Friday 31 July 2020

تفسير وربط للآيات وبيان المتشابهات- تفسير سورة المدثر ج2 – الوليد بن المغيرة قال كلمة الحق ثم تقهقر

 

تفسير سورة المدثر ج2 – الوليد بن المغيرة قال كلمة الحق ثم تقهقر عنها

 

التفسير:

 

قوله تعالى: { فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَٰلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } قال ابن عباس ومجاهد: { النَّاقُورِ } الصور،  إذا نفخ في الصور، وهذه النفخة الثانية لأنه وصف بعدها أهوال يوم القيامة،  والناقور : فاعول من النقر، كأنه الذي من شأنه أن ينقر فيه للتصويت، والنقر في كلام العرب: الصوت؛ والصور الذي ينفخ فيه: وهو كهيئة القرن، وفي الحديث: (كيف أَنعَمُ وَصاحِبُ القَرنِ قد التقَمَ القَرنَ، وحَنى جَبهَتَه يَسمَعُ مَتى يُؤمَرُ، فيَنفُخُ؟! فقال أَصحابُ محمدٍ: كيف نَقولُ؟ قال: قولوا: حَسبُنا اللهُ، ونِعمَ الوَكيلُ، على اللهِ توَكَّلْنا.) "أخرجه أحمد وابن أبي حاتم""

 

 وقوله تعالى: { فَذَٰلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ } أي شديد، وهو يوم القيامة، {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} أي غير سهل عليهم، كما قال تعالى: { مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ ۖ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ }.

من أحداث وأهوال يوم القيامة:

إذا قامت الساعة فإنها تُستتبع بعدة أحداث ابتداءً من النَّفخ في الصور وموت جميع الخلائق إلى أن يعرف كل امرئٍ منزلته فإما إلى الجنة لمن صلُح عمله، أو إلى النار لمن خاب عمله، وفيما يأتي بيان أبرز أحداث يوم القيامة

 

يوم القيامة يوم عظيم، وأهواله عِظام شداد، وقد دلّ على عظمتها وصف الله تعالى لها بالعظيمة والثقيلة وغير ذلك من الأوصاف المخيفة، فقال الله تعالى: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ* يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (المطففين 4-6)، ووصف الله تعالى فرار الناس من بعضهم من شدة الأهوال، واستعداد الكفار لبذل ودفع أيّ شيء مقابل النجاة من العذاب، أما أهوال يوم القيامة فمنها: قبض الله تعالى للأرض وطيّه للسماء: قال الله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (الانبياء 104])،  دوران السماء وانشقاقها وانفطارها؛ قال تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} (الطور 9)، وقال أيضًا: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ}.(الانفطار 1) ، ومنها تكور الشمس وتناثر النجوم، وخسوف القمر: قال تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ* وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} (التكوير 1-2)، ومنها دكُّ الأرض، وتسيير الجبال ونسفها: قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ* وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً *فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}.(الحاقة 13-15) ، ومنها تفجير البحار وتسجيرها واشتعال النار؛  قال تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} (التكوير6)، ومنها تبديل السماء والأرض؛ قال الله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (إبراهيم 48)

بعد أن يبعث الله الناس من قبورهم يذهبون جميعهم سَوقًا باتجاه المحشر في انتظار العرض على الله حتى يطول انتظارهم، قال تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (المعارج 4)  إلى أن يأتي نبي الله محمد صاحب الشفاعة العظمى(الوسيلة والفضيلة) فيتشفَّع عند الله في بدء الحساب وتعجيله فيتمُّ له ذلك. شدة الحرارة وارتفاعها في الموقف: وصفها رسول الله :  {تُدْنَى الشَّمْسُ يَومَ القِيامَةِ مِنَ الخَلْقِ، حتَّى تَكُونَ منهمْ كَمِقْدارِ مِيلٍ. قالَ سُلَيْمُ بنُ عامِرٍ: فَواللَّهِ ما أدْرِي ما يَعْنِي بالمِيلِ؟ أمَسافَةَ الأرْضِ، أمِ المِيلَ الذي تُكْتَحَلُ به العَيْنُ. قالَ: فَيَكونُ النَّاسُ علَى قَدْرِ أعْمالِهِمْ في العَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَن يَكونُ إلى كَعْبَيْهِ، ومِنْهُمْ مَن يَكونُ إلى رُكْبَتَيْهِ، ومِنْهُمْ مَن يَكونُ إلى حَقْوَيْهِ، ومِنْهُمْ مَن يُلْجِمُهُ العَرَقُ إلْجامًا. قالَ: وأَشارَ رَسولُ اللهِ بيَدِهِ إلى فِيهِ.} مسلم

