Tuesday, 17 December 2024

قراءة في رياض الصالحين ح6 تابع باب الصبر


قراءة في رياض الصالحين
ح 5
تابع : باب الصبر:

14/38 ــ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلْتُ عَلَىٰ النَّبِيِّ ﷺ، وَهُوَ يُوعَكُ، فَقُلْتُ: " يَا رَسُولَ الله إِنَّكَ تُوعَكُ وَعْكاً شَدِيداً، قَالَ:  "أجَلْ، إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلانِ مِنكُمْ"، قُلْتُ: ذلِكَ أنَّ لَكَ أجْرَيْنِ؟ قَالَ:  "أجَلْ ذَلِكَ كَذلِكَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أذىً، شَوْكَةً فَمَا فَوْقَهَا إلَّا كَفَّرَ اللهُ بِهَا سَيِّئاتِهِ، وَحُطَّتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ كَمَا تحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا"   (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.)
و(الوَعْكُ): مَغْثُ الْحُمَّى، وَقِيلَ: الْحُمَّى.
غريب الحديث:
نصب: تعب.
هداية الأحاديث:
1) من رحمة الله بعبده المؤمن، أنه يكفر عَنْهُ بما يصيبه من الهم والغم، والتعب والمرض، وغير ذلك.
2) كلما اشتد المرض والأذىٰ بالعبد المؤمن فصبر، ضاعف الله له الأجر وكفر عَنْهُ الخطايا. قال رسول الله: "
إذا أحَبَّ اللهُ عَبدًا عَسَلَه. قالَ: يا رَسولَ اللهِ، وما عَسَلَه؟ قالَ: يُوَفِّقُ له عَمَلًا صالِحًا بيْنَ يَدَي أجَلِه حتَّى يَرضى عنه جيرانُه -أو قالَ: مَن حَولَه-" ( صحيح الترغيب والترهيب)
3)علىٰ الإنسان ألاّ يجمع علىٰ نفسه بين الأذىٰ وتفويت الثواب، فالواجب عند المصيبة لزوم الصبر وعدم التسخط.
15/39 ــ وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ
"مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُصِبْ مِنْهُ" (رَوَاه البُخَارِيّ).   وَضَبَطُوا (يُصَبْ): بفَتْحِ الصَّادِ وَكَسْرِهَا.
غريب الحديث:
يُصِب منه: أي أن الله يُقدّر عليه المصائب.
هداية الحديث:
1) إن مقابلة الابتلاء بالصبر والاحتساب، يرفع الله به الدرجات، ويكفر الخطيئات.
2) المصائب التي تنزل بالمؤمن دليل علىٰ أن الله يحبه، ويريد به الخير.
16/40 ــ وَعَنْ أنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ:
" لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أحَدكُمُ الْمَوْتَ لضُرٍّ أصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لابُدَّ فَاعِلاً فَلْيقُل: اللهم أحْيِني مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْراً لِي، وَتَوَفَّني إذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْراً لِي". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
 هداية الحديث:
1) النهي عن تمني الموت عند الفتن والمصائب؛ لأن هذا يخالف واجب الصبر، ويدل علىٰ جزع صاحبها.
2)العبد المؤمن يفوض جميع أموره إلىٰ الله، مَعَ حب لقاء الله عز وجل.
"وخيرُ الناس من طالَ عمرُه، وحَسُنَ عملُه،  قال : فأيُّ الناسِ شرٌ ؟ قال : مَن طالَ عمرُه، وساءَ عملُه .          ( صحيح الترغيب والترهيب)
17/41 ــ وَعَنْ أبِي عَبْدِ الله خَبَّابِ بْنِ الأرَتِّ رضي الله عنه قَالَ:
شَكَوْنَا إِلَىٰ رَسُولِ الله ﷺ، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: ألاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ ألاَ تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: "قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ، فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأرْضِ فَيُجْعَلُ فِيها، ثُمَّ يُؤْتَىٰ بالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَىٰ رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، مَا يَصُدُّهُ ذلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ ليُتِمَّنَّ اللهُ هَذَا الأمْرَ حَتَّىٰ يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَىٰ حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلَّا اللهَ وَالذِّئْبَ عَلَىٰ غَنَمِهِ، وَلكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ"   (رَوَاهُ البُخَارِيّ. )
وَفِي رِوايَة: "وَهُوَ مُتَوَسِّد بُرْدَةً وَقَدْ لَقِينَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً".
غريب الحديث:
متوسد بردة:  جعلها تحت رأسه كالوسادة.
هداية الحديث:
1)وجوب الصبر علىٰ أذية أعداء المسلمين، مَعَ الأخذ بأسباب النصر والفرج.
2)من دلائل النبوة: صدق ما أخبر به ﷺ؛ حيث كَانَ عاقبة الصبر ما بَشَّر به من إتمام أمر الدين.

