Saturday 25 June 2022

تفسير سورة البقرة ح18 من أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه

 
 
 
 

تفسير سورة البقرة- ح ١٨

ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ)

؛ وعمارة المساجد إنما هي بذكر الله فيها وإقامة شرعه

 (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)

يقول رسول الله ﷺ عن ربه:(وأما شتمه- ابن آدم-  إياي فقوله:

لي ولد فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا)

محور مواضيع هذا الجزء:

-التحذير من أهمال المساجد ومنع أهلها أن يرتادوها ، وتبقى منابر للعلم والعمل، ووصف الله  تعالى هذا خراب لها.

- كيف يتحرى المسلم القبلة، وهل يجب الوصول لعين القبلة؟

- من ادعى لله ولدًا فقد شتمه والعياذ بالله، فكيف أن يكون لمن لامثيل له صاحبة، حتى يكون له ولد؟

-من هم الذين تشابهة قلوبهم؟

- قضية هذا الزمان يحسمها رب العالمين: ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) فكفاك يا مسلم محاولة لإرضائهم.

التفسير:

قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (١١٤ )

اختلف المفسرون في المراد من الذين منعوا مساجد الله وسَعَوا في خرابها على قولين:

أحدهما:ما رواه العوفي في تفسيره، عن ابن عباس في قوله: ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) قال:هم النصارى. وقال مجاهد:هم النصاري، كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى، ويمنعون الناس أن يصلوا فيه.

وقال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة في قوله: ( وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ) هو بُخْتَنَصَّر وأصحابه، خَرَّب بيت المقدس، وأعانه على ذلك النصارى.

وقال سعيد، عن قتادة:قال:أولئك أعداء الله النصارى، حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس.

وقال السدي:كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس حتى خربه، وأمر به أن تطرح فيه الجيف، وإنما أعانه الروم على خرابه من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا. وروي نحوه عن الحسن البصري.

القول الثاني:ما رواه ابن جرير::قال ابن زيد في قوله: ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ) قال:هؤلاء المشركون الذين حالوا بين رسول الله ﷺ يوم الحديبية، وبين أن يدخلوا مكة حتى نحر هديه بذي طُوَى وهادنهم، وقال لهم:ما كان أحد يَصُد عن هذا البيت، وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده. فقالوا:لا يدخل علينا مَنْ قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق.

وفي قوله: ( وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ) قال: إذ قطعوا من يَعْمُرُها بذكره ويأتيها للحج والعمرة.

وقال ابن أبي حاتم:ذكر عن سلمة قال:قال محمد بن إسحاق: عن ابن عباس:أن قُرَيشًا منعوا النبي ﷺ الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام، فأنـزل الله: ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ )

ثم اختار ابن جرير القول الأول، واحتج بأن قريشًا لم تسع في خراب الكعبة حقيقة، وأما الروم فسعوا في تخريب بيت المقدس.

والخراب يكون على شكلين؛ الأول: التخريب المادي ، وهو الهدم من الداخل أو الخارج ، او منهما، والإهمال ، ورمي القاذورات فيه

والثاني: هو تخريب معنوي لا يظهر، وهو الأنكى، حيث يمنع من الصلاة فيه والذكر، والتعلم والتعليم، ويحجر على كل من قام بذلك، وهذا المعني الذي يرى المفسرون أنه المقصود.

 

لذلك يقول ابن جرير: الذي يظهر - والله أعلم- القول الثاني، كما قاله ابن زيد، وروي عن ابن عباس؛ لأن النصارى إ ذا منعت اليهود الصلاة في البيت المقدس، كأن دينهم أقوم من دين اليهود، وكانوا أقرب منهم، ولم يكن ذكر الله من اليهود مقبولا إذ ذاك؛ لأنهم لعنوا من قبل على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون.

