المبارزة والقتال :
وتقارب الجيشان فطلع طلحة بن أبي طلحة العبدري حامل لواء المشركين وأشجع فرسان قريش ، ودعا إلى المبارزة وهو على بعير ، فتقدم إليه الزبير بن العوام رضي الله عنه ووثب وثبة الليث حتى صار معه على جمله، ثم أخذه واقتحم به الأرض، وذبحه بسيفه ، فكبر النبي ﷺ وكبر المسلمون .
ثم انفجر القتال في كل نقطة وحاول خالد بن الوليد – وهو على فرسان المشركين –ثلاث مرات ليبلغ إلى ظهور المسلمين ، ولكن رشقه الرماة من على الجبل بسهامهم حتى ردوه .
وركز المسلمون هجومهم على حملة لواء المشركين حتى قتلوهم عن آخرهم وكانوا أحد عشر مقاتلاً ، فبقى اللواء ساقطاً ، وشدد المسلمون هجومهم على بقية النقاط حتى هدوا الصفوف هدا وحسوا المشركين حساً، وأبلى أبو دجانة وحمزة رضي الله عنهما، في ذلك بلاءً حسناً .
وأثناء هذا التقدم والانتصار قتل حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله ﷺ قتله وحشي بن حرب ، وكان عبداً حبشياً ماهراً في قذف الحربة، وقد وعده مولاه جبير بن مطعم بالعتق إذا قتل حمزة ، لأن حمزة هو الذي قتل عمه طعيمة بن عدي في بدر ، فاختبأ وحشي وراء صخرة يرصد حمزة ، وبينما حمزة يضرب رأس سباع بن عرفطة – رجل من المشركين – صوب وحشي إليه الحربة ، وقذفها ، وهو على غرة ، فوقعت في أحشائه ، وخرجت من بين رجليه فسقط ولم يستطع النهوض حتى قضى نحبه رضي الله عنه
ووقعت الهزيمة بالمشركين حتى لاذوا بالفرار ، وفرت النسوة المحرضات ، وتبعهم المسلمون يضعون فيهم السلاح ، ويأخذون الغنائم
وحينئذ أخطأ الرماة ، فنزل منهم أربعون رجلاً ليصيبوا من الغنيمة ، على رغم ما كان لهم من الأمر المؤكد بالبقاء في أماكنهم.
وانتهز خالد بن الوليد هذه الفرصة ، فانقض على العشرة الباقية بجبل الرماة حتى قتلهم، واستدار هذا الجبل حتى وصل إلى ظهور المسلمين وبدأ بتطويقهم ، وصاح فرسانه صيحة عرفها المشركون فانقلبوا، ورفعت لواءها إحدى نسائهم فالتفوا حوله وثبتوا ، وبذلك وقع المسلمون بين شقي الرحى .
هجوم المشركين على رسول الله ﷺ وإشاعة مقتله :
وكان رسول الله ﷺ في مؤخرة المسلمين ، ومعه سبعة من الأنصار واثنان من المهاجرين، فلما رأى فرسان خالد تطلع من وراء الجبل نادى أصحابه بأعلى صوت : إلى عباد الله ! وسمع صوته المشركون – ولعلهم كانوا أقرب إليه من المسلمين – فأسرعت مجموعة منهم نحو الصوت ، وهاجمت رسول الله ﷺ هجوماً شديداً ، وحاولت القضاء عليه قبل أن يصل إلية المسلمون ، فقال ﷺ: "من يردهم عنا وله الجنة ؟ أو هو رفيقي في الجنة" فتقدم رجل من الأنصار فدفعهم، وقاتلهم حتى قتل ، ثم رهقوه فأعاد قوله ، فتقدم رجل آخر فدفعهم وقاتلهم حتى قتل ، ثم الثالث ، ثم الرابع وهكذا حتى قتل السبعة.
