Thursday 30 September 2021

تفسير للآيات ، وبيان المتشابهات- سورة التين خلق الإنسان في أحسن تقويم

   
  

 

التسمية :

 

يُقَالُ ‏لهَا ‏‏ ‏سُورَةُ (‏التينِ) ‏‏ ‏بِدُونِ ‏الوَاوِ .

ما ورد فيها من الحديث:

عن البراء بن عازب:" سَمِعْتُ النبيَّ ﷺ يَقْرَأُ في العِشَاءِ: والتِّينِ والزَّيْتُونِ فَما سَمِعْتُ أحَدًا أحْسَنَ صَوْتًا أوْ قِرَاءَةً منه. ". (أخرجه الجماعة في كتبهم، اللفظ للبخاري)

 

التعريف بالسورة :

 

-سورة مكية .- من المفصل- عدد آياتها  ٨ – ترتيبها في المصحف الخامسة والتسعون- نزلت بعد سورة البروج- بدأت بأسلوب القسم: {والتِّينِ والزَّيْتُونِ}، ورد فيها أربع أقسام.

 

محور مواضيع السورة :

يقسم الله تعالى على تكريمه لجنس الإنسان، و أنه خلقه على أحسن صورة قويم الخلق سليم الفطرة، ثم ترك له أن  يختار ا، ثم إن كل سيلقى جزاء عمله.

التفسير:

 

بدأت السورة بأربعة أقسام، لكل منها له دلالة،  قوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} اختلف المفسرون هاهنا على أقوال كثيرة فقيل: المراد بالتين مسجد دمشق، وقيل:الجبل الذي عندها. وقال القرطبي:هو مسجد أصحاب الكهف

 وقيل: المقصود نفس نبات التين ذو المنافع الكثيرة، والتي تجلت حديثا أكثر.

وهو قول التابعي مجاهد: هو تينكم هذا.

{وَالزَّيْتُونِ } قال كعب الأحبار، وقتادة، وابن زيد، وغيرهم:هو مسجد بيت المقدس.

وقال مجاهد، وعكرمة:هو هذا الزيتون الذي تعصرون.

{وَطُورِ سِينِينَ} قال كعب الأحبار وغير واحد:هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى.

{وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ} يعني:مكة. قاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والحسن،ولا خلاف في ذلك.

وقال بعض الأئمة: وهذه مَحَالٌّ ثلاثة، بعث الله في كل واحد منها نبيًا مرسلا من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار.

فالأول:محلة التين والزيتون، وهي بيت المقدس التي بعث الله فيها عيسى ابن مريم.

والثاني:طور سينين، وهو طور سيناء الذي كلم الله عليه موسى بن عمران.

والثالث:مكة، وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمنا، وهو الذي أرسل فيه محمدا ﷺ

قال الإمام السعدي رحمه الله: (َالتِّينِ) هو التين المعروف، وكذلك (الزَّيْتُونَ) أقسم بهاتين الشجرتين، لكثرة منافع شجرهما وثمرهما، ولأن سلطانهما في أرض الشام، محل نبوة عيسى ابن مريم عليه السلام.

{وَطُورِ سِينِينَ}  أي: طور سيناء، محل نبوة موسى صلى الله عليه وسلم.

{وَهَذَا الْبَلَدِ الأمِينِ} وهي: مكة المكرمة، محل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

 فأقسم تعالى بهذه المواضع المقدسة، التي اختارها وابتعث منها أفضل النبوات وأشرفها.

ولهذا أقسم بالأشرف، ثم الأشرف منه، ثم بالأشرف منهما. فالترتيب في السورة جاء بحسب شرف الرسائل لا بحسب ترتيبها الزمني في النزول. وهذا يفسر لماذا قدم تعالى ذكر نبوة عيسى عليه السلام عن موسى عليهما السلام.