وأيضا فإنه تعالى لما وجه الذم في حق اليهود والنصارى، شرع في ذم المشركين الذين أخرجوا الرسول ﷺ وأصحابه من مكة، ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام، وأما اعتماده على أن قريشا لم تسع في خراب الكعبة، فأي خراب أعظم مما فعلوا؟ أخرجوا عنها رسول الله ﷺ وأصحابه، واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم، كما قال تعالى: (وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)  ( الأنفال٣٤) ، وقال تعالى: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (التوبة١٧-١٨) ، وقال تعالى: ( إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ) (التوبة١٨)، فإذا كان من هو كذلك مطرودًا منها مصدودًا عنها، فأي خراب لها أعظم من ذلك؟ وليس المراد من عمارتها زخرفتها وإقامة صورتها فقط، إنما عمارتها بذكر الله فيها وإقامة شرعه فيها، ورفعها عن الدنس والشرك.

وقوله تعالى: ( أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ) هذا خبر معناه الطلب، أي لا تُمَكِّنوا هؤلاء - إذا قَدَرُتم عليهم- من دخولها إلا تحت الهدنة والجزية. ولهذا لما فتح رسولُ الله ﷺ مكة أمر من العام القابل في سنة تسع أن ينادى برحاب منى: « ألا لا يَحُجَّن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عُريان، ومن كان له أجل فأجله إلى مدته ». وهذا كان تصديقًا وعملا بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) الآية (التوبة٢٨) .

 وقال بعضهم:ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين على حال التهيب، وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم، فضلا أن يستولوا عليها ويمنعوا المؤمنين منها. والمعنى: ما كان الحق والواجب إلا ذلك، لولا ظلم الكفرة وغيرهم.

وقيل:إن هذا بشارة من الله للمسلمين أنه سيُظْهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد، وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخل المسجد الحرام أحد منهم إلا خائفا،

وقد أنجز الله هذا الوعد كما تقدم من منع المشركين من دخول المسجد الحرام، وأوصى رسول الله ﷺ أن لا يبقى بجزيرة العرب دينان، وأن تجلى اليهود والنصارى منها، ولله الحمد والمنة. وما ذاك إلا تشريف أكناف المسجد الحرام وتطهير البقعة المباركة التي بعث الله فيها رسوله إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا صلوات الله وسلامه عليه .

 وهذا هو الخزي لهم في الدنيا؛ لأن الجزاء من جنس العمل. فكما صدوا المؤمنين عن المسجد الحرام، صُدوا عنه، وكما أجلوهم من مكة أجلوا منها ( وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) على ما انتهكوا من حرمة البيت، وامتهنوه من نصب الأصنام حوله، والدعاء إلى غير الله عنده والطواف به عريا، وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله ورسوله.

وأما من فَسَّر بيت المقدس، فقال كعب الأحبار: إن النصارى لما ظهروا على بيت المقدس خربوه فلما بعث الله محمدا ﷺ أنـزل عليه: ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ ) الآية، فليس في الأرض نصراني يدخل بيت المقدس إلا خائفا.

قلت:وهذا لا ينفي أن يكون داخلا في معنى عموم الآية فإن النصارى لما ظلموا بيت المقدس، بامتهان الصخرة التي كانت يصلي إليها اليهود، عوقبوا شرعًا وقَدَرا بالذلة فيه، إلا في أحيان من الدهر امتحن بهم بيت المقدس وكذلك اليهودُ لما عَصَوا الله فيه أيضا أعظم من عصيان النصارى كانت عقوبتهم أعظم والله أعلم.

وفسر هؤلاء الخزي من الدنيا، بخروج المهدي عند السدي، وعكرمة، وفسره قتادة بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون.

والصحيح أن الخزي في الدنيا أعم من ذلك كله، وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة كما قال الإمام أحمد: عن بُسْر بن أرطاة، قال:كان رسول الله ﷺ يدعو: « اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة » وهذا حديث حسن  

(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)  ( 115 )

وهذا - والله أعلم- فيه تسلية للرسول ﷺ وأصحابه

الذين أخرجوا من مكة وفارقوا مسجدهم ومُصَلاهم، وقد كان رسول الله ﷺ يصلي بمكةَ إلى بيت المقدس والكعبةُ بين يديه. فلما قدم المدينة وُجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، ثم صرفه الله إلى الكعبة بعدُ، ولهذا يقول تعالى: ( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)

 

قال أبو عبيد القاسم بن سلام، في كتاب الناسخ والمنسوخ: عن ابن عباس، قال:أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا - والله أعلم- شأنُ القبلة:قال تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) فاستقبل رسول الله ﷺ فصلى نحو بيت المقدس، وترك البيت العتيق، ثم صرفه إلى بيته العتيق ونسخها، فقال: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) .

