أحاديث في التنفير من الإغترار بالدنيا والركون إليها:
من كتاب
رياض الصالحين للإمام النووي رحمه الله
استشهد
الإمام النووي لهذا الباب بآيات من القرآن الكريم ، فيها تحقير لحال الحياة الدنيا
، وتقلبها ، وأنها غير دائمة ولا سالمة لأحد ، قال:
باب فضل الزهد في
الدنيا
والحث على التقلل
منها، والإنشغال فيها بما يجنيه في آخرته
قال الله
تعالى: ( إنما مثل الحياة
الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى
إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو
نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون) (يونس:24).
وقال تعالى {واضرب لهم مثل الحياة
الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح
وكان الله على كل شئ مقتدراً المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات
خير عند ربك ثواباً وخيراً أملاً} (الكهف:45، 46)
وقال
تعالى:(اعلموا
أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل
غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد
ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) (الحديد:20)
قال
القرطبي في تفسيره:
وقالت الحكماء : إنما شبه تعالى
الدنيا بالماء لأن
1-
الماء
لا يستقر في موضع، كذلك الدنيا لا تبقى على واحد.
2-
ولأن
الماء لا يستقيم على حالة واحدة كذلك الدنيا.
3- ولأن
الماء لا يبقى ويذهب كذلك الدنيا تفنى.
4- ولأن
الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل كذلك الدنيا لا يسلم أحد دخلها من فتنتها
وآفتها.
5- ولأن
الماء إذا كان بقدر كان نافعا منبتا، وإذا جاوز المقدار كان ضارا مهلكا، وكذلك
الدنيا الكفاف منها ينفع وفضولها يضر.
وفي حديث النبي ﷺ
قال له رجل : يا رسول الله، إني أريد أن أكون من الفائزين؛ قال : (ذر
الدنيا وخذ منها كالماء الراكد فإن القليل منها يكفي والكثير منها يطغي).
وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ:
(قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه
الله بما أتاه)
الأحاديث:
الحديث
الأول:
عن
أبي سعيد الحدري: أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قام على المنبرِ ، فقال : ( إنما أخشى عليكم من بعدي ما
يُفْتَحُ عليكم من بركاتِ الأرضِ ) . ثم
ذكر زهرةَ الدنيا ، فبدأَ بإحداهما وثَنَّى بالأخرى ، فقام رجلٌ فقال : يا رسولَ
اللهِ ، أَوَ يأتي الخيرُ بالشرِّ ؟ فسكت عنهُ النبيُّ ﷺ ، قلنا : يُوحَى إليهِ ، وسكت الناسُ كأنَّ على
رؤوسهمُ الطيرُ ، ثم إنَّهُ مسح عن وجهِهِ الرُّحَضَاءَ ، فقال : ( أين السائلُ آنفًا ، أَوَ خيرٌ هوَ
- ثلاثًا - إنَّ الخيرَ لا يأتي إلا بالخيرِ ، وإنَّهُ كلُّ ما يُنْبِتُ الربيعُ
ما يَقْتُلُ حَبَطًا أو يُلِمُّ ، إلا آكلةَ الخَضِرِ كلَّما أَكَلَتْ ، حتى
امتلئت خاصرتاها ، استقبلتِ الشمسَ ، فَثَلَطَتْ وبالتْ ثم رَتَعَتْ ، وإنَّ هذا
المالَ خَضِرَةٌ حلوةٌ ، ونِعْمَ صاحبُ المسلمِ لمن أخذَهُ بحقِّهِ فجعلَهُ في
سبيلِ اللهِ واليتامى والمساكينِ ، ومن لم يأخذْهُ بحقِّهِ فهو كالآكلِ الذي لا
يَشْبَعُ ، ويكونُ عليهِ شهيدًا يومَ القيامةِ ).( البخاري
)
شرح الحديث:
يُحذِّرُ
النَّبيُّ ﷺ في هذا الحديثِ أصحابَه مِن فِتَنِ الدُّنيا
وشهواتها، ويُخبِرُهم بأنَّ المالَ والمتاعَ قد يأتي على الإنسانِ بالشَّرِّ
والوبالِ، فقال: "إنَّما
أخشَى عليكم مِن بَعدي ما يُفتَحُ عليكم مِن بركاتِ الأرضِ"، فذكَر خشيتَه على المُسلِمين مِن بركاتِ الأرضِ أن
تكونَ سببَ الفتنةِ والبُعدِ عن طريقِ اللهِ تعالى ومنهجِه.