أين يقع جبل الطور الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام:

وقد اختلف الناس في موقع هذا الجبل حيث إنّ هناك جبليين اسمهما الطور، يقع أحدهما في فلسطين والآخر في مصر، وفي كتب التفسير موجود  هذا الخلاف بدون حسم أكيد.

 

وقوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} هذا هو المقسم عليه، وهو أنه تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، واختلف على المقصود منها،

القول الأول: أنه أحسن خلقة وذلك باستواء خلقه واستقامته وحسن تصويره واعتدال هيئته، سَويّ الأعضاء حسنها.

ولزم من هذا القول أن يكون المراد بأسفل سافلين ما يكون الإنسان فيه حال تنكيسه في الخلق بعد كبر سنه كما قال تعالى: {وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ } ( يس ٦٨)‏

وقال بعضهم: { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أي:إلى أرذل العمر. رُوي هذا عن ابن عباس، وعكرمة - حتى قال عكرمة:من جمع القرآن لم يُرَدّ إلى أرذل العمر. واختار ذلك ابن جرير. ولو كان هذا هو المراد لما حَسُن استثناء المؤمنين من ذلك؛ لأن الهَرَم قد يصيبُ بعضهم.

ويرد عليه: إن اللغة لا تحتمله فلا يطلق أسفل سافلين على أرذل العمر لا في لغة ولا عرف وإنما أسفل سافلين هو سجين الذي هو مكان الكفار كما أن عليين مكان الأبرار، وجاء هذا مرارا في القرآن والسنة معبرا عنه بعبارة: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ } (النساء ١٤٥)، وقال تعالى:{ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ } ( المطففين٧)

الثاني: أن هذا القول يرده الاستثناء بعده ‏ {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}  من وجهين:

الأول: أن التنكيس في الخلق يشمل المؤمنين وغيرهم لأنها طبيعة الحياة، فلا معنى حينها للاستثناء ويصبح الكلام خطأ.

الثاني: انعدام المناسبة بين المقسم عليه وبين القسم، فما مناسبة الحديث عن التنكيس في الخلق بعدها؟ لا يوجد مناسبة.

فمن هنا كان هذا القول غاية في البعد

التفسير الثاني لجواب القسم: أن المراد بأحسن تقويم هو الفطرة واختار هذا القول الطاهر بن عاشور رحمه الله، وأن أسفل سافلين هو تخلي الإنسان عن فطرته وارتكاسه مع هواه حيث ينحدر إلى مستوى أقل من مستوى البهائم كما هو مشاهد، ويتم انحدارة في الآخرة حتى يتخلف في دركات النار.

ويكون المعنى: لقد خلقنا الإنسان ووضعنا فيه نوازع الشر، وخلقناه في أحسن نظام لتقويم ذلك الشر الذي زرعنا فيه بعض نوازعه، بالفطرة السليمة، فمن نكص رددناه إلى النار بسبب انحرافه عن الفطرة وإيثاره الغي على الرشد والكفر على الإيمان.

 وهذا القول مناسب للاستثناء الذي بعده، ويناسب الأقسام على نبوات أولي العزم من الرسل الذي جاءوا بالشرائع الثلاثة التي ما زال لها متابعون.

{ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أي: إلى النار. قاله مجاهد، وغيره. ثم بعد هذا الحسن والنضارة مصيره إلى النار إن لم يطع الله ويتبع الرسل؛ ولهذا قال: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}

 

وقوله: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي:غير مقطوع، بل هو دائم، لذات متوافرة، وأفراح متواترة، ونعم متكاثرة، في أبد لا يزول، ونعيم لا يحول، أكلها دائم وظلها.