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال:كان أول ما نسخ من القرآن القبلة. وذلك أن رسول ﷺ لما هاجر إلى المدينة - وكان أهلُها اليهودَ- أمره الله أن يستقبل بيت المقدس. ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله ﷺ بضعة عشر شهرا، وكان رسول الله ﷺ يحب قبلة إبراهيم، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنـزل الله: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) إلى قوله: (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)  فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فأنـزل الله: (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٤٢)،  وقال: ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ )

وقال عكرمة عن ابن عباس: ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) قال: قبلة الله أينما توجهت شرقًا أو غربًا. وقال مجاهد: ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) قال: أي قبلة الله حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها: الكعبة.

وقال ابن جرير:وقال آخرون:بل أنـزل الله هذه الآية قبل أن يفرض التوجه إلى الكعبة، وإنما أنـزلها تعالى ليعلم نبيه ﷺ وأصحابه أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة، حيث شاؤوا من نواحي المشرق والمغرب؛ لأنهم لا يوجهون وجوههم وجهًا من ذلك وناحية إلا كان جل ثناؤه في ذلك الوجه وتلك الناحية؛ لأن له تعالى المشارق والمغارب، وأنه لا يخلو منه مكان، كما قال تعالى: (وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ) (المجادلة٧) قالوا: ثم نسخ ذلك بالفرض الذي فَرَضَ عليهم التوجُّهَ إلى المسجد الحرام.

مسالة عقدية: وفي قول ابن جرير: « وإنه تعالى لا يخلو منه مكان » :إن أراد علمه تعالى فصحيح؛ فإن علمه تعالى محيط بجميع المعلومات، وأما ذاته تعالى فلا تكون محصورة في شيء من خلقه، ولا مكان يحده سبحانه تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.

سبب نزول هذه الآية: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ):

1-قال ابن جرير: بل نـزلت هذه الآية على رسول الله ﷺ إذنا من الله أن يصلي التطوع حيث توجه من شرق أو غرب، في مسيره في سفره، وفي حال شدة الخوف.

وعن ابن عمر: أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته. ويذكر أن رسول الله ﷺ كان يفعل ذلك، ويتأول هذه الآية: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) (رواه مسلم والترمذي والنسائي )

وفي صحيح البخاري من حديث نافع، عن ابن عمر: أنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها. ثم قال: فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم، وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها. قال نافع:ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي ﷺ .

2-قال ابن جرير:وقال آخرون: بل نـزلت هذه الآية في قوم عُمِّيتْ عليهم القبلة، فلم يعرفوا شَطرها، فصلوا على أنحاء مختلفة، فقال الله لي المشارق والمغارب فأين وليتم وجوهكم فهنالك وجهي؛ قبلتي، وهو قبلتكم فيعلمكم بذلك أن صلاتكم ماضية.

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه، قال:كنا مع رسول الله ﷺ في ليلة سوداء مظلمة، فنـزلنا منـزلا فجعل الرَّجل يأخذُ الأحجارَ فيعمل مسجدا يصلي فيه. فلما  أصبحنا إذا نحن قد صلينا على غير القبلة. فقلنا: يا رسول الله، لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة؟ فأنـزل الله تعالى: ( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) الآية. وقال الترمذي:هذا حديث حسن. ليس إسناده بذاك، وقال عاصم انه ضعيف