 

 تُعرض أعمال العباد الناجين على الله تعالى، ثم يجري الحساب للخلائق الباقين كلهم من الله تعالى، ثم تتطاير صحف الناس جميعًا فيأخذ أهل الصلاح كتبهم بأيمانهم، ويأخذ أهل الفجور كتبهم بشمائلهم. بعد أن يقرأ كل إنسانٍ كتابه يجري حسابٌ آخر للخلائق لدفع الأعذار عن الظالمين، بعد ذلك يأتي دور وزن أعمال العباد من خلال الميزان، ثم يضرب الله على المكان الظلمة فيمشي كلٌ بنوره وبنور أعماله الصالحة (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ) ( الحديد 13)، حتى يصلون إلى الصراط فيجتازه أهل الجنة، ويتساقط المنافقون والكافرون في نار جهنم، وأول من يكون على الصراط محمد من تبعه. نسأل الله العافية والنجاة في ذلك اليوم.

عودة للتفسير:

 

قوله تعالى {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا } أي دعني؛ وهي كلمة وعيد وتهديد. { وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} أي دعني والذي خلقته وحيدا؛ فـ { وحيدا} على هذا حال من ضمير المفعول المحذوف، أي خلقته وحده، لا مال له ولا ولد، ثم أعطيته بعد ذلك ما أعطيته. والمفسرون على أنه الوليد بن المغيرة المخزومي، وإن كان من الناس تخلقوا مثل خلقه. وإنما خص بالذكر لاختصاصه بكفر النعمة وإيذاء الرسول عليه السلام، وكان يسمى الوحيد في قومه. قال ابن عباس: كان الوليد يقول : أنا الوحيد بن الوحيد، ليس لي في العرب نظير، ولا لأبي المغيرة نظير، وكان يسمى الوحيد؛ فقال الله تعالى { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا } بزعمه {وَحِيدًا} لا أن الله تعالى صدقه بأنه وحيد.

وقال قوم: إن قوله تعالى {وَحِيدًا} يرجع إلى الرب تعالى على معنيين:

 أحدهما : ذرني وحدي معه فأنا أجزيك في الانتقام منه عن كل منتقم.

والثاني : أني أنفردت بخلقه ولم يشركني فيه أحد، فأنا أهلكه ولا أحتاج إلى ناصر في إهلاكه؛ {وَحِيدًا} على هذا حال من ضمير الفاعل، وهو التاء في {خَلَقْتُ} والأول قول مجاهد، أي خلقته وحيدا في بطن أمه لا مال له ولا ولد، فأنعمت عليه فكفر؛ فقوله {وَحِيدًا} على هذا يرجع إلى الوليد، أي لم يكن له شيء فملكته.

وقيل : أراد بذلك ليدله على أنه يبعث وحيدا كما خلق وحيدا.

وقيل : الوحيد هو الدعي إلى القوم الذي لا يعرف أبوه، وكان الوليد معروفا بأنه دعي، وهو كما جاء أنه هو المقصود في قوله تعالى {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ} [القلم 13]، لأنه ولد الزنى ملحق في النسب بالقوم. وكان الوليد دعيا في قريش ليس من سنخهم؛ ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة من مولده.