ولما سقط السابع لم يبق حول رسول الله ﷺ إلا القرشيان طلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص ، فركز المشركون حملتهم على رسول الله ﷺ حتى أصابته حجارة وقع لأجلها على شقه، وأصيب رباعيته اليمنى السفلى وجرحت شفته السفلى وهشمت البيضة على رأسه . فشجت جبهته ورأسه. وضرب بالسيف على وجنته فدخلت فيها حلقتان من حلق المغفر ، وضرب أيضاً بالسيف على عاتقه ضربة عنيفة اشتكى لأجلها أكثر من شهر . وكان قد لبس درعين فلم يتهتكا .
وقع كل هذا على رغم دفاع القرشيين الدفاع المستميت ، فقد رمى سعد بن أبي وقاص حتى نثل له رسول الله ﷺ كنانته وقال : ارم فداك أبي وأمي . وقاتل طلحة بن عبيد الله وحده قتال مجموع من سبق، حتى أصابه خمسة وثلاثون أو تسعة وثلاثون جرحاً، ووقى النبي ﷺ فأصيبت أصابعه حتى شلت. ولما أصيب أصابعه قال: حس . فقال النبي ﷺ لو قلت : بسم الله ، لرفعتك الملائكة والناس ينظرون .
وخلال هذه الساعة الحرجة نزل جبريل وميكائيل فقاتلا عنه أشد القتال ، وفاء إليه ﷺ عدد من المسلمين فدافعوا عنه أشد الدفاع، وكان أولهم أبا بكر الصديق، ومعه أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما.
وتقدم أبو بكر لينزع حلقة المغفر عن وجه رسول اللهﷺ فألح عليه أبو عبيدة حتى نزعها هو، فسقطت إحدى ثنيتيه ، ثم نزع الحلقة الأخرى فسقطت الثنية الأخرى ، ثم أقبلا على طلحة بن عبيد الله فعالجاه وهو جريح .
وأثناء ذلك وصل إلى رسول اللهﷺ أبو دجانة ومصعب بن عمير وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وغيرهم ، وتضاعف عدد المشركين أيضاً ، واشتدت هجماتهم، وقام المسلمون ببطولات نادرة ، فمنهم من يرمي، ومنهم من يدافع، ومنهم من يقاتل، ومنهم من يقي السهام على جسده .
وكان اللواء بيد مصعب بن عمير ، فضربوا على يده اليمنى حتى قطعت ، فأخذه بيده اليسرى، فضربوا عليها حتى قطعت، فبرك عليه بصدره وعنقه حتى قتل ، وكان الذي قتله هو عبدالله بن قمئة ، فلما قتله ظن أنه قتل رسول اللهﷺ، لأن مصعباً كان يشبهه ﷺ فانصرف ابن قمئة وصاح: إن محمداً قد قتل .
وشاع الخبر بسرعة . وبإشاعته تخفف هجوم المشركين ، إذ ظنوا أنهم أصابوا الهدف ، وبلغوا ما أرادوا .
موقف عامة المسلمين بعد التطويق :
ولما رأى المسلمون بداية عملية التطويق تشتتوا وارتبكوا، ولم يصلوا إلى موقف موحد . فمنهم من فر إلى الجنوب حتى بلغ المدينة المنورة، ومنهم من فر إلى شعب أحد ولاذ بالمعسكر . ومنهم من قصد رسول اللهﷺ وأسرع إليه ، فدافع عنه كما تقدم . وبقي معظم المسلمين في دائرة التطويق، ثابتين في أمكانهم، يدفعون المطوقين ويقاتلونهم، وحيث لم يكن بينهم من يقودهم بنظام فقد حصل في صفوفهم خبط وإرباك : رجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم، حتى قتل اليمان والد حذيفة بأيدي المسلمين أنفسهم . فلما سمعوا خبر مقتل النبيﷺ طار صواب طائفة منهم ، وخارت عزائمهم، واستكانوا ، حتى تركوا القتال وتشجع آخرون وقالوا : موتوا على ما مات عليه رسول الله ﷺ
وبينما هم كذلك إذ رأى كعب بن مالك رسول اللهﷺ وهو يشق الطريق إليهم، فعرفة بعينيه، إذ كان وجهه تحت حلق المغفر والبيضة، فنادى كعب بصوت عال : يا معشر المسلمين !! أبشروا ، هذا رسول الله ﷺ، فبدأ المسلمون يرجعون إليه ، حتى تجمع حوله ثلاثون رجلاً من أصحابه ، فشق بهم الطريق بين قريش، ونجح في إنقاذ جيشه المطوق ، وسحبه إلى شعب الجبل. وقد حاول المشركون عرقلة هذا الانسحاب، ولكنهم فشلوا تماماً، وقتل منهم اثنان أثناء هذه المحاولة .