ومثله ما قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسير هذه الآية: بسنده عن عطاء، عن جابر، قال:بَعَث رسولُ اللهﷺ سَرِيَّة كنت فيها، فأصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة، فقالت طائفة منا:قد عرفنا القبلة، هي هاهنا قبل السماك . فصلُّوا وخطُّوا خطوطًا، فلما أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة. فلما قفلنا من سفرنا سألنا النبي ﷺ، فسكت، وأنـزل الله تعالى: ( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ )

وقال الدارقطني: عن عطاء، عن جابر، قال:كنا مع رسول الله ﷺ في مسير فأصابنا غيم، فتحيرنا فاختلفنا في القبلة، فصلى كل منا على حدة، وجعل أحدنا يخط بين يديه لنعلم أمكنتنا، فذكرنا ذلك للنبي ﷺ فلم يأمرنا بالإعادة، وقال: « قد أجزأت صلاتكم »

هل يعيد الصلاة من صلى لغير القبلة جاهلا :

أولا: الواجب على المسلم عند حضور الصلاة وهو في السفر أن يتحرى القبلة، ويجتهد في معرفة أماراتها وعلاماتها، فإذا اجتهد وصلى، ثم بان له أنه أخطأ القبلة بعد الصلاة؛ فلا إعادة عليه؛ لأن الله يقول: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) (التغابن١٦) ، ويقول: ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) ( سورة البقرة٢٨٦) ، يقول سبحانه: ( رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) ( سورة البقرة٢٨٦) . وقول رسول اللهﷺ: « قد أجزأت صلاتكم »

أما إن كان في بلد مأهول فيه أناس، فالواجب عليه يسأل العارفين بالقبلة، ولا يجتهد ما دام في البلد بين الناس، وعليه إذا أخطأ أن يعيد الفريضة.

أما في السفر فإنه إذا اجتهد وتحرى وصلى، ولا يجد أناس مقيمين يسألهم ، ثم بان له بعد الصلاة أنه أخطأ القبلة؛  فإن صلاته صحيحة.

 فإن بان له الأمر في أثناء الصلاة؛ استدار إلى القبلة حسب ما ظهر له بعد ذلك، ولم يعد أولها. وإعادة الصلاة لمن تبين له خطؤه ففيها قولان للعلماء، ونحن أوردنا هذه دلائل على عدم القضاء، والله أعلم.

قال ابن جرير:وقال آخرون:بل نـزلت هذه الآية في سبب النجاشي، كما حدثنا محمد بن بشار، حدثنا هشام بن معاذ حدثني أبي، عن قتادة:أن النبي ﷺ قال: « إن أخا لكم قد مات فصلوا عليه» . قالوا: نصلي على رجل ليس بمسلم؟ قال:فنـزلت: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ) (آل عمران١٩٩)،  قال قتادة: فقالوا: فإنه كان لا يصلي إلى القبلة. فأنـزل الله: ( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) .وهذا غريب والله أعلم.

وقد قيل:إنه كان يصلي إلى بيت المقدس قبل أن يبلغه الناسخ إلى الكعبة، كما حكاه القرطبي عن قتادة.

 

الصلاة على الغائب:

وذكر القرطبي أنه لما مات النجاشي صلى عليه رسول الله ﷺ  فأخذ بذلك من ذهب إلى الصلاة على الغائب.

 قال القرطبي:وهذا خاص بالنجاشي عند أصحابنا من ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه عليه السلام، شاهده حين صلى عليه طويت له الأرض.

الثاني: أنه لما لم يكن عنده من يصلي عليه صلى عليه، واختاره ابن العربي.

الثالث:أنه ﷺ إنما صلى عليه ليكون ذلك كالتأليف لبقية الملوك، والله أعلم.

 

 

كيف يتحرى القبلة من غير أهل مكة:

وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسير هذه الآية من حديث أبي معشر، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال:قال رسول الله ﷺ: « ما بين المشرق والمغرب قبْلَة لأهل المدينة وأهل الشام وأهل العراق »

وقد أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي معشر، « ما بين المشرق والمغرب قبلة» (الترمذي:هذا حديث حسن صحيح).وقد روي عن غير واحد من الصحابة:ما بين المشرق والمغرب قبلة - منهم عمر بن الخطاب، وعلي، وابن عباس.