قوله تعالى {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا} أي خولته وأعطيته مالا ممدودا، وهو ما كان للوليد بين مكة والطائف من الإبل والحجور والنعم والجنان والعبيد والجواري، كذا كان ابن عباس يقول : وقال مجاهد : غلة ألف دينار، قال ابن عباس. أربعة آلاف دينار. الثوري: ألف ألف دينار. مقاتل : كان له بستان لا ينقطع خيره شتاء ولا صيفا. وقال النعمان بن سالم : أرضا يزرع فيها. والأظهر أنه إشارة إلى ما لا ينقطع رزقه، بل يتوالى كالزرع والضرع والتجارة. قوله تعالى {وَبَنِينَ شُهُودًا} أي حضورا لا يغيبون عنه في تصرف. قيل: وكانوا عشرة. أو  اثنا عشر؛ قال الضحاك: سبعة ولدوا بمكة وخمسة ولدوا بالطائف. وهو الأشهر،  مقاتل : كانوا سبعة كلهم رجال، اسلم منهم ثلاثة : خالد وهشام والوليد بن الوليد. قال : فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك. وقيل : شهودا، أي قد صاروا مثله في شهود ما كان يشهده، والقيام بما كان يباشره. أي حاضرين مكة لا يظعنون عنه في تجارة ولا يغيبون.

قوله تعالى: {وَمَهَدْتُ لَهُ تَمْهيدًا} أي بسطت له في العيش بسطا، حتى أقام ببلدته مطمئنا مترفها يرجع إلى رأيه. والتمهيد عند العرب : التوطئة والتهيئة؛ ومنه مهد الصبي. وقال ابن عباس {وَمَهَدْتُ لَهُ تَمْهيدًا} أي وسعت له ما بين اليمن والشام وقاله مجاهد. وعن مجاهد: أنه المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش. قوله تعالى { ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} أي ثم إن الوليد يطمع بعد هذا كله أن أزيده في المال والولد. وقال الحسن وغيره : أي ثم يطمع أن أدخله الجنة، وكان الوليد يقول : إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لي؛ فقال الله تعالى ردا عليه وتكذيبا له { كلا} أي لست أزيده، فلم يزل يرى النقصان في ماله وولده حتى هلك.

معنى كلمة {ثُمَّ} هنا:

 {ثُمَّ} في قوله تعالى { ثُمَّ يَطْمَعُ} ليست بثم التي للنسق ولكنها تعجيب، وهي كقوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام  1] وذلك كما تقول : أعطيتك ثم أنت تجفوني؛ كالمتعجب من ذلك. وقيل يطمع أن أترك ذلك في عقبه؛ وذلك أنه كان يقول: إن محمدا مبتور؛ أي أبتر وينقطع ذكره بموته. وكان يظن أن ما رزق لا ينقطع بموته. وقيل : أي ثم يطمع أن أنصره على كفره. و { كَلَّا} قطع للرجاء عما كان يطمع فيه من الزيادة؛ فيكون متصلا بالكلام الأول. وقيل { كَلَّا} بمعنى حقا ويكون ابتداء {إِنَّهُ} يعني الوليد { كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا} أي معاندا للنبي وما جاء به.

يقال في اللغة:

عاند فهو عنيد مثل جالس فهو جليس؛ قال مجاهد. وعَنِد يعنِد بالكسر أي خالف ورد الحق وهو يعرفه فهو عنيد وعاند. والعاند : البعير الذي يحور عن الطريق ويعدل عن القصد والجمع عند مثل راكع وركع؛

وقال أبو صالح { عَنِيدًا}، معناه مباعدا؛ وقيل جاحدا. أو: معرضا. ابن عباس: جحودا. وقيل : إنه المجاهر بعدوانه. وعن مجاهد أيضا قال : مجانبا للحق معاندا له معرضا عنه. والمعنى كله متقارب.

والعرب تقول: عند الرجل إذا عتا وجاوز قدره. والعنود من الإبل : الذي لا يخالط الإبل، إنما هو في ناحية. ورجل عنود إذا كان يحل وحده لا يخالط الناس.

 والعنيد من التجبر. وعرق عاند : إذا لم يرقأ دمه. وجمع العنيد عند، مثل رغيف ورغف.

