تفسير وتدبر- وبيان للمتشابهات ولتسلسل الآيات-سورة الحجر ج الأول
سبب التسمية :
سُميت السورة الكريمة " سورة الحجر " لأن الله تعالى ذكر ما حدث لقوم صالح وهم قبيلة ثمود وديارهم بالحجر بين المدينة والشام، فقد كانوا أشداء ينحتون الجبال ليسكنوها وكأنهم مخلدون في هذه الحياة لا يعتريهم موت ولا فناء فبينما هم آمنون مطمئنون جاءتهم صيحة العذاب في وقت الصباح .
التعريف بالسورة :
- سورة مكية ، قيل ماعدا الآية ٨٧ فمدنية : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ﴿٨٧﴾}- من المثاني وسور المثاني : سور المثاني من القرآن الكريم هي السور التي ثنى فيها الله الأحكام والشرائع والحدود وأيضاً القصص والأمثال، وهي كل سورة ليست من سور المئين وليست من سور المفصل كما جاء في (حديث ابن عباس رضي الله عنه، حين قال لعثمان رضي الله عنه: «ما حملكم على أن عمدتم إلى سورة (براءة) وهي من (المئين) وإلى (الأنفال) وهي من (المثاني) ففرقتم بينهما؟») وهناك رأي وسط الجمهور يقول بأن سور القرآن كاملة تُعد من سور المثاني استناداً لِقوله تعالى ﴿كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ﴾.- عدد آياتها ( ٩٩ ) -ترتيبها الخامسة عشر في المصحف – نزلت بعد سورة ( يوسف)- تبدأ بالحروف المقطعة ( ألر ) – في الجزء الرابع عشر-
- السور التي تبدأ ب ( ألر) ست سور هي : يونس ، هود ، يوسف ، الرعد وحيدة ( ألمر ) ، إبراهيم
- يلاحظ في سور( ألر) أولا: أن الأحرف المقطعة ( ألر ) جزء من آية ، وليست آية منفصله. ثانيا: أن بقية الآية الأولى تتكلم عن الكتاب: في يونس { ألر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}، في هود: { الر ۚ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} ، في يوسف: { الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} في الرعد زاد الميم في (ألمر) فاختصر وقال: {المر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ۗ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ } ، في إبراهيم :{ الر ۚ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } ، وفي آخرها سورة الحجر : {الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ}
محور مواضيع السورة:
يدور محور السورة حول مصارع الطغاة والمكذبين لرسل الله في شتى الأزمان والعصور ولهذا ابتدأت السورة بالإنذار والتهديد ملفعا بظل من التهويل والوعيد { رُبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُوا لَو كَانُوا مُسْلِمين * ذَرْهُم يَأْكُلوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهمُ الأملُ فسَوفَ يَعلمُون }.
مضمون السورة وتسلسل موضوعاتها:
تستهدف هذه
السورة الكريمة المقاصد الأساسية للعقيدة الإسلامية ( الوحدانية و النبوة و البعث
والجزاء ) ، واعتنت بأخبار ومصارع الطغاة
والمكذبين لرسل الله في شتى الأزمان والعصور،
1- ابتدأت بالإنذار والتهديد والتهويل والوعيد لكل الطغاة ،وبينت حالهم يوم القيامة وعذابهم الشديد تخويفا وترهيبا، من قوله تعالى : (الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ {١} إلى قوله تعالى : (لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ( ١٥)
2-حدثت بعدها الآيات عن قدرته تعالى في الخلق وحفظه للسماء من استراق السمع ويعدد تعالى نعمه الكثيرة على الإنسان ليشكره تعالى عليها ، من قوله تعالى : (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ( ١٦) إلى قوله تعالى : (وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ( ٢٧)