ثم قال: {فَمَا يُكَذِّبُكَ} يعني:يا ابن آدم {بَعْدُ بِالدِّينِ} ؟ أي:بالجزاء في المعاد وقد علمت البدأة، وعرفت أن من قدر على البدأة، فهو قادر على الرجعة بطريق الأولى، فأي شيء يحملك على التكذيب بالمعاد وقد عرفت هذا؟

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن سنان، بسنده عن منصور قال:قلت لمجاهد: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} عنى به النبي ﷺ؟ قال: مَعَاذ الله! عنى به الإنسان. وهكذا قال عكرمة وغيره.

وقوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}  أي:أما هو أحكم الحاكمين، الذي لا يجور ولا يظلم أحدًا، ومن عَدْله أن يقيم القيامة فينصف المظلوم في الدنيا ممن ظلمه.

أفمن الحكمة أن يخلق الإنسان بهذه القوة، وهذه الكثرة، وهذه الكثافة، وهذا الامتداد التاريخي والجغرافي على الأرض، ثم يخلقون ويتركون فوضى، يذهب الظالم والمظلوم، والمخطي والمصيب، والمؤمن والكافر، والبر والفاجر، وتأكلهم التراب والدود، ولا يبعث، ولا يسأل، ولا يحاسب، ولا يجازى؟ هل يتوافق هذا مع الحكمة؟ لا؛ ولهذا قال: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين.

وقد يكون قوله سبحانه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}  يعني: أن يكون الاستفهام في أنه أي: يا رسول الله يا محمد! ما الذي يجعلهم يكذبونك بعد هذا؟! والمعنى متقارب بكل حال.

فى قوله تعالى : {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} للتقرير : إذا الجملة الكريمة تحقيق لما ذكر من خلق الإِنسان فى أحسن تقويم ، ثم رده إلى أسفل سافلين .

فكأنه - تعالى - يقول : إن الذى فعل ذلك كله هو أحكم الحاكمين خلقاً وإيجاداً . وصنعاً وتدبيراً ، وقضاء وتقديراً ، فيجب على كل عاقل أن يخلص له العبادة والطاعة وأن يتبع رسوله ﷺ فى كل ما جاء به من عند ربه عز وجل .

وفي حديث أبي هريرة مرفوعًا: « فإذا قرأ أحدكم ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ) فأتى على آخرها: ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ) فليقل:بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين " ( رواه أبي داود والترمذي- ضعيف، وقيل إسناده ضعيف)

 

آخر تفسير سورة  « وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ » ولله الحمد.

 


Tuesday 28 September 2021

تفسير سورة الشرح بشارة المولى لعباده ؛ إن مع العسر يسرا

   

التعريف بالسورة:

-السورة مكية- وهي من المفصل – وعدد آياتها ٨ آيات -ترتيبها في المصحف الرابعة والتسعون – ومن حيث النزول نزلت بعد سورة الضحى- تكمل أهدافها- بدأت بأسلوب استفهام {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} -لم يذكر في السورة لفظ الجلالة.

التسمية:

نقل عن بعض المفسرين أنها سميت في معظم التفاسير وفي ( صحيح البخاري ) و ( جامع الترمذي ) ( سورة ألم نشرح )، وسميت في بعض التفاسير ( سورة الشرح ) ومثله في بعض المصاحف المشرقية تسمية بمصدر الفعل الواقع فيها من قوله تعالى : {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}( الشرح  1 ) وفي بعض التفاسير تسميتها (سورة الانشراح ) . اهـ.

محور مواضيع السورة:

يدور محور السورة على النبي ﷺ، وما حباه الله إياه من النعم والخصوصية، فقد شرح صدره بالإيمان، ونوَّر قلبه بنور الحكمة التي حباه الله إياها مع القرآن، ثم إنه مع هذا فقد طهره الله  تعالى من الآثام والذنوب والمعاصي.

وفي السورة يسلي الله تعالى نبيه الكريم الذي تحمل ما تحمل من الأذى الذي كان يناله من الكفار ببيان ما له ﷺمن المقام الرفيع عند ربه، حتى رفع ذكره بين الناس حتى لا يدانيه ﷺ ولا يصل إليه أحد من البشر في هذه المكانه. {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴿٤﴾

وفي السورة بشارة للنبي الذي تحمل ما تحمل من الأذى بأن ؛ {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴿٥﴾ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴿٦﴾، وهو وامته  من بعده. فلله الحمد والفضل والمنة.