قوله تعالى {سَأُرْهِقُهُ } أي سأكلفه. وكان ابن عباس يقول : سألجئه؛ والإرهاق في كلام العرب : أن يحمل الإنسان على الشيء. {صَعُودًا}، الصعود: "الصَّعُودُ جبلٌ مِنْ نارٍ يتَصَعَّدُ فيه الكافِرُ سبعينَ خَريفًا، ثُمَّ يَهْوِي فيه كذلِكَ أبدًا " (رواه أبو سعيد الخدري عن النبي ، وصححه السيوطي في الجامع الصغير)

وروى عطية عن أبي سعيد قال : صخرة في جهنم إذا وضعوا عليها أيديهم ذابت فإذا رفعوها عادت، قال : فيبلغ أعلاها في أربعين سنة يجذب من أمامه بسلاسل ويضرب من خلفه بمقامع، حتى إذا بلغ أعلاها رمى به إلى أسفلها، فذلك دأبه أبدا.

وقال ابن عباس: المعنى سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة له فيه وقيل: إنه تصاعد نفسه للنزع وإن لم يتعقبه موت، ليعذب من داخل جسده كما يعذب من خارجه. وقال: إنما أرهقناه صعوداً لبعده عن الإيمان لأنه : {فَكَّرَ وَقَدَّرَ } أي تروّى ماذا يقول في القرآن حين سئل عن القرآن ففكّر ماذا يختلق من المقال، والعرب تقول : قدرت الشيء إذا هيأته.

قصة الوليد بن المغيرة مع بلاغة القرآن:

روي أنه لما أنزل الله تعال: { حم* تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّـهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } (غافر  1-2]) إلى قوله { إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } سمع الوليد النبي يقرؤها فقال : والله لقد سمعت منه كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وما يقول هذا بشر. فقالت قريش: صبا الوليد لتصبون قريش كلها.

وكان يقال للوليد ريحانة قريش؛  فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه. فمضى إليه حزينا؟ فقال له: مالي أراك حزينا. فقال له: ومالي لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك بها على كبر سنك ويزعمون أنك زيَّنت كلام محمد، وتدخل على ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهما؛ فغضب الوليد وتكبر، وقال : أنا أحتاج إلى كسر محمد وصاحبه، فأنتم تعرفون قدر مالي، واللات والعزى ما بي حاجة إلى ذلك، وإنما أنتم تزعمون أن محمدا مجنون، فهل رأيتموه قط يخنق؟ قالوا : لا والله، قال : وتزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه نطق بشعر قط؟ قالوا : لا والله. قال : فتزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه كذبا قط؟ قالوا : لا والله. قال : فتزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه تكهن قط، ولقد رأينا للكهنة أسجاعا وتخالجا فهل رأيتموه كذلك؟ قالوا : لا والله.

وكان النبي يُسمى الصادق الأمين من كثرة صدقه. فقالت قريش للوليد : فما هو؟ ففكر في نفسه، ثم نظر، ثم عبس، فقال ما هو إلا ساحر! أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟

فذلك قوله تعالى عنه: { إِنَّهُ فَكَّرَ} أي في أمر محمد والقرآن {وَقَدَّرَ} في نفسه ماذا يمكنه أن يقول فيهما. {فَقُتِلَ} أي لعن. وكان بعض أهل التأويل يقول : معناها فقهر وغلب، وكل مذلل مقتل؛ وقال الزهري : عذب؛ وهو من باب الدعاء. { كَيْفَ قَدَّرَ} قال ناس { كَيْفَ} تعجيب؛ كما يقال للرجل تتعجب من صنيعه : كيف فعلت هذا؟ وذلك كقوله { انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا} [الإسراء 48]. {ثُمَّ قُتِلَ} أي لعن لعنا بعد لعن. وقيل : فقتل بضرب من العقوبة، ثم قتل بضرب آخر من العقوبة {كَيْفَ قَدَّرَ} أي على أي حال قدر. {ثُمَّ نَظَرَ} بأي شيء يرد الحق ويدفعه. { ثُمَّ عَبَسَ } أي قطب بين عينيه في وجوه المؤمنين؛ وذلك أنه لما حمل قريشا على ما حملهم عليه من القول في محمد بأنه ساحر، مر على جماعة من المسلمين، فدعوه إلى الإسلام، فعبس في وجوههم.. قيل : عبس وبسر على النبي حين دعاه. قوله تعالى {وَبَسَرَ} أي كلح وجهه وتغير لونه.