3-عرضت الآيات لقصة خلق آدم عليه السلام وسجود الملائكة له إلا إبليس وطرده من رحمة الله وتعهده بإضلال الناس إلا عباد الله المخلصين ، وتتوعده الآيات وأتباعه بالعذاب الأليم في الآخرة ، كما تبشر المتقين بجنات النعيم ، من قوله : (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (٢٨) إلى قوله تعالى : (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ *وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ (٨٨)
4- ومن قصة آدم تنتقل لقصص بعض الأنبياء ، تسلية لرسول الله وتثبيتا للمؤمنين فتذكر قصة إبراهيم و لوطا عليهما السلام ، من قوله تعالى : (وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ(٥١)) إلى قوله تعالى : (وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ ( ٧٧)
5-ذكرت قصة شعيب وصالح عليهما السلام وما حلّ بأقوامهم المكذبين ، من قوله تعالى : (وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (٧٨) إلى قوله تعالى : (فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (٨٤)
6- ختمت السورة بتذكير الرسول الكريم بكبرى نعم الله عليه وهي هذا القرآن المجيد المعجز ، آمرة إياه بالصبر على المشركين وتبشره بقرب النصر، من قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ {٨٥}) إلى قوله تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ {٩٩})
تميزت هذه السورة بــ:
1- وعد الله بحفظ هذا القرآن من التغيير والتبديل، لا لفظا ولا معنى، فالحفظ ليس للألفاظ، بل للمعاني أولى، ولذلك ما تجرأ أحد على تحريف معاني الآيات بهدف قلبها لمراد سوء، إلا يسر للقرآن أهل الذين يذودون عنه.{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }
2- جاءت بحقيقة علمية ما ظهرت وتأكدت إلا بعد أن غزى الإنسان الفضاء الخارجي ، وعلم أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بعد بعد معين عن الأرض لعدم وجود الهواء عامة، وانعدام الجاذبية الأرضية، وعلم أهميتها، وأيضا أن السماء بناء محكم ولا يمكن اختراقه إلا عن طريق أبواب تفتح فيه...
{ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ﴿١٤﴾ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا.... }
3- فيها أطول كلمة في القرآن الكريم، وهي كلمة: (فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ)، الواردة في آية 23، وعددها أحد عشر حرفًا. ويليها كلمات: (اقْتَرَفْتُمُوهَا)، (أَنُلْزِمُكُمُوهَا)، وَ(الْمُسْتَضْعَفِينَ)، بعشرة حروف. وفي هذه الكلمة (ف ) السببية، أو العطف، وفعل وفاعل ومفعول أول ومفعول ثان
4-ورد فيها مرحلة من مراحل خلق آدم عليه السلام: { مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (٢٦) } لم يذكر في غيرها، وهو الطين المختلط بالرمل الناعم بعد أن يترك ليجف فيصبح أملسا.
5- ذكر عدد ابواب جهنم { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ)
6- أقسم فيها رب العالمين بعمر النبي الكريم الرفيع المقام عند ربه محمد ﷺ { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}
7- حث فيها على الصفح الجميل، { فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}
8- ذكر فيها {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}، وهي سورة الفاتحة على أصح الأقوال، ويؤيده الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّهﷺ : (أُمُّ القُرْآنِ هي السَّبْعُ المَثانِي والقُرْآنُ العَظِيمُ) فهذا نص في الفاتحة هي السبع المثاني والقرآن العظيم..
9-الموضع الوحيد الذي يُذكر فيه تسليم الملائكة على إبراهيم عليه السلام ، ولم يذكر رده السلام عليهم. {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ ﴿٥٢﴾
10- وختمت بأهمية الصلاة وما فيها من تسبيح الرب سبحانه، والسجود والتذلل له لجلاء الهم والغم..
11- الموضع الوحيد في القرآن الذي ورد فيه لفظ(رُّبَمَا) بتخفيف الباء، وفي غيرها الباء مشددة، قيل للتقليل.
