Monday 5 November 2018

الدعاء من القرآن المجيد –ج8 – الدعاء الرابع: سورة البقرة؛ دعوة جمعت خيري الدنيا والآخرة.



 



الدعاء من القرآن المجيد –ج8 – الدعاء الرابع: سورة البقرة؛ دعوة جمعت خيري الدنيا والآخرة.

قال تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّـهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ۗ فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَـٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا ۚ وَاللَّـهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (سورة البقرة 200-202)

في هذه الآيات يأمر تعالى بذكره والإكثار منه بعد قضاء المناسك وفراغها، وقوله { كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ } اختلفوا في معناه فقال عطاء: هو كما يلهج الصبي بذكر أبيه وأمه، فكذلك أنتم فالهجوا بذكر اللّه بعد قضاء النسك،  وقال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم، فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم، ويحمل الحمالات، ويحمل الديات، ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم، فأنزل اللّه على محمد : { فَاذْكُرُوا اللَّـهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا }، والمقصود منه الحث على كثرة الذكر للّه عزّ وجلّ، و( أَوْ) ههنا لتحقيق المماثلة في الخبر كقوله: { فهي كالحجارة أو أشد قسوة} فليست ههنا للشك قطعاً وإنما هي لتحقيق المخبر عنه أنه كذلك أو أزيد منه، أي اذكروا الله تعالى كما تذكرون آباءكم، أو أكثر منه.
 ثم إنه تعالى أرشد عباده إلى دعائه بعد كثرة ذكره، فإنه مظنة إجابة الدعاء، - كما سبق المقدمات؛ في أسباب إجابة الدعاء-
وذم الله يدعوه ويجتهد ويسأله كثيرًا ولا يسأله إلا في أمور دنياه وهو معرض عن أخراه فقال: { فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } أي فلا نصيب له ولا حظ، وتضمَّنَ هذا الذم التنفير عن التشبه بمن هو كذلك، قال ابن عباس: كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون: اللهم اجعله عام غيث، وعام خصب، وعام ولاد حسن، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئاً، فأنزل اللّه فيهم: { فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } ولهذا مدح من يسأله الدنيا والأُخرى، فقال: { وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } .
دعوة جمعت خيري الدنيا والآخرة:
 هذه الدعوة جمعت كل خير في الدنيا وصرفت كل شر؛ فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية في الصحة، وكفاية في المال، ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هين، وثناء جميل، وزاد الحسنُ وأحسن إذ قال: حسنة الدنيا العلم والعبادة، وحب الطاعة والثبات عليها، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين ولا منافاة بينها، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا.
وأما الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة، وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات، وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة، وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم والآثام، وترك الشبهات والحرام.
وقال القاسم أو عبد الرحمن: من أعطي قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وجسداً صابراً فقد أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ووقي عذاب النار.
ما ورد في السنة الترغيب في هذا الدعاء:
- وردت السنة بالترغيب في هذا الدعاء. فقال البخاري عن أنَس بن مالك: كان النبي يقول: (اللَّهم رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) واقتدى بذلك أنس رضي الله عنه، فكان لا يدعه في أي دعاء يدعو به، وقد طلب منه بعض أصحابه أن يدعو لهم، فدعا لهم بهذه الدعوة المباركة، ثم قال: (إذا آتاكم اللَّه ذلك فقد آتاكم الخير كله)  
- وذكر أيضاً أنَّ أناسا قالوا لأنَسِ بنِ مالكٍ: ادعُ اللهَ لنا فقال: اللَّهمَّ آتِنا في الدُّنيا حَسنةً وفي الآخرةِ حَسنةً وقِنا عذابَ النَّارِ قالوا : زِدْنا، فأعادها قالوا : زِدْنا،  فأعادها فقالوا : زِدْنا فقال : ما تُريدونَ ؟ سأَلْتُ لكم خيرَ الدُّنيا والآخرةِ. (صحيح ابن حبان)
- وعن أنَس: أنَّ رسولَ عاد رجلًا من المسلمينِ قد خَفَتَ فصار مثلَ الفرْخِ، فقال له رسولُ اللهِ : هل كنتَ تدعو بشيءٍ أو تسأله إياه؟ قال: نعم، كنتُ أقولُ: اللهم! ما كنتَ مُعاقِبي به في الآخرةِ، فعَجِّلْه لي في الدُّنيا. فقال رسولُ اللهِ :"سبحان اللهِ! لا تُطيقُه - أو لا تستطيعُه - أفلا قلتَ: اللهمَّ! آتِنا في الدُّنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنا عذابَ النارِ؟" قال، فدعا اللهَ له، فشفاه. " انفرد بإخراجه مسلم"
- سأَلُ رجلٌ عطاءَ بنَ أبي رَباحٍ عنِ الرُّكنِ اليَمانيِّ وهو يطوفُ بالبيتِ، قال عطاءٌ:  حدَّثني أبو هُرَيْرَةَ أنَّ النَّبيَّ قال:" وُكِّل به سَبعونَ – يعني ملك- مَن قال اللَّهمَّ إنِّي أسأَلُكَ العفوَ والعافيةَ والمُعافاةَ في الدُّنيا والآخرةِ ربَّنا آتِنا في الدُّنيا حَسنةً وفي الآخِرةِ حَسنةً وقِنا عذابَ النَّارِ قالوا آمِينَ" ( الترغيب والترهيب- حديث حسن)
ما الحكمة من سؤال الله الوقاية من النَّار، بعد دخول الجنَّة:
-  وقد تتساءل إن كان المرء قد طلب خير الآخرة، وهي الجنة فما فائدة أن يسال الله تعالى أن يقيه عذاب النار، وهو قد دخل الجنة، فالجواب: أن هؤلاء طلبوا الدرجات العلى من الجنة، يدخلونها بلا سابق عذاب، فلم يدخلوها بشفاعة بعد كانوا من أهل النار .
 ويحتمل أن يكون دعاء أن يقيه عذاب النار، مؤكدا لطلب دخول الجنة، لتكون الرغبة في معنى النجاة والفوز من الطرفين.
 قالَ رسولُ اللَّهِ لرجُلٍ:" ما تقولُ في الصَّلاةِ؟" قالَ: أتشَهَّدُ وأذكرُ اللَّهَ ثمَّ أقولُ اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ الجنَّةَ وأعوذُ بِك منَ النَّارِ،  أنا واللَّهِ ما أُحسِنُ دندنتَك ولا دندنةَ معاذٍ ، فقالَ رسولُ اللَّهِ ﷺ:" أنا ومعاذُ حولَها نُدَندِنُ"  (خرجه أبو داود في سننه وابن حبان، وقال عنه أنه صحيح)


" اللهمَّ! أَصلِحْ لي ديني الذي هو عصمةُ أمري، وأصلِحْ لي دنيايَ التي فيها معاشي، وأصلِحْ لي آخرتي التي فيها مَعادي، واجعلِ الحياةَ زيادةً لي في كلِّ خيرٍ، واجعلِ الموتَ راحةً لي من كلِّ شرٍّ " رواه مسلم


No comments:

Post a Comment