ثمَّ ذكَر زهرةَ الدُّنيا، وهي حُسنُها وبهجتُها
الفانيةُ،
فقام رجُلٌ يسأَلُ: هل يأتي الخيرُ بالشَّرِّ؟! أي: هل يكونُ ما يُفتَحُ على
المُسلِمِ مِن بركاتِ الأرضِ ونعيم الدُّنيا شرًّا فتصيرَ النِّعمةُ عقوبةً؟!
فسَكَت عنه النَّبيُّ ﷺ ، فعَلِم النَّاسُ أنَّه يوحَى إليه، فسكَتوا، كأنَّ
على رؤوسِهم الطَّيرَ، أي: سكنوا دون تحرُّكٍ، كأنَّهم يُريدون صيدًا، فلا
يتحرَّكون مخافةَ أن يطيرَ، ثمَّ إنَّه ﷺ مسَح عن وجهِه الرُّحَضاءَ، أي: العرَقَ، فسأل ﷺ عن السَّائلِ آنفًا، فقال له: إنَّ الخيرَ لا يأتي إلَّا بخيرٍ، أي: الخيرَ الحقيقيَّ لا يأتي إلَّا بالخيرِ.
متاع الحياة الدنيا وملاذها
ليس هو الخير الحقيقي:
ولهذا نبه النَّبيِّ ﷺ أن متع الحياة الدنيا فيها مِن الفِتنِ
والإشغالِ عن كَمالِ الإقبالِ على اللهِ تعالى في غالب الأحوالِ، فليس في هذا خير
حقيقي، وضرَب النَّبيُّ ﷺ مثَلًا لِمَن يضُرُّه متاعُ الدُّنيا، فجعَله
كالدَّابَّةِ الَّتي تأكلُ ما ينبُتُ بجانبِ الرَّبيعِ، وهو جدولُ الماء، فتأكُلُ
حتَّى يُصيبَها الحبَطُ، وهو انتفاخُ البطنِ مِن كثرةِ الأكل، وهو داءٌ يُؤدِّي
إلى الموتِ، أو يُلِمُّ، أي: يُقرِّبُ مِن الموتِ، وأنَّ النَّاجيَ مِن هذه
الدَّوابِّ هو آكِلةُ الخضِرِ فقط، أي: الدَّابَّةُ الَّتي تأكلُ الخَضِرَ فقط،
فإنَّها تأكُلُ حتَّى يمتلئَ خَصرُها، أي: معِدتُها، ثمَّ ثَلَطَتْ وبالت، أي:
ألقَتْ بعرها رقيقًا، ثمَّ قال النَّبيُّ ﷺ: «ونِعم صاحبُ المُسلِم لِمَن أخَذه بحقِّه»، أي: نِعم المالُ للمُسلِم الَّذي يجمَعُه مِن حلالٍ،
فيُنفِقُه في سبيلِ الله، وعلى اليتامى والمساكين، ثمَّ حذَّر ﷺ مَن يجمَعُ المالَ بغيرِ حقِّه مِن الحرام، أنَّه
سيكونُ كالآكِل الَّذي لا يشبَعُ؛ لأنَّه كلَّما نال منه شيئًا ازدادَتْ رغبتُه،
واستقَلَّ ما عنده، ونظَر إلى ما فوقه، وهو كما قال : " لو أنَّ لابنِ آدمَ واديًا من
ذهبٍ أحبَّ أن يكونَ له واديان ، ولن يملأَ فاه إلَّا التُّرابُ ، ويتوبُ اللهُ
على من تاب"(
رواه البخاري) ، ثمَّ يكونُ هذا المالُ شهيدًا عليه يومَ القِيامة من أين اكتسبه ،
وفيم أنفقه.