وبهذه الخطة الحكيمة نجا المسلمون ، ولكن بعد دفعوا الثمن غالياً لما ارتكبه الرماة من الخطأ ومخالفة أمر رسول الله ﷺ
في الشعب :
وبعدما خرج المسلمون من دائرة التطويق ، ونجحوا في التمكن من الشعب حصل بينهم وبين المشركين بعض المناوشات الخفيفة الفردية ، ولم يجترئ المشركون على التقدم والمواجهة العامة ، وإنما بقوا في الساحة قليلاً ، مثلوا خلاله القتلى فقطعوا آذانهم وأنوفهم وفروجهم ، وبقروا بطونهم ، وبقرت هند بنت عتبه عن بطن حمزة حتى أخرجت كبده ، ولاكتها ، فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها ، واتخذت من الآذان والأنوف قلائد وخلاخيل.
الشخص الوحيد الذي قتله رسول الله ﷺ
وجاء أبي بن خلف متغطرساً إلى الشعب يزعم أنه يقتل رسول اللهﷺ فطعنه رسول الله ﷺ بحربة في ترقوته، في فرجة بين الدرع والبيضة ، فتدحرج عن فرسه مراراً ، ورجع إلى قريش وهو يخور خوار الثور ، فلما بلغ سرف – قريباً من مكة – مات لأجله .
ثم جاء رجال من المشركين يقودهم أبو سفيان وخالد بن الوليد، وعلوا في بعض جوانب الجبل ، فقاتلهم عمر بن الخطاب ورهط من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل، وتفيد بعض الروايات أن سعد بن أبي وقاص ﷺ قتل ثلاثة منهم .
وبلغ عدد قتلى المشركين اثنين وعشرين وقيل : سبعة وثلاثين .
أما المسلمون فقد قتل منهم سبعون : 41 من الخزرج ، و24 من الأوس ، و 4 من المهاجرين ، وواحد من اليهود ، وقيل غير ذلك
وبعد المحاولة الأخيرة الفاشلة من أبي سفيان وخالد بن الوليد أخذ المشركون يستعدون للعودة إلى مكة .
أما رسول الله ﷺ فإنه لما تمكن من الشعب واطمأن فيه ، جاءه عليﷺ بماء من المهراس – ما هو ماء بأحد – ليشرب منه النبي ﷺ، فوجد له ريحاً فلم يشرب منه ، بل غسل به الوجه ، وصبه على الرأس ، فأخذ الدم ينزف من الجرح ، ولا ينقطع ، فأحرقت فاطمة رضي الله عنها قطعة من حصير ، وألصقته ، فاستمسك الدم ، وجاء محمد بن مسلمة بماء سائع فشرب منه ، ودعا له بخير ، وصلى الظهر قاعداً ، وصلى المسلمون معه قعوداً .
وجاءت نسوة من المهاجرين والأنصار، فيهن عائشة ، وأم أيمن ، وأم سليم ، وأم سليط ، فكن يملأن القرب بالماء ، ويسقين الجرحى ،- رضي الله عنهن أجمعين
No comments:
Post a Comment