تعيين القبلة لمن ليس عنده من يسأل:

من حديث رسول الله ﷺ: "ما بَيْن المَشْرِق والمَغْرِب قِبْلة" هذا بيان منه ﷺ أن ما بين جِهة المَشرق والمغرب قِبْلة للمصلين، وهذا خطاب لأهل المدينة ومن وافقهم في الجهة؛ لأنهم يقعون شمالي الكعبة، فالقبلة بالنِّسبة لأهل المدينة ومن حاذاهم من أهل الشام، وأهل جهة الشمال يستقبلون ما بين المشرق والمغرب، يعني تكون وجهتهم إلى الجنوب حيث الكعبة.

 أما أهل اليمن وما والاها من جهة الجنوب يتوجهون إلى الشمال بين المشرق والمغرب.

 أما أهل المشرق والمغرب فتكون القبلة بالنِّسبة لهم ما بين الشمال والجنوب؛ لأن الجِهات الأصلية أربع: الشمال، الجنوب، الشرق، الغرب، فإذا كان المصلَّي عن الكعبة شرقاً أو غرباً كانت قبلته ما بين الشمال والجنوب، وإذا كان عن الكعبة شمالاً أو جنوباً كانت قبلته ما بين المشرق والمغرب .

وهذا من تيسير الله تعالى على عباده؛ لأنه لو طلب منهم أن يستقبلوا عين الكعبة مطلقا ما صحَّت صلاة أحد، فالانحراف اليسير عن القبلة في حَق بَعُد عنها ولم يَرها غير مؤثر ما لم يَستدبر الكعبة أو يَجعلها على جَنْبه فلا تصح في هذه الحال

وقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) يسع خلقه كلهم بالكفاية، والإفضال والجود .

وأما قوله: (عَلِيمٌ) فإنه يعني: عليم بأعمالهم، ما يغيب عنه منها شيء، ولا يعزب عن علمه، بل هو بجميعها عليم.

وقوله تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)  (١١٧)

اشتملت هذه الآية الكريمة، والتي تليها على الرد على النصارى،  ومن أشبههم من اليهود ومن مشركي العرب، ممن جعل الملائكة بنات الله، فأكذب الله جميعهم في دعواهم وقولهم: إن لله ولدا. فقال تعالى: (سُبْحَانَهُ) أي: تعالى وتقدس وتنـزه عن ذلك علوًا كبيرًا (بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) أي:ليس الأمر كما افتروا، وإنما له ملك السماوات والأرض، وهو المتصرف فيهم، وهو خالقهم ورازقهم، ومُقَدِّرهم ومسخرهم، ومسيرهم ومصرفهم، كما يشاء، والجميع عبيد له وملك له، فكيف يكون له ولد منهم، والولد إنما يكون متولدًا من شيئين متناسبين، وهو تبارك وتعالى ليس له نظير، ولا مشارك في عظمته وكبريائه ولا صاحبة له، فكيف يكون له ولد!  كما قال تعالى: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الأنعام١٠١)،  وقال تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا *) (مريم٨٨- ٩١)، وقال تعالى:( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) (سورة الإخلاص).

 

فقرر تعالى في هذه الآيات الكريمة أنه السيد العظيم، الذي لا نظير له ولا شبيه له، وأن جميع الأشياء غيره مخلوقة له مربوبة، فكيف يكون له منها ولد! ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الآية من البقرة: عن ابن عباس، عن النبي ﷺ قال: « قال الله تعالى:كَذَّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إيَّاي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله:لي ولد. فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا » .انفرد به البخاري من هذا الوجه

 

وقال ابن مَرْدُويه بسنده عن أبي هريرة، قال:قال رسول الله ﷺ: « يقول الله عز وجل:كذبني ابن آدم ولم ينبغ له أن يكذبني، وشتمني ولم ينبغ له أن يشتمني، أما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني. وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته . وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا. وأنا الله الأحد الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد »  .