تفسير سورة الحجر: وترتيب تتابع آياتها:
قوله تعالى: {الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ} قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور، و {الْكِتَابِ} قيل فيه: إنه اسم لجنس الكتب المتقدمة من التوراة والإنجيل، ثم قرنهما بالكتاب المبين. وقيل: الكتاب هو القرآن، جمع له بين الاسمين. فأخرج الكتاب بلفظ المعرفة والقرآن بلفظ النكرة؛ وذلك لأن القرآن والكتاب اسمان يصلح لكل واحد منهما أن يجعل معرفة، وأن يجعل صفة. ووصفه بالمبين لأنه بين فيه أمره ونهيه وحلاله وحرامه ووعده ووعيده، فهو مبين لكل شيء.
متشابه:
في سورة النمل قوله تعالى: {طس ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ} (١) ، ذكر القرآن بلفظ المعرفة، وقال { وكتاب مبين} بلفظ النكرة وهما في معنى المعرفة؛ كما تقول : فلان رجل عاقل وفلان الرجل العاقل. والكتاب هو القرآن، فجمع له بين الصفتين : بأنه قرآن وأنه كتاب؛ لأنه ما يظهر بالكتابة، ويظهر بالقراءة. وهنا في سورة الحجر {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ} فأخرج الكتاب بلفظ المعرفة والقرآن بلفظ النكرة.
وقوله تعالى: { رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} إخبار عنهم أنهم سيندمون على ما كانوا فيه من الكفر، ويتمنون لو كانوا في الدنيا مسلمين.
وقرأ نافع وعاصم { رُّبَمَا} مخفف الباء. الباقون مشددة، وهما لغتان.
وأصلها أن تستعمل في القليل وقد تستعمل في الكثير؛ أي يود الكفار في أوقات كثيرة لو كانوا مسلمين؛ وقال بعضهم : هي للتقليل في هذا الموضع؛ لأنهم قالوا ذلك في بعض المواضع لا في كلها؛ لشغلهم بالعذاب، والله أعلم. قال { ُّبَمَا يَوَدُّ} وهي إنما تكون لما وقع؛ لأنه لصدق الوعد كأنه عيان قد كان.
وعن ابن عباس، أن كفار قريش لما عرضوا على النار تمنوا أن لو كانوا مسلمين.
وقيل: هذا إخبار عن يوم القيامة، كقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } ( الأنعام ٢٧).
وقال بعضهم: يحبس اللّه أهل الخطايا من المسلمين مع المشركين في النار، قال: فيقول لهم المشركون: ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون في الدنيا، قال: فيغضب اللّه لهم بفضل رحمته، فيخرجهم، فذلك حين يقول: { رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} (روى هذا القول ابن جرير عن ابن عباس وأنَس بن مالك وقال: كانا يتأولان الآية: { رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} بذلك التأويل.
وقد ورد في ذلك أحاديث مرفوعة، روى السيوطي عن جابر بن عبد الله رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه ﷺ: " إنَّ نَاسًا مِن أمَّتي يعذَّبونَ بذنوبِهم فيَكونونَ في النَّارِ ما شاءَ اللَّهُ أن يَكونوا ثمَّ يعيِّرُهم أَهلُ الشِّرْكِ فيقولونَ ما نرى ما كنتُم فيهِ من تصديقِكم نفعَكُم فلا يبقى موحِّدٌ إلَّا أخرجَهُ اللَّهُ تعالى من النَّارِ ، ثم قرأ رسول اللّه ﷺ: أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم: {الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ* رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} (أخرجه السيوطي، وقال إسناده صحيح)
وقوله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} تهديد شديد لهم ووعيد أكيد، كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّوا عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} (ابراهيم ٣٠)، وقوله: { كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ} (المرسلات ٤٦) ، ولهذا قال: {وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ} أي عن التوبة والإنابة ، أي يشغلهم طول الأمل والترف عن الطاعة. وطول الأمل داء عضال ومرض مزمن، ومتى تمكن من القلب فسد مزاجه وصعب علاجه، فلا ينجح فيه دواء.
يقال : ألهاه عن كذا أي شغله. ولهي هو عن الشيء يلهى.
وفي حديث ينسب لرسول اللهﷺ: (أربَعةٌ من الشَّقاءِ: جُمُودُ الْعَينِ، وقَسْوةُ القَلْبِ، وطُولُ الأمَلِ، والحِرْصُ على الدُّنيا) ( ضعفه الألباني من الترغيب والترهيب)، {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي عاقبة أمرهم.