18/42 ــ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ:
"لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ رَسُولُ الله ﷺ نَاساً في الْقِسْمَةِ، فَأعْطَىٰ الأقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مائَةً مِنَ الإبِلِ، وَأعْطَىٰ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ مِثْلَ ذلِكَ، وَأعْطَىٰ نَاساً مِن أشْرَافِ الْعَرَب، وَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْقِسْمَةِ. فَقَالَ رَجُلٌ: وَاللهِ إنَ هَذِهِ قِسْمَةٌ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَمَا أُرِيدَ فِيهَا وَجْهُ الله، فَقُلْتُ: وَاللهِ لأُخْبِرَنَّ رَسُولَ الله ﷺ، فَأتَيْتُهُ فَأخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ، فَتَغيَّرَ وَجْهُهُ حَتَىٰ كَانَ كَالصِّرفِ. ثُمَّ قَالَ: "فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلِ اللهُ وَرَسُولُهُ"؟ ثُمَّ قَالَ: "يَرْحَمُ اللهُ مُوسَى، قَدْ أُوْذِي بِأكْثَرَ مِنْ هذَا فَصَبَرَ". فَقُلْتُ: لا جَرَمَ لا أرْفَعُ إِلَيْهِ بَعْدَهَا حَدِيثاً. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ )
وَقَوْلُهُ: (كَالصِّرْفِ) هُوَ بِكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ: وَهُوَ صِبْغٌ أحْمَر.
غريب الحديث:
لا جرم: حقّاً، بمعنىٰ تحقق الشيء.
هداية الحديث:
1) جواز أن يعطي ولي الأمر من يَرىٰ في إعطائه المصلحة، كَأنْ يكون في ذلك تأليفاً للقلوب.
2) علىٰ العبد أن يقتدي بالأنبياء في الصبر علىٰ الأذى، وأن يحتسب الأجر عند الله تعالىٰ، فإن أوذي فإنه يسلي نفسه بما أصاب الأنبياء قَبْلنا صلوات الله وسلامه عليهم.
19/43 ــ وَعَنْ أنسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ :
"إِذَا أرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ خَيْراً عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الشَرَّ أمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّىٰ يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاء، وَإنَّ اللهَ تَعَالَىٰ إِذَا أحَبَّ قَوْماً ابْتَلاهُم، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضى، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ"
(رَوَاهُ التّرمذي وَقَالَ: حَدِيث حَسَنٌ. )
هداية الحديث:
1) العقوبات تكفّر السيئات.
2) إن إمهال الله عز وجل للعاصين هو استدراج لهم، فالعقوبة تؤخر لحكمةٍ وموعدٍ قدّره الله تعالىٰ:
{حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} ‎﴿الأنعام- ٤٤﴾‏  
فائدة:
في هذه الأحاديث دلالة صريحة علىٰ أن المؤمن كلما كان أقوىٰ إيماناً، ازداد ابتلاءً وامتحاناً، وكلما ضعف إيمانه، خف ابتلاؤه وامتحانه، ففي هذا ردٌّ علىٰ ضعفاء العقول والأحلام الذين يظنون أن المؤمن إذا أصيب ببلاء فإنه غير مرضي عند ربه، وهو ظن باطل ومقاييس فاسدة، لربط الرضىٰ في الآخرة، بالسعة والرخاء في الدنيا.
{أَيَحۡسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِۦ مِن مَّالٖ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمۡ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ بَل لَّا يَشۡعُرُونَ} ( المؤمنون ٥٥ -٥٦)
20/44 ــ وَعَنْ أنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ ابْنٌ لأبي طَلْحَةَ رضي الله عنه يَشْتكِي، فَخَرَجَ أبُو طَلْحَةَ، فَقُبِضَ الصبِيُّ، فَلَمَّا رَجَعَ أبُو طَلْحَةَ قَال:
مَا فَعَلَ ابْنِي؟ قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ وَهِيَ أُمُّ الصَبيِّ: هُوَ أسْكَنُ مَا كَانَ، فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ الْعَشَاءَ فَتَعَشَّى، ثُمَّ أصَابَ مِنْهَا، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَتْ:  "وَارُوا الصَّبِيَّ، فَلَمَّا أصْبَحَ أبُو طَلْحَةَ أتىٰ رَسُولَ الله ﷺ فَأخْبَرَهُ، فَقَالَ: "أعَرَسْتُمُ اللَّيْلَةَ؟"  قَالَ: نَعَم، قَالَ: "اللهم بَارِكْ لَهُمَا؟" فَوَلَدَتْ غُلاماً، فَقَالَ لِي أبُو طَلْحَةَ: احْمِلْهُ حَتَّىٰ تَأْتِي بِهِ النَّبِيَّ ﷺ ، وَبَعَثَ مَعَهُ بِتَمَرَاتٍ، فَقَالَ: «أمَعَهُ شَيْءٌ؟» قَالَ: نَعَمْ، تَمَرَاتٌ، فَأخَذَها النَّبِيُّ ﷺ فَمَضَغَهَا، ثُمَّ أخَذَهَا مِنْ فِيهِ فَجَعَلَهَا فِي فِي الصَّبيِّ، ثُمَّ حَنَّكَهُ، وَسَمَّاهُ عَبْدَ الله."  (مُتَّفَق عَليْه.)
وَفِي رِوَايَةٍ للْبُخَارِيِّ: قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ:
فَرَأيْتُ تِسْعَةَ أوْلادٍ كُلَّهُمْ قَدْ قَرَؤُوا الْقُرْآنَ، يَعْنِي مِنْ أوْلادِ عَبْدِ الله الْمَوْلُودِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: مَاتَ ابْنٌ لأبي طَلْحَةَ مِنْ أُمِّ سُلَيْمٍ، فَقَالَتْ لأهْلِهَا: لا تُحَدِّثُوا أبَا طَلْحَةَ بابنِهِ حَتَّىٰ أكُونَ أنا أُحَدِّثُهُ، فَجَاءَ فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ عَشَاءً فَأكَلَ وَشَرِبَ، ثُمَّ تَصَنَّعَتْ لَهُ أحْسَنَ مَا كَانَتْ تَصَنَّعُ قَبْلَ ذلِكَ، فَوَقَعَ بِهَا، فَلَمَّا أنْ رَأتْ أنّهُ قَدْ شَبِعَ وَأصَابَ مِنْهَا قَالَتْ:  "يَا أبَا طَلْحَةَ، أرَأيْتَ لَوْ أنَّ قَوْماً أعَارُوا عَارِيَتَهُمْ أهْلَ بَيْتٍ فَطَلَبُوا عَارِيَتَهُمْ، أَلَهُم أنْ يَمْنَعُوهُمْ ؟" قَالَ: لا، فَقَالَتْ: فَاحْتَسِبِ ابْنَكَ. قَالَ: فَغَضِبَ، ثُمَّ قَالَ: تَرَكْتِني حَتَّىٰ إذَا تَلَطَّخْتُ ثُمَّ أخْبَرْتِني بابْني! فَانْطَلَقَ حَتَّىٰ أتَىٰ رَسُولَ الله ﷺ فَأخْبَرَهُ بِمَا كَانَ، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: 
"بَارَكَ اللهُ في لَيْلَتِكُما"  قَال: فَحَمَلَتْ، قَال: وَكَانَ رَسُولُ الله ﷺ في سَفَرٍ وَهِيَ مَعَهُ، وَكَانَ رَسُولُ الله ﷺ إذَا أتىٰ الْمَدِينَةَ مِنْ سَفَرٍ لا يَطْرُقُهَا طُرُوقاً فَدَنَوْا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَضَرَبَهَا الْمَخَاضُ، فَاحْتَبَسَ عَلَيْهَا أبُو طَلْحَةَ، وَانْطَلَقَ رَسُولُ الله ﷺ، قَالَ: يَقُولُ أبُو طَلْحَةَ: إِنَّكَ لَتَعْلَمُ يَا رَبِّ أنّهُ يُعْجِبُنِي أنْ أخْرُجَ مَعَ رَسُولِ الله ﷺ إذا خَرَجَ، وَأدْخُلَ مَعَهُ إذَا دَخَلَ، وَقَد احْتبَسْتُ بِمَا تَرَى، تَقُولُ أُمُّ سُلَيْمٍ: يَا أبَا طَلْحَةَ مَا أجِدُ الذي كُنْتُ أجِدُ، انْطَلِقْ، فانطَلَقْنَا، وَضَرَبَهَا المَخَاضُ حِينَ قَدِمَا فَوَلَدَتْ غُلاماً. فَقَالَتْ لِي أُمِّي: يَا أنَسُ لا يُرْضِعُهُ أحَدٌ حَتَّىٰ تَغْدُوَ بِهِ عَلَىٰ رَسُولِ ﷺ، فَلَمَّا أصْبَحَ احْتَمَلْتُه فَانْطَلَقْتُ بِهِ إلَىٰ رَسُولِ الله ﷺ وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ.
غريب الحديث:
أعَرّستم الليلة؟: أعرس الرجل: دخل بامرأته عند بنائه بها.
تلطخت: كناية عن التلوث بالجماع.           لا يطرقها طروقاً: لا يأتيها ليلاً.
 هداية الحديث:
1) علىٰ النساء اليوم اتخاذ القدوات من الصحابيات رضي الله عنهنّ في صبرهن؛ كأم سليم رضي الله عنها.  
2) من صبر واحتسب عند المصيبة أبدله الله عز وجل خيراً مما أصابه في نفسه وأهله.
21/45 ــ وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنَّ رَسُولَ الله ﷺ قَالَ:
"لَيْسَ الشدِيدُ بالصُّرَعةِ، إنَّمَا الشَّديدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عَنْدَ الْغَضَبِ". (مُتَّفَقٌ عَلَيْه.)
(وَالصُّرَعَةُ) بِضَمِّ الصَّادِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، وَأصْلُهُ عِنْدَ الْعَرَبِ مَنْ يَصْرَعُ النَّاسَ كَثِيراً، فيطرحهم ويغلبهم في المصارعة، هذا يقال عنه عند الناس: إنه شديد وقوي، لكن النبي ﷺ يقول: ليس هذا الشديد حقيقة.
22/46 ــ وعَنْ سُلَيْمانَ بْنِ صُرَد رضي الله عنه قَالَ: "كُنْتُ جَالِساً مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، وَرَجُلان يَسْتَبَّانِ، وَأحَدُهُمَا قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ، وَانْتَفَخَتْ أوْدَاجُهُ، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ :
"إنِّي لأعْلَمُ كَلمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أعُوذُ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ذَهَبَ عنْهُ مَا يَجِدُ". فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: "تَعَوَّذْ بالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ".  مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