وفي الصحيحين عن رسول الله ﷺ أنه قال: « لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله؛ إنهم يجعلون له ولدا، وهو يرزقهم ويعافيهم » .

وقوله: ( كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) قال ابن أبي حاتم: عن ابن عباس، قال: ( قَانِتينَ ) مصلين.

وقال عكرمة وأبو مالك: ( كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ) مُقرُّون له بالعبودية. وقال سعيد بن جبير: الإخلاص. وقال السدي: له مطيعون يوم القيامة.

وقال خَصيف، عن مجاهد: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) قال:مطيعون، كن إنسانًا فكان، وقال:كن حمارًا ، وكُلْ من هذا وافعل هذا؛ فكان، ومنها أيضا : طاعة الكافر في سجود ظله وهو كاره.

وهذا القول عن مجاهد - و اختار ابن جرير أن القنوت: هو الطاعة والاستكانة إلى الله، وذلك شرعي وقَدري، كما قال تعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ) (الرعد١٥)

وقوله تعالى: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) أي:خالقهما على غير مثال سبق، قال مجاهد والسدي:وهو مقتضى اللغة، ومنه يقال للشيء المحدث: بدعة. كما جاء في الصحيح لمسلم: «فإن كل محدثة بدعة [ وكل بدعة ضلالة ]» .

والبدعة على قسمين: تارة تكون بدعة شرعية، كقوله: فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. وتارة تكون بدعة لغوية، كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن جمعه إياهم على صلاة التراويح واستمرارهم: نعْمَتْ البدعةُ هذه.

وقال ابن جرير:وبديع السماوات والأرض:مبدعهما. وإنما هو مُفْعِل فصرف إلى فَعيل، كما صرف المؤلم إلى الأليم، والمسمع إلى السميع. ومعنى المبدع: المنشئ والمحدث ما لم يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحد.

قال:ولذلك سمي المبتدع في الدين مبتدعًا؛ لإحداثه فيه ما لم يسبق إليه غيره، وكذلك كل محدث فعلا أو قولا لم يتقدمه فيه متقدم، فإن العرب تسميه مبتدعا.

قال ابن جرير:فمعنى الكلام:فسبحان الله أنى يكون لله ولد، وهو مالك ما في السماوات والأرض، تشهد له جميعها بدلالتها عليه بالوَحْدانيّة، وتقر له بالطاعة، وهو بارئها وخالقها وموجدها من غير أصل ولا مثال احتذاها عليه. وهذا إعلام من الله عباده أن ممن يشهد له بذلك المسيح، الذي أضافوا إلى الله بُنُوَّته، وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السماوات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال، هو الذي ابتدع المسيح عيسى من غير والد بقدرته.

 

وقوله تعالى: (وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) يبين بذلك تعالى كمال قدرته وعظيم سلطانه، وأنه إذا قَدَّر أمرًا وأراد كونه، فإنما يقول له:كن. أي:مرة واحدة، فيكون، أي:فيوجد على وفق ما أراد، كما قال تعالى: )إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ( ) يس٨٢) ، وقال تعالى: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (النحل٤٠)،  وقال تعالى: (وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) (القمر٢٥).

ونبه تعالى بذلك أيضا على أن خلق عيسى بكلمة:كن، فكان كما أمره الله، قال تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران٥٩) .

وقوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)  (١١٨)

قال محمد بن إسحاق:حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال:قال رافع بن حُرَيملة لرسول الله ﷺ: يا محمد، إن كنت رسولا من الله كما تقول، فقل لله فَلْيُكَلمْنا حتى نسمع كلامه. فأنـزل الله في ذلك من قوله: ( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ)

وقال مجاهد  في قوله: ( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ) قال:النصارى تقوله.وهو اختيار ابن جرير، قال:لأن السياق فيهم. وفي ذلك نظر، فقد فسرت (الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) في الآية السابقة بأنهم مشركي العرب، وهنا هي كذلك. وعليه حكى القرطبي ( لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ ) أي: لو يخاطبنا بنبوتك يا محمد، قلت: وظاهر السياق أعم، والدليل في تكملة الآية: (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ).