قوله تعالى:{وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} يخبر تعالى أنه ما أهلك قرية إلا بعد قيام الحجة عليها وانتهاء أجلها، وأنه لا يؤخر أمة حان هلاكهم عن ميقاتهم ولا يتقدمون عن مدتهم، فلكل أجلٌ مؤقت كتب لهم في اللوح المحفوظ. وهذا تنبيه لأهل مكة وإرشاد لهم، إلى الإقلاع عما هم عليه من الشرك والعناد والإلحاد الذي يستحقون به الهلاك.
ثم يخبر تعالى عن كفار قريش وعتوهم وعنادهم وتجبرهم في قولهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نـزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ } أي: الذي يدعي ذلك {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } أي:في دعائك إيانا إلى اتباعك وترك ما وجدنا عليه آباءنا. ( لَوْ مَا ) أي:هلا {تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ} أي:يشهدون لك بصحة ما جئت به { إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ }
كما قال فرعون: {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} ( الزخرف ٥٣) ، وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا * يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} (الفرقان٢١-٢٢ )
ومعنى { إِلا بِالْحَقِّ} إلا بالقرآن. وقيل بالرسالة؛ وقال الحسن : إلا بالعذاب إن لم يؤمنوا. { وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ} أي لو تنزلت الملائكة بإهلاكهم لما أمهلوا ولا قبلت لهم توبة. وقيل : المعنى لو تنزلت الملائكة تشهد لك فكفروا بعد ذلك لم ينظروا.
وأصل { إِذًا}: إذ أن - ومعناه حينئذ - فضم إليها أن، واستثقلوا الهمزة فحذفوها.
وقوله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} يعني القرآن. وإنا له لحافظون من أن يزاد فيه أو ينقص منه. قال قتادة: حفظه الله من أن تزيد فيه الشياطين باطلا أو تنقص منه حقا؛ فتولى سبحانه حفظه فلم يزل محفوظا، وقال في غيره من الكتب: { إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ } (المائدة ٤٤)، فوكل حفظه إليهم فبدلوا وغيروا.
ويحكي عن يحيى بن أكثم يقول: كان للمأمون بن هارون الرشيد - وهو أمير إذ ذاك - مجلس نظر، فدخل في جملة الناس رجل يهودي حسن الثوب حسن الوجه طيب الرائحة، قال : فتكلم فأحسن الكلام والعبارة، قال: فلما تقوض المجلس دعاه المأمون فقال له: إسرائيلي؟ قال نعم. قال له : أسلم حتى أفعل بك وأصنع، ووعده. فقال: ديني ودين آبائي! وانصرف. قال : فلما كان بعد سنة جاءنا مسلما، قال : فتكلم على الفقه فأحسن الكلام؛ فلما تقوض المجلس دعاه المأمون وقال: ألست صاحبنا بالأمس؟ قال له: بلى. قال: فما كان سبب إسلامك؟ قال : انصرفت من حضرتك فأحببت أن أمتحن هذه الأديان، وأنت تراني حسن الخط، فعمدت إلى التوراة فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الكنيسة فاشتريت مني، وعمدت إلى الإنجيل فكتب نسخ فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها البيعة فاشتريت مني، وعمدت إلى القرآن فعملت ثلاث نسخ وزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الوراقين فتصفحوها، فلما أن وجدوا فيها الزيادة والنقصان رموا بها فلم يشتروها؛ فعلمت أن هذا كتاب محفوظ، فكان هذا سبب إسلامي.
وقيل: { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، أي لمحمد ﷺ من أن يتقول علينا أو نتقول عليه. أو { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} من أن يكاد أو يقتل. ونظيره {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ} (المائدة ٦٧).
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ ( 10 ) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 11 ) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ( 12 ) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ ( 13 )
يقول تعالى مسليًا لرسوله في تكذيب من كذَّبه من كفار قريش:إنه أرسل من قَبْله في الأمم الماضية، وإنه ما أتى أمة رسول إلا كذبوه واستهزؤوا به.