Monday, 16 December 2024

تفسير سورة الكهف ح 3 أصحاب الكهف وما كان من أمرهم

 
  
 
تفسير سورة الكهف ح 3 أصحاب الكهف وما كان من أمرهم
التفسير :
{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا } ( ٩ )
وهذا الاستفهام بمعنى النفي، والنهي. أي: لا تظن أن قصة أصحاب الكهف، وما جرى لهم، غريبة على آيات الله، وبديعة في حكمته، وأنه لا نظير لها، ولا مجانس لها، بل لله تعالى من الآيات العجيبة الغريبة ما هو كثير، من جنس آياته في أصحاب الكهف وأعظم منها، فلم يزل الله يُري عباده من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم، ما يتبين به الحق من الباطل، والهدى من الضلال، وليس المراد بهذا النفي أن تكون قصة أصحاب الكهف من العجائب، بل هي من آيات الله العجيبة، وإنما المراد أن جنسها كثير جدا، فالوقوف معها وحدها، في مقام العجب والاستغراب، نقص في العلم والعقل، بل وظيفة المؤمن التفكر بجميع آيات الله، التي دعا الله العباد إلى التفكير فيها، فإنها مفتاح الإيمان، وطريق العلم والإيقان. وأضافهم إلى الكهف، و"الكهف " هو : الغار في الجبل، وهو الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية المذكورون. أما الرقيم أي: الكتاب الذي قد رقمت فيه أسماؤهم وقصتهم، وقيل: الرَّقِيمُ: قرية أصحاب الكهف، أو جبلهم، أَو كلبهم، أو الوادي، أَو الصخرة، أو لوح رصاص نقش فيه نسبهم وأسماؤهم ودينهم ومِمَّ هربوا، أو الدواة، أو اللوح ، ورقيم: مرقوم، مكتوب، مُوشًّى، مختوم ثم قرأ :
( كتاب مرقوم) [ المطففين-  ٩ ]، لملازمتهم له دهرا طويلا. وقيل: هو واد قريب من أيلة.
وقوله تعالى: 
{كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} يقول: قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك! يقول: الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب، أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم.
قوله تعالى:
{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} (١٠)، يخبر تعالى عن أولئك الفتية، الذين فروا بدينهم من قومهم لئلا يفتنوهم عنه، فهربوا منه فلجئوا إلى غار في جبل ليختفوا عن قومهم ، فقالوا حين دخلوا سائلين من الله تعالى رحمته ولطفه بهم: ( فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً) أي : هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها وتسترنا عن قومنا (وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) أي: وقدر لنا من أمرنا هذا رشدا، أي:يسر لنا كل سبب موصل إلى الرشد، وأصلح لنا أمر ديننا ودنيانا، فجمعوا بين السعي والفرار من الفتنة، إلى محل يمكن الاستخفاء فيه، وبين تضرعهم وسؤالهم لله تيسير أمورهم، وعدم اتكالهم على أنفسهم وعلى الخلق، فلذلك استجاب الله دعاءهم كما جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها، من دعاء رسول الله ﷺ: "وما قضيْتَ لي مِنْ قضاءٍ فاجعل عاقِبَتَهُ رُشْدًا " (صححه الألباني)، وفي المسند من حديث بسر بن أبي أرطاة، عن رسول الله ﷺ أنه كان يدعو : " اللهم أَحْسِنْ عاقبتَنا في الأمورِ كلِّها، وأَجِرْنا من خِزْيِ الدنيا وعذابِ الآخرةِ " (ضعيف).
{ فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا }
(١١) أي: ألقينا عليهم النوم حين دخلوا إلى الكهف، فناموا سنين كثيرة، وهي ثلاث مائة سنة وتسع سنين.
 والحكمة في النوم المذكور حفظ لقلوبهم من الاضطراب والخوف، وحفظ لهم من قومهم وليكون آية بينة.

{ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا}
(١٢)، { ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ } أي: من نومهم {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا } أي: لنعلم أيهم أحصى لمقدار مدتهم، وخرج أحدهم بدراهم معه ليشتري لهم بها طعاما يأكلونه ، كما سيأتي بيانه وتفصيله، {أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} قيل : {أَمَدًا} أي عددا  أو قدر الزمان الذي ناموا فيه. وقيل: غاية فإن الأمد الغاية كقوله: سبق الجواد إذا استولى على الأمد؛ كما قال تعالى: {كَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} الآية، وفي العلم بمقدار لبثهم، ضبط للحساب، ومعرفة لكمال قدرة الله تعالى وحكمته ورحمته، فلو استمروا على نومهم، لم يحصل الاطلاع على شيء من ذلك من قصتهم.
{ نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } 
(١٣)
 من هاهنا شرع في بسط القصة وشرحها ، فذكر تعالى أنهم فتية - وهم الشباب - وهم أقبل للحق، وأهدى للسبيل من الشيوخ، الذين قد عتوا وعسوا في دين الباطل؛ ولهذا كان أكثر المستجيبين لله ولرسوله ﷺ شبابا. وأما المشايخ من قريش، فعامتهم بقوا على دينهم، ولم يسلم منهم إلا القليل. وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شبابا .
قال مجاهد: بلغني أنه كان في آذان بعضهم القرطة يعني الحلق فألهمهم الله رشدهم وآتاهم تقواهم.
{آمَنُوا بِرَبِّهِمْ }، أي : اعترفوا له بالوحدانية، وشهدوا أنه لا إله إلا هو .
{وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}
: استدل بهذه الآية وأمثالها غير واحد من الأئمة كالبخاري وغيره ممن ذهب إلى زيادة الإيمان وتفاضله، وأنه يزيد وينقص؛ ولهذا قال تعالى: { َزِدْنَاهُمْ هُدًى } كما قال: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [ محمد - 17 ]، وقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} ‎ [التوبة - 124 ]، وقال: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ ۗ} [ الفتح - 4 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك .
وقد ذكر أنهم كانوا على دين عيسى ابن مريم عليه السلام، والله أعلم - والظاهر أنهم كانوا قبل ملة النصرانية بالكلية- وقد تقدم عن ابن عباس: أن قريشا بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة يطلبون منهم أشياء يمتحنون بها رسول الله ﷺ، فبعثوا إليهم أن يسألوه عن خبر هؤلاء، وعن خبر ذي القرنين، وعن الروح، فدل هذا على أن هذا أمر محفوظ في كتب أهل الكتاب،
وأنه متقدم على دين النصرانية ، والله أعلم .