 

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴿١﴾ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ﴿٢﴾ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ ﴿٣﴾ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴿٤﴾ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴿٥﴾ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴿٦﴾ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ ﴿٧﴾ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب ﴿٨﴾

تفسير السورة:

قول تعالى: { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} يعني:أما شرحنا لك صدرك، أي:نورناه وجعلناه فَسيحًا رحيبًا واسعًا كقوله:{ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} (الأنعام ١٢٥)،  وقال تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } (الزمر ٢٢)‏

وكما شرح الله صدره كذلك جعل شَرْعه فسيحا واسعًا سمحًا سهلا لا حرج فيه ولا إصر ولا ضيق.

وقيل:المراد بقوله: { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}  شرح صدره ليلة الإسراء، كما تقدم من رواية مالك بن صعصعة وقد أورده الترمذي هاهنا. وهذا وإن كان واقعًا، ولكن لا منافاة، فإن من جملة شرح صدره الذي فُعِل بصدره ليلة الإسراء، وما نشأ عنه من الشرح المعنوي أيضًا، والله أعلم.

قال عبد الله بن الإمام أحمد: عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: "أنَّ أبا هريرةَ كان جريئًا على أن يسأل رسولَ اللهِ عن أشياءَ لا يسألُه عنها غيرُه فقال يا رسولَ اللهِ ما أولُ ما رأيتَ من النُّبوَّةِ ؟ فاستوى رسولُ اللهِ ﷺ جالسًا وقال لقد سألتَ أبا هريرةَ ؛ إني لفي صحراءَ ابنِ عشرِ سنين َوأشهرٍ،  وإذا بكلامٍ فوق رأسي وإذا رجلٌ يقول لرجلٌ أهوَ هوَ قال:  نعم ، فاسقبلاني بوجوهٍ لم أرَها لخلقٍ قطُّ وأرواحٍ لم أجدْها من خلقٍ قطُّ وثيابٍ لم أرَها على أحدٍ قطُّ،  فأقبلا إليَّ يمشيان حتى أخذَ كلُّ واحدٍ منهما بعضُدي لا أجدِ لأحدهما مَسًّا فقال أحدُهما لصاحبِه أضجِعْهُ فأضجعَاني بلا قصرٍ ولا هصرٍ وقال أحدُهما لصاحبِه افلقْ صدرَه فهوى أحدُهما إلى صدري ففلقَها فيما أرى بلا دمٍ ولا وجعٍ فقال له: أَخرِجِ الغِلَّ والحسدَ فأخرج شيئًا كهيئةِ العلقةِ ثم نبذَها فطرحها ، فقال له: أَدخِلِ الرأفةَ والرحمةَ ، فإذا مثلُ الذي أخرج يشبهُ الفضةَ،  ثم هزَّ إبهامَ رجلي اليُمنى فقال:  اغدُ واسلَمْ فرجعتُ بها أغدو رِقَّةً على الصغيرِ ورحمةً للكبيرِ."( السلسلة الصحيحة للألباني)

وفي الصحيح عند مسلم عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة - رجل من قومه - أن النبي ﷺ قال: " بَيْنا أنا عِنْدَ البَيْتِ بيْنَ النَّائِمِ والْيَقْظانِ، إذْ سَمِعْتُ قائِلًا يقولُ: أحَدُ الثَّلاثَةِ بيْنَ الرَّجُلَيْنِ، فَأُتِيتُ فانْطُلِقَ بي، فَأُتِيتُ بطَسْتٍ مِن ذَهَبٍ فيها مِن ماءِ زَمْزَمَ، فَشُرِحَ صَدْرِي إلى كَذا وكَذا، قالَ قَتادَةُ: فَقُلتُ لِلَّذِي مَعِي ما يَعْنِي قالَ: إلى أسْفَلِ بَطْنِهِ، فاسْتُخْرِجَ قَلْبِي، فَغُسِلَ بماءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ أُعِيدَ مَكانَهُ، ثُمَّ حُشِيَ إيمانًا وحِكْمَةً، ثُمَّ أُتِيتُ بدابَّةٍ أبْيَضَ، يُقالُ له: البُراقُ، فَوْقَ الحِمارِ، ودُونَ البَغْلِ...."