ثم أخبر أنه سلك التكذيب في قلوب المجرمين، أي أدخله في قلوب الذين عاندوا واستكبروا عن اتباع الهدى.
قال أنس بن مالك، والحسن البصري: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} يعني:الشرك. {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} فلا يؤمنون بالقرآن.
والسِلك ( بالكسر ) الخيط. وقيل: المعنى نسلك القرآن في قلوبهم فيكذبون به. {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} أي مضت سنة الله بإهلاك الكفار، فما أقرب هؤلاء من الهلاك. وقيل: {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} بمثل ما فعل هؤلاء من التكذيب والكفر، فهم يقتدون بأولئك.
وقوله: {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ} أي:قد علم ما فعل تعالى بمن كذب رسله من الهلاك والدمار، وكيف أنجى الله الأنبياء وأتباعهم في الدنيا والآخرة.
متشابه:
نسلكه ( الحجر١٢)
--- سلكناه ( الشعراء ٢٠٠) قل لنفسك السين
فى سلكناه أخت الشين فى الشعراء
قوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} ، يخبر تعالى عن قوة كفرهم وعنادهم ومكابرتهم للحق:أنه لو فتح لهم بابًا من السماء، فجعلوا يصعدون فيه، لما صدّقوا بذلك، بل قالوا: ( سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ) أي :سدت أو عميت أبصارنا، وعن ابن عباس:أخذت أبصارنا. وقال ابن زيد: ( سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ) السكران الذي لا يعقل.
إعجاز علمي في الآيات:
تقرر من الدليل العلمي والقرآن أن دخول السماء لا يمكن أن يكون إلا من خلال باب يُفتح، وأن حركة الأجسام في السماء إنما تكون في خطوط منحنية غير مستقيمة، وهو ما أسماه القرآن بـ (العروج) تلك كانت بعض صور الإعجاز العلمي الواردة في قوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ} ، وهذه حقيقة مذهلة تبين دقة القرآن الكريم في الوصف، وملمح آخر من ملامح الإعجاز العلمي في الآية التالية، وهي قوله تعالى: { لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ}، معنى الآية: أنه لو فُتح باب من السماء لهؤلاء المنكرين لعظمة هذا الخالق، لقالوا: إنما سُكِّرت أعيننا وسُدَّت، أو غشيت وغطيت، فلم تعد تبصر شيئًا، وحينئذ -والحالة هذه- لم يعد يرى الإنسان إلا الظلام.
وهذا التشبيه القرآني البليغ يمثل حقيقة كونية أثبتها العلم الحديث اليوم، ولم يكن يعرفها الإنسان قبلُ؛ فبعد أن تمكن الإنسان من الوصول إلى الفضاء، اكتشف حقيقة أن الكون يغشاه الظلام الدامس في غالبية أجزائه، وأن حزام النهار في نصف الكرة الأرضية المواجه للشمس لا يتعدى سمكه (200كم) فوق سطح البحر. وإذا ارتفع الإنسان فوق ذلك فإنه يرى الشمس قرصًا أزرق في صفحة سوداء حالكة السواد.
والقرآن الكريم قد أخبرنا بهذه الحقيقة قبل اكتشاف العلم لها، عندما شبَّه الذي يعرج في السماء بمن سُكِّرت أبصاره، فلم يعد يرى غير الظلام الشامل، والظلام الدامس؛ أو شبهه بمن اعتراه شيء من السحر، فلم يعد يُدرك شيئًا مما يدور حوله. وكلا التشبيهين تعبير دقيق عمَّا أصاب رواد الفضاء الأوائل حين تجاوزوا نطاق النهار، ودخلوا في ظلمة الكون، فنطقوا بما يكاد يكون تعبيرًا عما أخبرت به الآية القرآنية، دون علم بها: {إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا}
والله أعلم، ولله الحمد يتبع إن شاء الله؛
No comments:
Post a Comment