في اللغة:

والعبس مخففا مصدر عبس يعبس عبسا وعبوسا : إذا قطب.

والعبس ما يتعلق بأذناب الإبل من أبعارها وأبوالها.

وقيل : إن ظهور العبوس في الوجه بعد المحاورة، وظهور البسور في الوجه قبل المحاورة.

وقال قوم  {وَبَسَرَ} وقف لا يتقدم ولا يتأخر. ]قول أهل اليمن: قد بسر المركب، وأبسر أي وقف وقد أبسرنا. والعرب تقول  أيضا: وجه باسر بيِّن البسور : إذا تغير واسود.

{ ثُمَّ أَدْبَرَ } أي ولى وأعرض ذاهبا إلى أهله، {وَاسْتَكْبَرَ } أي تعظم عن أن يؤمن. وقيل : أدبر عن الإيمان واستكبر حين دعي إليه.  { فَقَالَ إِنْ هَـٰذَا} أي ما هذا الذي أتى به محمد { إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} أي يأثره عن غيره.

والسحر  في اللغة: الخديعة.

وهو حيل يحتال السحرة بها ليخيل للرائي ما يريدونه من غير الحقيقة، وقال قوم : السحر : إظهار الباطل في صورة الحق. والأثره : مصدر قولك : أثرت الحديث آثره إذا ذكرته عن غيرك؛ ومنه قيل : حديث مأثور : أي ينقله خلف عن سلف.   

{ إِنْ هَـٰذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } أي ما هذا إلا كلام المخلوقين، يختدع به القلوب كما تختدع بالسحر، قال السدي : يعنون أنه من قول سيار عبد لبني الحضرمي، كان يجالس النبي، فنسبوه إلى أنه تعلم منه ذلك. وقيل : أراد أنه تلقنه من أهل بابل. وقيل : عن مسيلمة. وقيل : عن عدي الحضرمي الكاهن. وقيل : إنما تلقنه ممن ادعى النبوة قبله، فنسج على منوالهم.

 

ثم قال تعالى: { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ } ؟ وهذا تهويل لأمرها وتفخيم، ثم فسر ذلك بقوله تعالى: {لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ } أي تأكل لحومهم وعروقهم وعصبهم وجلودهم، ثم تبدل غير ذلك وهم في ذلك لا يموتون ولا يحيون. وقوله تعالى: { لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ } قال مجاهد: أي للجلد، تلفح الجلد لفحة فتدعه أسود من الليل، وقال ابن عباس: تحرق بشرة الإنسان، وقوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } أي من مقدمي الزبانية، عظيم خلقهم، غليظ خُلُقهم.

وروى الحافظ البراز عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه في قوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } قال: جاء رجل إلى النبي فقال: يا محمد، غُلب أصحابَك اليوم، فقال: (بأي شيء)؟ قال: سألتهم يهود: هل أعلمكم نبيكم عدة خزنة أهل النار؟ قالوا: لا نعلم حتى نسأل نبينا ، قال رسول اللّه : (أفغلب قوم يسألون عما لا يعلمون فقالوا: لا نعلم، حتى نسأل نبينا ؟ عليَّ بأعداء اللّه، لكنهم قد سألوا نبيهم أن يريهم اللّه جهرة ) فأرسل إليهم فدعاهم، قالوا: يا أبا القاسم كم عدة خزنة أهل النار؟ قال: (هكذا) وطبّق كفيه، ثم طبق كفيه مرتين وعقد واحدة، وقال لأصحابه: (إن سئلتم عن تربة الجنة فهي الدرمك) فلما سألوه فأخبرهم بعدة خزنة أهل النار، قال لهم رسول اللّه : (ما تربة الجنة) فنظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: خبزة يا أبا القاسم، فقال: (الخبز من الدرمك) (رواه البزار وأحمد والترمذي)

قوله تعالى{عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ }أي على سقر تسعه عشر من الملائكة يلقون فيها أهلها. ثم قيل : على جملة النار تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها؛ مالك وثمانية عشر ملكا. ويحتمل أن تكون التسعة عشر نقيبا، ويحتمل أن يكون تسعة عشر ملكا بأعيانهم، وعلى هذا أكثر المفسرين.