الحديث الثاني :
عن
أبي سعيد الخدري أيضا قال : قال رسول لله ﷺ:" إن الدنيا حلوةٌ خضرةٌ . وإن اللهَ مستخلفُكم
فيها . فينظرُ كيف تعملون . فاتقوا الدنيا واتقوا النساءَ . فإن أولَ فتنةِ بني
إسرائيلَ كانت في النساءِ . وفي حديثِ بشارٍ : " لينظرْ كيف تعملون" ( صحيح مسلم)
في
هذا الحَديثِ يُوصِي النَّبيُّ ﷺ بحُسْنِ العَمَلِ في الدُّنيا، والمُداومَةِ على
تَقْوَى اللهِ بها، والحَذَرِ مِن زَخْرَفتِها، والحَذَرِ مِنَ فِتنةِ النِّساءِ؛
فإنَّ أَوَّلَ فِتنةٍ وَقَعَتْ في بني إسرائيلَ كانتْ بِسَبَبِ النِّساءِ.
فإنَّ
الدُّنيا حُلوةٌ خَضرةٌ، حُلوةٌ في المَذاقِ،
خَضْرةٌ في المَرْأَى، والشَّيءُ إذا كان خَضِرًا حُلوًا فإنَّ العَينَ
تَطلُبُه أَوَّلًا، ثُمَّ تَطلُبُه النَّفسُ ثانيًا، والشَّيءُ إذا اجتَمَعَ فيه
طَلبُ العَيْنِ وطَلبُ النَّفسِ، فإنَّه يُوشِكُ للإنسانِ أنْ يَقَعَ فيه.
فالدُّنيا حُلوةٌ في مَذاقِها، خَضْرةٌ في مَرآها، فيَغْتَرُّ الإنسانُ بها
ويَنْهَمِكُ فيها ويَجعلُها أَكبَرَ هَمِّه.
ولكنَّ
النَّبيَّ ﷺ بَيَّنَ أنَّ اللهَ سُبحانَه وتَعالى مُستَخْلِفُنا
فيها فَيَنْظُرُ كيفَ نَعمَلُ؛ هل نقوم بطاعتِه، وننْهَى النَّفسَ عنِ الهَوَى،
ونقوم بِما أَوجَبَ اللهُ علينا، ولا نغتَرُّ بالدُّنيا، أو أنَّ الأمرَ
بالعَكْسِ؟
ولهذا
قال: (فاتَّقُوا
الدُّنيا)، أي:
قُوموا بِما أَمرَكم به، واتْرُكوا ما نَهاكُم عنه، ولا تَغُرَّنَّكم حَلاوَةُ
الدُّنيا ونَضْرَتُها. كما قال تَعالى: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ
بِاللَّهِ الْغَرُورُ) (لقمان: 33)
(وَاتَّقُوا
النِّساءَ)، فَاحذَروا
أن تَميلوا إلى النِّساءِ بِالحَرامِ، أو تَنْساقُوا وَراءَ النِّساءِ
وفِتنَتِهنَّ؛ " فإنَّ أَوَّلَ فِتنةِ بَني إسرائيلَ كانت في النِّساءِ" ، فافْتَتَنُوا في النِّساءِ، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا.
وفي
الحديثِ: الحثُّ على مُلازمَةِ التَّقوَى، وعَدمِ الانْشِغالِ بِظَواهرِ الدُّنيا
وزِينَتِها .
اللهم لَا تَجْعَلِ الدنيا
أكبرَ هَمِّنَا، ولَا مَبْلَغَ عِلْمِنا، ولا تَجْعَلِ مُصِيبَتَنا في دينِنِا، ولَا
تُسَلِّطْ عَلَيْنا مَنْ لَا يخافك فينا ولا يرْحَمُنا، واجعَلْ ثَأْرَنا عَلَى
مَنْ ظلَمَنا ، وانصرْنا عَلَى مَنْ عادَانا
No comments:
Post a Comment