وقوله تعالى: ( وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ إِذۡ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَاْ مِن دُونِهِۦٓ إِلَٰهٗاۖ لَّقَدۡ قُلۡنَآ إِذٗا شَطَطًا ) ﴿١٤﴾
يقول تعالى : وصبَّرناهم على مخالفة قومهم ومدينتهم، ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد والسعادة والنعمة.
 وقد ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم، وأنهم خرجوا يوما في بعض أعياد قومهم، وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه في ظاهر البلد ، وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت، ويذبحون لها، وكان لهم ملك جبار عنيد يقال له : "دقيانوس "، وكان يأمر الناس بذلك ويحثهم عليه ويدعوهم إليه .
فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك، وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم، ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم، عرفوا أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها، لا ينبغي إلا لله الذي خلق السموات والأرض. فجعل كل واحد منهم يتخلص من قومه، وينحاز منهم ويبعد عنهم ناحية. فكان أول من جلس منهم [وحده ] أحدهم، جلس تحت ظل شجرة، فجاء الآخر فجلس عنده، وجاء الآخر فجلس إليهما، وجاء الآخر فجلس إليهم ، وجاء الآخر ، وجاء الآخر ، وجاء الآخر ، ولا يعرف واحد منهم الآخر ، وإنما جمعهم هناك الذي جمع قلوبهم على الإيمان، كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري تعليقا، من حديث يحيى بن سعيد ، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله ﷺ:
" الأرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَما تَعارَفَ مِنْها ائْتَلَفَ، وما تَناكَرَ مِنْها اخْتَلَفَ." . (أخرجه مسلم)
والغرض أنه جعل كل أحد منهم يكتم ما هو فيه عن أصحابه، خوفا منهم، ولا يدري أنهم مثله، حتى قال أحدهم: تعلمون -والله يا قوم- إنه ما أخرجكم من قومكم وأفردكم عنهم، إلا شيء فليظهر كل واحد منكم ما بأمره . فقال آخر: أما أنا فإني [ والله ] رأيت ما قومي عليه، فعرفت أنه باطل، وإنما الذي يستحق أن يعبد [ وحده ] ولا يشرك به شيء هو الله الذي خلق كل شيء السموات والأرض وما بينهما . وقال الآخر : وأنا والله وقع لي كذلك . وقال الآخر كذلك، حتى توافقوا كلهم على كلمة واحدة، فصاروا يدا واحدة وإخوان صدق، فاتخذوا لهم معبدا يعبدون الله فيه، فعرف بهم قومهم، فوشوا بأمرهم إلى ملكهم، فاستحضرهم بين يديه فسألهم عن أمرهم وما هم عليه فأجابوه بالحق، ودعوه إلى الله عز وجل؛ ولهذا أخبر تعالى عنهم بقوله:
(وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ إِذۡ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَاْ مِن دُونِهِۦٓ) و " لن " لنفي التأبيد، أي: لا يقع منا هذا أبدا؛ لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلا؛ ولهذا قال عنهم: ( لَّقَدۡ قُلۡنَآ إِذٗا شَطَطًا)  أي: باطلا وكذبا وبهتانا .
( هَٰٓؤُلَآءِ قَوۡمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةٗۖ لَّوۡلَا يَأۡتُونَ عَلَيۡهِم بِسُلۡطَٰنِۭ بَيِّنٖۖ فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا)﴿١٥﴾،
قالوا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين أي : (هلا أقاموا – أي لو أنهم -جاءوا بدليل على صحة ما ذهبوا إليه واضحا صحيحا ؟! فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا  يقولون هذا: بل إنهم هم الظالمون كاذبون في قولهم ذلك، فيقال: إن ملكهم لما دعوه إلى الإيمان بالله أبى عليهم وتهددهم وتوعدهم، وأمر بنزع لباسهم عنهم الذي كان عليهم من زينة قومهم، وأجلهم لينظروا في أمرهم، لعلهم يراجعون دينهم الذي كانوا عليه . وكان هذا من لطف الله بهم، فإنهم في تلك النظرة توصلوا إلى الهرب منه، والفرار بدينهم من الفتنة .
وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس، أن يفر العبد منهم خوفا على دينه، كما جاء في الحديث :
" يُوشِكُ أنْ يَكونَ خَيْرَ مالِ المُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بها شَعَفَ الجِبالِ ومَواقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ." ( البخاري)، ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس، ولا تشرع فيما عداها؛ لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع، والتوقف عن تبيلغ دعوة الله.
وهم أيضا بينوا أنهم ليسوا على يقين من أمرهم، بل في غاية الجهل والضلال فقالوا:
{لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} أي: بحجة وبرهان، على ما هم عليه من الباطل، ولا يستطيعون سبيلا إلى ذلك، وإنما ذلك افتراء منهم على الله وكذب عليه، وهذا أعظم الظلم، ولهذا قال: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا }.
وقوله تعالى: {وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ يَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَيُهَيِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقٗا}﴿١٦﴾،  فلما وقع عزمهم على الذهاب والهرب من قومهم، واختار الله تعالى لهم ذلك، وأخبر عنهم بذلك في قوله : {وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ) أي: وإذا فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير الله، ففارقوهم أيضا بأبدانكم { فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ يَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ} قوله  {يَنشُرۡ لَكُمۡ} ،أي : يبسط عليكم رحمة يستركم بها من قومكم، {وَيُهَيِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقٗا} [ أي ] الذي أنتم فيه، {مِّرۡفَقٗا}  أي : أمرا ترتفقون به . فعند ذلك خرجوا هرابا إلى الكهف، فأووا إليه، ففقدهم قومهم من بين أظهرهم، وتطلبهم الملك فيقال: إنه لم يظفر بهم، وعمى الله عليه خبرهم. كما فعل بنبيه محمد ﷺ وصاحبه الصديق، حين لجأ إلى غار ثور ، وجاء المشركون من قريش في الطلب، فلم يهتدوا إليه مع أنهم يمرون عليه، وعندها قال النبي ﷺ حين رأى جزع الصديق في قوله : يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لأبصرنا ، فقال :  " يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ " ،وقد قال تعالى : (إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [ التوبة -  ٤٠] فقصة هذا الغار أشرف وأجل وأعظم وأعجب من قصة أصحاب الكهف ، وقد قيل: إن قومهم ظفروا بهم، وقفوا على باب الغار الذي دخلوه ، فقالوا: ما كنا نريد منهم من العقوبة أكثر مما فعلوا بأنفسهم. فأمر الملك بردم بابه عليهم ليهلكوا مكانهم ففعل [ لهم ] ذلك. وفي هذا نظر، والله أعلم؛ فإن الله تعالى قد أخبر أن الشمس تدخل عليهم في الكهف بكرة وعشيا، والله أعلم.
 