قال الثعلبي : ولا ينكر هذا- اي أن مجموع زبانية النار تسعة عشر- فإذا كان ملك واحد يقبض أرواح جميع الخلائق كان أحرى أن يكون تسعة عشر على عذاب بعض الخلائق. وقال ابن جريج : نعت النبي خزنة جهنم في قولهِ تعالَى { عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ } قال : (كأن أعينَهم البرقُ وكأنَّ أفواهَهُم الصَّياصِي يجرُّون شعورَهم لأحدِهِم مثلَ قوَّة الثَّقلَينِ يسوقُ أحدُهم الأمَّةَ وعلى رقبتهِ جبلٌ فيرمي بهمْ في النَّارِ ويرمي بالجبلِ عليهم)( تخريج الكشاف للزيلعي- وقال غريب).

 

وذكر ابن المبارك بسنده عن رجل من بني تميم قال : كنا عند أبي العوام، فقرأ هذه الآية {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } فقال ما تسعة عشر؟ تسعة عشر ألف ملك، أو تسعة عشر ملكا؟ قال: قلت : لا بل تسعة عشر ملكا. فقال: وأنى تعلم ذلك؟ فقلت: لقول الله عز وجل {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} قال: صدقت هم تسعة عشر ملكا، بيد كل ملك منهم مرزبة لها شعبتان، فيضرب الضربة فيهوي بها في النار سبعين ألفا. وعن عمرو بن دينار : كل واحد منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر.

وقال ابن عباس: (بينَ مَنْكِبَيْ كلِّ واحدٍ مسيرةُ كذا وكذا ، وقوة الواحد منهم أن يضرب بالمقمع فيدفع بتلك الضربة سبعين ألف إنسان في قعر جهنم).

قال القرطبي: والصحيح إن شاء الله أن هؤلاء التسعة عشر، هم الرؤساء والنقباء، وأما جملتهم فالعبارة تعجز عنها؛ كما قال الله تعالى {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ۚ} وقد ثبت في صحيح مسلم عن عبدالله بن مسعود قال : قال رسول الله : (يُؤْتَى بجَهَنَّمَ يَومَئذٍ لها سَبْعُونَ ألْفَ زِمامٍ، مع كُلِّ زِمامٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَها.).

 وقال ابن عباس : لما نزل {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمهاتكم! أسمع بن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم تسعة عشر، وأنتم الدهم - أي العدد - والشجعان، فيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم!

وقيل: إن أبا جهل قال أفيعجز كل مائة منكم أن يبطشوا بواحد منهم، ثم تخرجون من النار؟ فنزل قوله تعالى { وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً} أي لم نجعلهم رجالا فتتعاطون مغالبتهم. وقيل: جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنس المعذبين من الجن والإنس، فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرأفة والرقة، ولا يستروحون إليهم؛ ولأنهم أقوم خلق الله بحق الله وبالغضب له، فتؤمن هوادتهم؛ ولأنهم أشد خلق الله بأسا وأقواهم بطشا. {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً} أي بلية. وروي عن ابن عباس من غير وجه قال: إنما ذكرنا عدتهم أنهم تسعة عشر اختباراً منه تعالى للناس، وقيل : إلا عذابا.