وقوله: ( وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ) أي حططنا عنك وزرك، بمعنى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ }( الفتح ٢}

 {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ}  الإنقاض:الصوت. وقال غير واحد من السلف في قوله: {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} أي: أثقلك حمله. أي أثقله حتى سمع نقيضه؛  أي صوته.

 وأهل اللغة يقولون:

 أنقض، الحِمل ظهر الناقة: إذا سمعت له صريرا من شدة الحمل. وكذلك سمعت نقيض الرحل؛ أي صريره.

وقوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} قال مجاهد: لا أُذْكرُ إلا ذُكِرتَ معي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.

وقال قتادة:رفع اللهُ ذكرَه في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا مُتشهد ولا صاحبُ صلاة إلا ينادي بها:أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.

قال ابن جرير:حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرنا عمرو بن الحارث، عن دَراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول اللهﷺ أنه قال: « أتاني جبريل فقال: إنّ ربي وربك يقول:كيف رفعت ذكرك؟ قال:الله أعلم. قال:إذا ذُكِرتُ ذُكِرتَ معي» ( ابن حبان – إسناده ضعيف) ورواه غيره .

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا أبو عُمر الحَوضي، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:قال رسول الله ﷺ: « سَأَلْتُ ربِّي مسألةً و ودِدْتُ أَنِّي لمْ أَسْأَلْهُ ، قُلْتُ : يا رَبِّ ! كانَتْ قَبلي رسلٌ، منهُمْ مَنْ سَخَّرْتَ لهُ الرِّياحَ، و مِنْهُمْ مَنْ كان يُحيي المَوْتَى، [ وكلمْتُ موسى ]،  قال : أَلمْ أَجِدْكَ يتيمًا فَآوَيْتُكَ ؟ ألمْ أَجِدْكَ ضالًا فَهَدَيْتُكَ؟ ألمْ أَجِدْكَ عَائِلا فَأَغْنَيْتُكَ ؟ أَلمْ أَشْرَحْ لكَ صَدْرَكَ، و وضَعْتُ عَنْكَ وِزْرَكَ ؟ قال : فقُلْتُ بلى يارَبُّ ! "فَوَدِدْتُ أنْ لمْ أَسْأَلْهُ " ( السلسلة الصحيحة)

وحكى البغوي، عن ابن عباس ومجاهد:أن المراد بذلك:الأذان. يعني:ذكره فيه، وأورد من شعر حسان بن ثابت 

:

وقال آخرون:رفع الله ذكره في الأولين والآخرين، ونوه به، حين أخذ الميثاق على جميع النبيين أن يؤمنوا به، وأن يأمروا أممهم بالإيمان به، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} ( آل عمران٨١)

 ثم شهر ذكره في أمته فلا يُذكر الله إلا ذُكر معه، وصلى الأله عليه وأمر بالصلاة عليه وجعل لها الثواب العظيم. وجعل له من الفضائل ما لا يحصى ، وشرفه بالشهادة العظمى على الخلق أجمعين يوم القيامة، وأمر بمؤازرته وبتوقيره، قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴿٨﴾‏ لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴿٩﴾‏ (سورة الفتح)

 

وقوله: ( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ) أخبر تعالى أن مع العسر يوجَدُ اليسر، ثم أكد هذا الخبر.

قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا حُميد بن حماد بن خَوَار أبو الجهم، حدثنا عائذ بن شُريح قال:سمعت أنس بن مالك يقول:كان النبي ﷺجالسًا وحياله حجر، فقال: « لو جاء العسر فدخل هذا الحجر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه » ، فأنـزل الله عز وجل: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا }

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، عن الحسن قال:كانوا يقولون:لا يغلب عسر واحد يسرين اثنين.

وقال ابن جرير:حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور، عن مَعْمَر، عن الحسن قال: أنَّ النَّبيَّ ﷺخرجَ ذاتَ يومٍ وَهوَ يضحَكُ وَيقولُ : "لَن يغلبَ عُسرٌ يُسرَينِ ، إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا "(ضعيف الجامع)

وقال سعيد، عن قتادة: ذُكِرَ لنا أن رسول الله ﷺ بشر أصحابه بهذه الآية فقال: "لن يغلب عسر يسرين "

الأستنتاج اللغوي لهذه الأية:

ومعنى هذا: أن العسر معرف في الحالين، فهو مفرد، واليسر منكر فتعدد؛ ولهذا قال: « لن يغلب عسر يسرين » ، يعني قوله: ( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ) فالعسر الأول عين الثاني واليسر تعدد.

 

وقال الحسن بن سفيان:حدثنا يزيد بن صالح، حدثنا خارجة، عن عباد بن كثير، عن أبي الزناد، عن أبي صالح، عن أبي هريرة:أن رسول الله ﷺ قال: « تنزِلُ المعونةُ من السَّماءِ على قدرِ المُؤنةِ وينزلُ الصَّبرُ على قدرِ المصيبةِ "( اسناده ضعيف-ضعيف الجامع ). وقال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} ( البقرة ٢٨٦ )، وقال سبحانه:{ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } (الطلاق ٧)‏

   ومما يروى عن الشافعي رحمه الله، أنه قال:

 

    صَـبرا جَـميلا مـا أقـرَبَ الفَـرجـا       مَـن رَاقَـب اللـه فـي الأمـور نَجَا

   مَــن صَــدَق اللـه لَـم يَنَلْـه أذَى          وَمَــن رَجَـاه يَكـون حَـيثُ رَجَـا

ومما ينسب للإمام الشافعي:

 

      ولرُبَّ نازلة يضيق بها الفتى             ذرعًا وعند الله منها مخرجُ

   ضاقت فلمّا استحكمت حلقاتُها       فُرِجت وكانَ يظنُّ أنّها لا تُفرجُ

 

وقوله: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} أي:إذا فَرغت من أمور الدنيا وأشغالها وقطعت علائقها، فانصب في العبادة، وقم إليها نشيطا فارغ البال، وأخلص لربك النية والرغبة.

ومن هذا القبيل قوله ﷺ في الحديث المتفق على صحته: «لا صَلَاةَ بحَضْرَةِ الطَّعَامِ، ولَا هو يُدَافِعُهُ الأخْبَثَانِ.» وقوله ﷺ: « إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء، فابدءوا بالعَشَاء».

 

قال مجاهد في هذه الآية: إذا فرغت من أمر الدنيا فقمت إلى الصلاة، فانصب لربك، وفي رواية عنه:إذا قمت إلى الصلاة فانصب في حاجتك، وعن ابن مسعود:إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل. وعن ابن عياض نحوه. وفي رواية عن ابن مسعود: ( فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ) بعد فراغك من الصلاة وأنت جالس.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ) يعني:في الدعاء.

وقال زيد بن أسلم، والضحاك: ( فَإِذَا فَرَغْتَ ) أي:من الجهاد ( فَانْصَبْ ) أي:في العبادة. ( وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ) قال الثوري:اجعل نيتك ورغبتك إلى الله، عز وجل.

 

آخر تفسير سورة « ألم نشرح » ولله الحمد.