Thursday, 12 December 2024

تفسير سورة الكهف - ح 2 -الحمد كله لله تعالى عند فواتح الأمور وخواتيمها


تفسير سورة الكهف- ح 2    
  الحمد كله لله تعالى عند فواتح الأمور وخواتيمها  

 
التفسير :
 
قوله تعالى:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ } (١)
بدأت السورة – وأربع سور معها مثلها- بحمد الله، الإله الواحد الخالق القهار، إنما كان الحمد مقصورا في الحقيقة على الله تبارك وتعالى، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء فهو صادر عنه، ومرجعه إليه إذ هو الخالق لكل شيء، وما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم، فهو في الحقيقة حمد لله، لأنه سبحانه هو الذي وفقهم لذلك، وأعانهم عليه.
هو الرب الإله المحمود في الدنيا والآخرة.. المحمود قبل أن يَخْلِق وبعد ما يَخْلِق، وبعد إفناء الخلق وبعد بعثهم
(وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (القصص-٧٠).
عن رسول الله ﷺ :
(أحب الكلام إلى الله تعالى أربع لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)،
وفي الحديث أيضا عن رسول الله ﷺ:
(فإذا قالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يقولُ اللَّهُ: حمِدَني عبدي، فإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يقولُ اللَّهُ: أثنى عليَّ عَبدي.) (رواه مسلم).
والحمد باق إلى يوم الدين ، وفي الصحيحين: أن النبي ﷺ لما ذكر الشفاعة قال:
« فأخِرُّ ساجِدًا فأحمَدُ ربِّي بمحامِدَ يفتحُها عليَّ لا أُحصيها الآنَ» (مسلم) ، وعنه ﷺ أنه يبعث حامل لواء الحمد، (أنا حَبيبُ اللهِ ولا فَخرَ وأنا حامِلُ لِواءِ الحَمدِ يومَ القيامَةِ ولا فخر) (رواه الألباني)
فهو تعالى يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتيمها، الحمد لله، كلمةُ مباركة، وهي ثناء في دعاء، ودعاء في ثناء. تجري على الألسنة بسهولة ويسر.
وهذا من فضل الله على عباده. أن الكلمة التي اختارها الله فاتحةً لكتابه العزيز، لأن أسرارها وكنوزها عظيمة، فإنه المحمود على كل حال، وله الحمد في الأولى والآخرة ؛ ولهذا حمد نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم محمد ﷺ، فإنه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض؛ إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور، حيث جعله كتابا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا زيغ، بل يهدي إلى صراط مستقيم، بيِّنا واضحا جليا نذيرا للكافرين وبشيرا للمؤمنين؛ ولهذا قال:
(وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ } أي : لم يجعل فيه إعوجاجا ولا زيغا ولا ميلا بل جعله معتدلا مستقيما.
وقد بين بعض المفسرين الحكمة في افتتاح بعض السور بلفظ الحمد دون المدح أو الشكر فقال ما ملخصه:
"أعلم أن المدح أعم من الحمد، وأن الحمد أعم من الشكر، أما بيان أن المدح أعم من الحمد، فلأن المدح يحصل للعاقل ولغير العاقل، فقد يمدح الرجل لعقله، ويمدح اللؤلؤ لحسن شكله.
وأما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار، على ما يصدر منه من الإنعام، فثبت أن المدح أعم من الحمد.
وأما بيان أن الحمد أعم من الشكر، فلأن الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإنعام، سواء أكان ذلك الإنعام واصلا إليك أم إلى غيرك، وأما الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك وحدك، فثبت أن الحمد أعم من الشكر"

