسليمة واحدة. والصحيح أنه يسلم من كل ركعتين، كما ورد في سنن أبي داود:أن رسول الله ﷺيوم الفتح من كل ركعتين.
وأما ما فسر به ابن عباس وعمر، رضي الله عنهما، من أن هذه السورة نُعِي فيها إلى رسول الله ﷺ نفسه الكريمة، واعلم أنك إذا فتحت مكة؛ وهي قريتك التي أخرجتك، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، فقد فرغ شغلنا بك في الدنيا، فتهيأ للقدوم علينا والوفود إلينا، فالآخرة خير لك من الدنيا، ولسوف يعطيك ربك فترضى، ولهذا قال: ( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ) .
قال النسائي:أخبرنا عمرو بن منصور، حدثنا محمد بن محبوب، حدثنا أبو عوانة، عن هلال ابن خباب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:لما نـزلت: ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) إلى آخر السورة، قال:نُعيت لرسول الله ﷺ نفسُه حين أنـزلت، فأخذ في أشدّ ما كان اجتهادًا في أمر الآخرة، وقال رسول اللهﷺ بعد ذلك: « جاء الفتح، وجاء نصر الله، وجاء أهل اليمن » . فقال رجل:يا رسول الله، وما أهل اليمن؟ قال: « قوم رقيقة قلوبهم، لَيِّنة قلوبهم، الإيمان يَمانٍ، والحكمة يمانية، والفقه يمان »
وفي صحيح البخاري عن عائشة قالت:"كان رسول الله ﷺيكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي" يَتَأَوَّلُ القُرْآنَ» (وأخرجه بقية الجماعة إلا الترمذي، من حديث منصور،)
وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن أبي عدي، عن داود، عن الشعبي، عن مسروق قال:قالت عائشة:كان رسول الله ﷺ يكثر في آخر أمره من قول: «سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه» . وقال: « إن ربي كان أخبرني أني سأرى علامة في أمتي، وأمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده وأستغفره، إنه كان توابا، فقد رأيتها: ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ) » (ورواه مسلم من طريق داود).
والمراد بالفتح هاهنا فتح مكة قولا واحدًا، فإن أحياء العرب كانت تَتَلَوّم بإسلامها فتح مكة، يقولون:إن ظهر على قومه فهو نبي. فلما فتح الله عليه مكة دخلوا في دين الله أفواجًا، فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيمانًا، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر للإسلام، ولله الحمد والمنة.
وقد روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن سلمة قال: لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله ﷺ، وكانت الأحياء تَتَلَوّمُ بإسلامها فتح مكة، يقولون:دعوه وقومه، فإن ظهر عليهم فهو نبي. الحديث
وقال الإمام أحمد:عن أبي عمار، حدثني جار لجابر بن عبد الله قال: قَدِمتُ مِنْ سَفَرٍ فجاءني جابِرُ بنُ عَبدِ اللهِ يُسَلِّمُ عليَّ، فجَعَلْتُ أُحَدِّثُه عن افتراقِ النَّاسِ، وما أَحْدَثوا، فجَعَلَ جابِرٌ يَبكي، ثُمَّ قال: سَمِعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يَقولُ: "إنَّ النَّاسَ دَخَلوا في دِينِ اللهِ أفْواجًا، وسَيَخرُجون منه أفْواجًا."
[ آخر تفسير سورة « إذا جاء نصر الله والفتح » ولله الحمد والمنة ]