قوله تعالى {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا ۙ} أي ليوقن الذين أعطوا التوراة والإنجيل أن عدة خزنة جهنم موافقة لما عندهم؛ قال ابن عباس ، ثم يحتمل أنه يريد الذين آمنوا منهم كعبد الله بن سلام. ويحتمل أنه يريد الكل. ويزداد الذين آمنوا إيمانا بذلك؛ لأنهم كلما صدقوا بما في كتاب الله آمنوا، ثم ازدادوا إيمانا لتصديقهم بعدد خزنة جهنم. {وَلَا يَرْتَابَ} أي ولا يشك {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أي أعطوا الكتاب من قبل {وَالْمُؤْمِنُونَ ۙ} أي المصدقون من أصحاب محمد في أن عدة خزنة جهنم تسعة عشر. {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي في صدورهم شك ونفاق من منافقي أهل المدينة، الذين سيخرجون في مستقبل الزمان بعد الهجرة ولم يكن بمكة نفاق وإنما نجم بالمدينة. {وَالْكَافِرُونَ} أي اليهود والنصارى {مَاذَا أَرَادَ اللَّـهُ بِهَـٰذَا مَثَلًا ۚ} يعني ماذا أراد الله تعالى بذكر بعدد خزنة جهنم.

والمثل الحديث؛ ومنه {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} ( الرعد ٣٥ )، أي حديثها والخبر عنها . فقال أهل الشك والارتياب؛ وهم أهل مكة كان أكثرهم شاكين، وبعضهم قاطعين بالكذب ، فقال تعالى: {كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّـهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ}، { كَذَٰلِكَ} أي كإضلال الله أبا جهل وأصحابه المنكرين لخزنة جهنم { يُضِلُّ اللَّـهُ} أي يخزي ويعمي {مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي} أي ويرشد { من يشاء} كإرشاد أصحاب محمد وقيل {كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّـهُ} عن الجنة { وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ} إليها من يشاء .

{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ۚ} أي وما يدري عدد ملائكة ربك الذين خلقهم لتعذيب أهل النار {إِلَّا هُوَ ۚ} أي إلا الله جل ثناؤه،  وهذا جواب لأبي جهل حين قال : أما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر!  

وجنود ربنا الذين هم من الملائكة أعدادهم لا تحصى، وقد ثبت في حديث الإسراء في صفة البيت المعمور الذي في السماء السابعة: (فإذا هو يدخله في كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم) (أخرجه في الصحيحين). وروى الإمام أحمد، عن أبي ذر قال، قال رسول اللّه : (إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطّت السماء، وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا عليه ملك ساجد، لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولا تلذذتم بالنساء على الفرشات، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى اللّه تعالى) فقال أبو ذر: واللّه لوددت أني شجرة تعضد (أخرجه أحمد والترمذي وقال الترمذي: حسن غريب).

 وعن جابر بن عبد اللّه قال، قال رسول اللّه (ما في السَّماواتِ السَّبعِ موضعُ قدمٍ ولا شِبْرٍ ولا كفٍّ إلَّا وفيه مَلَكٌ قائمٌ ومَلَكٌ راكعٌ أو مَلَكٌ ساجدٌ فإذا كان يومُ القيامةِ قالوا جميعًا سبحانَك ما عبَدْنَاك حقَّ عبادتِك إلَّا أنَّا لم نُشرِكْ بك شيئًا) (أخرجه الحافظ الطبراني).

قوله تعالى {وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ} يعني الدلائل والحجج والقرآن. وقيل {وما هي} أي وما هذه النار التي هي سقر {إِلَّا ذِكْرَىٰ} أي عظة {للبَشَر} أي للخلق.

وقيل: نار الدنيا تذكرة لنار الآخرة.، كما روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله ﷺ، قال: "نارُكمْ هذه جزءٌ من سبعينَ جُزءًا من نارِ جهنَّمَ ، لِكلِّ جُزءٌ مِنْها حَرُّها" ( صححه للألباني- في صحيح الجامع)  قال الزجاج. وقيل: أي ما هذه العدة {وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ } أي ليتذكروا ويعلموا كمال قدرة الله تعالى،  أي النار التي وصفت ما هي { إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ }.

 

اللهم أجرنا من عذاب النارن وأدخلنا الجنة مع الأبرار.