وكان قوله
(الْحَمْدُ لِلَّهِ) تصريحا بأن المؤثر في وجود العالم هو الفاعل المختار، الذي وصلت نعمه إلى جميع خلقه، لا إلى بعضهم.
وقوله:
(الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً.)
بيان للأسباب التي توجب على الناس أن يجعلوا حمدهم وعبادتهم لله تبارك وتعالى وحده، إذ الوصف بالموصول، يشعر بعلية ما في حيز الصلة لما قبله.
والعِوج- بكسر العين-
( وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ } أكثر ما يكون استعمالا في المعاني، تقول، هذا كلام لا عوج فيه، أى: لا ميل فيه.
أ
ما العَوج: - بفتح العين- فأكثر ما يكون استعمالا في الأعيان الأشياء، تقول: هذا حائط فيه عَوج.
قد تقدم في أول التفسير أنه تعالى يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتيمها، فإنه المحمود على كل حال، وله الحمد في الأولى والآخرة؛ ولهذا حمد نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم ﷺ، فإنه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض ؛ إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور ، حيث جعله كتابا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا زيغ، بل يهدي إلى صراط مستقيم ، بيِّنا واضحا جليا نذيرا للكافرين وبشيرا للمؤمنين؛ ولهذا قال:
( وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ } أي: لم يجعل فيه اعوجاجا ولا زيغا ولا ميلا بل جعله معتدلا مستقيما.
﴿ قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا﴾(  ٢) ، ولهذا قال : { قَيِّمًا } أي: مستقيما .
{لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ} أي: لمن خالفه وكذبه ولم يؤمن به، ينذره بأسا شديدا، عقوبة عاجلة في الدنيا وآجلة في الآخرة {مِّن لَّدُنْهُ} أي: من عند الله الذي لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد .
{ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: بهذا القرآن الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح يبشر هؤلاء { أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} أي مثوبة عند الله جميلة، ويبشر المؤمنين الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا}  أي مثوبة عند الله جميلة
﴿ مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا﴾( ٣)، أي: في ثوابهم عند الله ماكثين فيه – أي في الجنة- لا يحيدون عنه، خالدين فيه { أَبَدًا } دائما لا زوال له ولا انقضاء،  لا يزول عنهم، ولا يزولون عنه، بل نعيمهم في كل وقت متزايد، وفي ذكر التبشير ما يقتضي ذكر الأعمال الموجبة للمبشر به، وهو أن هذا القرآن قد اشتمل على كل عمل صالح، موصل لما تستبشر به النفوس، وتفرح به الأرواح.
﴿ وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾( ٤ ) ،ينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا وهم اليهود، قالوا عزير ابن الله ، والنصارى قالوا المسيح ابن الله، وقريش قالت الملائكة بنات الله .
فالإنذار في أول السورة عام، وهذا خاص فيمن قال لله ولد .
﴿ مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ ۚ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾ ( ٥ )
﴿ مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ﴾ " من " صلة ، أي ما لهم بذلك القول علم؛ لأنهم مقلدة قالوه بغير دليل  ﴿وَلَا لِآبَائِهِمْ ۚ ﴾  أي أسلافهم .
﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ كلمة نصب على البيان، أي كبرت تلك الكلمة كلمة .
أو عظمت كلمة ؛ يعني قولهم اتخذ الله ولدا، يقال: كبر الشيء إذا عظم وكبر الرجل إذا أسن .
(تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ) في موضع الصفة .﴿إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾  أي ما يقولون إلا كذبا .
لا علم منهم، ولا علم من آبائهم الذين قلدوهم واتبعوهم، بل إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس
{ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} أي: عظمت شناعتها واشتدت عقوبتها، وأي شناعة أعظم من وصفه بالاتخاذ للولد الذي يقتضي نقصه، ومشاركة غيره له في خصائص الربوبية والإلهية، والكذب عليه؟ {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ..} (الأعراف ٣٧) ولهذا قال هنا: {إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} أي: كذبا محضا ما فيه من الصدق شيء.
وتأمل كيف أبطل هذا القول بالتدريج، والانتقال من شيء إلى أبطل منه، فأخبر أولا: أنه
{ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ} والقول على الله بلا علم، لا شك في منعه وبطلانه، ثم أخبر ثانيا، أنه قول قبيح شنيع فقال: { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } ثم ذكر ثالثا مرتبته من القبح، وهو: الكذب المنافي للصدق.
قوله تعالى:
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا } (٦)
ولما كان النبي ﷺ حريصا على هداية الخلق، ساعيا في ذلك أعظم السعي، فكان ﷺ يفرح ويسر بهداية المهتدين، ويحزن ويأسف على المكذبين الضالين، شفقة منه ﷺ عليهم، ورحمة بهم، أرشده الله أن لا يشغل نفسه بالأسف على هؤلاء، الذين لا يؤمنون بهذا القرآن، كما قال في الآية الأخرى:
{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}  (الشعراء  ٣)، وقال { فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } ( فاطر -٨ )، وهنا قال { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} أي: مهلكها، غما وأسفا عليهم، وذلك أن أجرك قد وجب على الله، وهؤلاء لو علم الله فيهم خيرا لهداهم، ولكنه علم أنهم لا يصلحون إلا للنار، فلذلك خذلهم، فلم يهتدوا، فإشغالك نفسك غما وأسفا عليهم، ليس فيه فائدة لك.
وفي هذه الآية ونحوها عبرة، فإن المأمور بدعاء الخلق إلى الله، عليه التبليغ والسعي بكل سبب يوصل إلى الهداية، وسد طرق الضلال والغواية بغاية ما يمكنه، مع التوكل على الله في ذلك، فإن اهتدوا فبها ونعمت، وإلا فلا يحزن ولا يأسف، فإن ذلك مضعف للنفس، هادم للقوى، ليس فيه فائدة، بل يمضي على فعله الذي كلف به وتوجه إليه، وما عدا ذلك، فهو خارج عن قدرته، وإذا كان النبي ﷺ يقول الله له:
{ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [القصص- ٥٦]. وموسى عليه السلام يقول: { قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ۖ } (المائدة ٢٥)، فمن عداهم من باب أولى وأحرى، قال تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } (٢٢سورة الغاشية) .
وقوله تعالى:
{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (٧)
ثم أخبر تعالى أنه جعل جميع ما على وجه الأرض، من مآكل لذيذة، ومشارب، ومساكن طيبة، وأشجار، وأنهار، وزروع، وثمار، ومناظر بهيجة، ورياض أنيقة، وأصوات شجية، وصور مليحة، وذهب وفضة، وخيل وإبل ونحوها، الجميع جعله الله زينة لهذه الدار، دارا فانية مزينة بزينة زائلة . وإنما جعلها دار اختبار لا دار قرار ، فقال :
{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}
عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله ﷺ أنه قال:
" إنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وإنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كيفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ؛ فإنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ في النِّسَاءِ. وفي روايةٍ: لِيَنْظُرَ كيفَ تَعْمَلُونَ." (صحيح مسلم)
وقال العليِّ الكبير:
{ لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } أي: أخلصهم وأصوبهم عملا، ومع ذلك سيجعل الله جميع هذه المذكورات، فانية مضمحلة، وزائلة منقضية.
وقوله تعالى:
{ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } (٨)
وستعود الأرض صعيدا جرزا قد ذهبت لذاتها، وانقطعت أنهارها، واندرست أثارها، وزال نعيمها، هذه حقيقة الدنيا، قد جلاها الله لنا كأنها رأي عين، وحذرنا من الاغترار بها، ورغبنا في دار يدوم نعيمها، ويسعد مقيمها، كل ذلك رحمة بنا، فاغتر بزخرف الدنيا وزينتها، من نظر إلى ظاهر الدنيا، دون باطنها، فصحبوا الدنيا صحبة البهائم، وتمتعوا بها تمتع السوائم، لا ينظرون في حق ربهم، ولا يهتمون لمعرفته، بل همهم تناول الشهوات، من أي وجه حصلت، وعلى أي حالة اتفقت، فهؤلاء إذا حضر أحدهم الموت، قلق لخراب ذاته، وفوات لذاته، لا لما قدمت يداه من التفريط والسيئات.
وأما من نظر إلى باطن الدنيا، وعلم المقصود منها ومنه، فإنه يتناول منها، ما يستعين به على ما خلق له، وانتهز الفرصة في عمره الشريف، فجعل الدنيا منزل عبور، لا محل حبور، وشقة سفر، لا منزل إقامة، فبذل جهده في معرفة ربه، وتنفيذ أوامره، وإحسان العمل، فهذا بأحسن المنازل عند الله، وهو حقيق منه بكل كرامة ونعيم، وسرور وتكريم.