وقال قتادة، والسدي وغيرهم، في تفسير هذه الآية:هذا قول كفار العرب ( كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ) قالوا: هم اليهود والنصارى. ويؤيد هذا القول، وأن القائلين ذلك هم مشركو العرب، قوله تعالى: (وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ) (الأنعام١٢٤) .

وقوله تعالى: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا) (الإسراء:٩٠-٩٣)، وقوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا )(الفرقان٢١)، وقوله: (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً ) (المدثر٥٢) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على كفر مشركي العرب وعتوهم وعنادهم وسؤالهم ما لا حاجة لهم به، إنما هو الكفر والمعاندة، كما قال من قبلهم من الأمم الخالية من أهل الكتابين وغيرهم، كما قال تعالى: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ) ( النساء١٥٣) وقال تعالى: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ) (البقرة٥٥) .

وقوله: ( تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ) أي:أشبهت قُلُوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد والعتو، كما قال تعالى: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) (الذاريات٥٢-٥٣)

وقوله: (قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي:قد وضحنا الدلالات على صدق الرسل بما لا يحتاج معها إلى سؤال آخر وزيادة أخرى، لمن أيقن وصدق واتبع الرسل، وفهم ما جاؤوا به عن الله تبارك وتعالى. وأما من ختم الله على قلبه وجعل على بصره غشاوة فأولئك الذين قال الله تعالى فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ)[ يونس ٩٦-٩٧)

قوله تعال: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) ( ١١٩)

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا عبد الرحمن بن صالح، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله الفزاري عن شيبان النحوي، أخبرني قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي ﷺ قال: « أنـزلت علي: ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا )» قال: « بشيرًا بالجنة، ونذيرًا من النار »

وقوله: ( وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ) قراءة أكثرهم ( وَلا تُسْأَلُ ) بضم التاء على الخبر. وفي قراءة أبي بن كعب: « وما تسأل »

أخبرنا الثوري، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي، قال:قال رسول الله ﷺ: «ليت شعري ما فعل أبواي، ليت شعري ما فعل أبواي، ليت شعري ما فعل أبواي؟ » . فنـزلت: ( وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ) فما ذكرهما حتى توفاه الله، عز وجل.

 

ثم قال ابن جرير  عن داود بن أبي عاصم:أن النبي ﷺ قال ذات يوم: « أين أبواي؟ » . فنـزل: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ) .

وقوله تعالى:  وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ( ١٢٠ ) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون ) (١٢١)

قال ابن جرير:يعني بقوله جل ثناؤه: ( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) وليست اليهود - يا محمد - ولا النصارى براضية عنك أبدًا، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق.

وقوله تعالى: ( قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ) أي:قل يا محمد:إن هدى الله الذي بعثني به هو الهدى، يعني:هو الدين المستقيم الصحيح الكامل الشامل.

قال قتادة في قوله: ( قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ) قال:خصومة عَلَّمها الله محمدًا ﷺ وأصحابه، يخاصمون بها أهل الضلالة. قال قتادة:وبلغنا أن رسول الله ﷺ كان يقول: « لا تزال طائفة من أمتي يقتتلون على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله ».( مُخَرَّج في الصحيح عن عبد الله بن عمرو .)

( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) فيه تهديد ووعيد شديد للأمة عن اتباع طرائق اليهود والنصارى، بعد ما عَلِموا من القرآن والسنة، عياذًا بالله من ذلك، فإن الخطاب مع الرسول، والأمر لأمته.

الكفر ملة واحدة:

وقد استدل كثير من الفقهاء بقوله: (حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) حيث أفرد الملة على أن الكفر كله ملة واحدة ، كقوله تعالى:( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) ( الكافرون٦ ).

 فعلى هذا لا يتوارث المسلمون والكفار، وكل منهم يرث قرينه سواء كان من أهل دينه أم لا؛ لأنهم كلهم ملة واحدة، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في رواية عنه. وقال في الرواية الأخرى كقول مالك: إنه لا يتوارث أهل ملتين شتى، كما جاء في الحديث، والله أعلم