قراءة في رياض الصالحين - ح 4-5 - تتمة: باب الصبر

   
سورة الكهف
التفسير  – ح 2
سبحانه وتعالى له الحمد كله
وهو يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتيمها


التفسير :
قوله تعالى:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ } (١)
بدأت السورة – وأربع سور معها مثلها- بحمد الله، الإله الواحد الخالق القهار، إنما كان الحمد مقصورا في الحقيقة على الله تبارك وتعالى، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء فهو صادر عنه، ومرجعه إليه إذ هو الخالق لكل شيء، وما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم، فهو في الحقيقة حمد لله، لأنه سبحانه هو الذي وفقهم لذلك، وأعانهم عليه.
هو الرب الإله المحمود في الدنيا والآخرة.. المحمود قبل أن يَخْلِق وبعد ما يَخْلِق، وبعد إفناء الخلق وبعد بعثهم
(وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (القصص-٧٠).
عن رسول الله ﷺ :
(أحب الكلام إلى الله تعالى أربع لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)،
وفي الحديث أيضا عن رسول الله ﷺ: (فإذا قالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يقولُ اللَّهُ: حمِدَني عبدي، فإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يقولُ اللَّهُ: أثنى عليَّ عَبدي.) (رواه مسلم).
والحمد باق إلى يوم الدين ، وفي الصحيحين: أن النبي ﷺ لما ذكر الشفاعة قال:
« فأخِرُّ ساجِدًا فأحمَدُ ربِّي بمحامِدَ يفتحُها عليَّ لا أُحصيها الآنَ» (مسلم) ، وعنه ﷺ أنه يبعث حامل لواء الحمد، (أنا حَبيبُ اللهِ ولا فَخرَ وأنا حامِلُ لِواءِ الحَمدِ يومَ القيامَةِ ولا فخر) ( رواه الألباني)
فهو تعالى يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتيمها، الحمد لله، كلمةُ مباركة، وهي ثناء في دعاء، ودعاء في ثناء. تجري على الألسنة بسهولة ويسر.
وهذا من فضل الله على عباده. أن الكلمة التي اختارها الله فاتحةً لكتابه العزيز، لأن أسرارها وكنوزها عظيمة، فإنه المحمود على كل حال، وله الحمد في الأولى والآخرة ؛ ولهذا حمد نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم محمد ﷺ، فإنه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض؛ إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور، حيث جعله كتابا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا زيغ، بل يهدي إلى صراط مستقيم، بيِّنا واضحا جليا نذيرا للكافرين وبشيرا للمؤمنين؛ ولهذا قال:
(وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ } أي : لم يجعل فيه إعوجاجا ولا زيغا ولا ميلا بل جعله معتدلا مستقيما.
وقد بين بعض المفسرين الحكمة في افتتاح بعض السور بلفظ الحمد دون المدح أو الشكر فقال ما ملخصه: «أعلم أن المدح أعم من الحمد، وأن الحمد أعم من الشكر، أما بيان أن المدح أعم من الحمد، فلأن المدح يحصل للعاقل ولغير العاقل، فقد يمدح الرجل لعقله، ويمدح اللؤلؤ لحسن شكله.
وأما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار، على ما يصدر منه من الإنعام، فثبت أن المدح أعم من الحمد.
وأما بيان أن الحمد أعم من الشكر، فلأن الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإنعام، سواء أكان ذلك الإنعام واصلا إليك أم إلى غيرك، وأما الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك وحدك، فثبت أن الحمد أعم من الشكر.
وكان قوله
(الْحَمْدُ لِلَّهِ) تصريحا بأن المؤثر في وجود العالم هو الفاعل المختار، الذي وصلت نعمه إلى جميع خلقه، لا إلى بعضهم.
وقوله: (الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً.)
بيان للأسباب التي توجب على الناس أن يجعلوا حمدهم وعبادتهم لله تبارك وتعالى وحده، إذ الوصف بالموصول، يشعر بعلية ما في حيز الصلة لما قبله.
والعِوج- بكسر العين
-( وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ } أكثر ما يكون استعمالا في المعاني، تقول، هذا كلام لا عوج فيه، أى: لا ميل فيه.
أما العَوج: - بفتح العين- فأكثر ما يكون استعمالا في الأعيان الأشياء، تقول: هذا حائط فيه عَوج.
قد تقدم في أول التفسير أنه تعالى يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتيمها، فإنه المحمود على كل حال، وله الحمد في الأولى والآخرة؛ ولهذا حمد نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم ﷺ، فإنه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض ؛ إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور ، حيث جعله كتابا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا زيغ، بل يهدي إلى صراط مستقيم ، بيِّنا واضحا جليا نذيرا للكافرين وبشيرا للمؤمنين؛ ولهذا قال:
( وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ } أي: لم يجعل فيه اعوجاجا ولا زيغا ولا ميلا بل جعله معتدلا مستقيما.
﴿ قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا﴾(  ٢) ، ولهذا قال : { قَيِّمًا } أي: مستقيما .
{لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ} أي: لمن خالفه وكذبه ولم يؤمن به، ينذره بأسا شديدا، عقوبة عاجلة في الدنيا وآجلة في الآخرة {مِّن لَّدُنْهُ} أي: من عند الله الذي لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد .
{ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: بهذا القرآن الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح يبشر هؤلاء { أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} أي مثوبة عند الله جميلة، ويبشر المؤمنين الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا}  أي مثوبة عند الله جميلة
﴿ مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا﴾( ٣)، أي: في ثوابهم عند الله ماكثين فيه – أي في الجنة- لا يحيدون عنه، خالدين فيه { أَبَدًا } دائما لا زوال له ولا انقضاء،  لا يزول عنهم، ولا يزولون عنه، بل نعيمهم في كل وقت متزايد، وفي ذكر التبشير ما يقتضي ذكر الأعمال الموجبة للمبشر به، وهو أن هذا القرآن قد اشتمل على كل عمل صالح، موصل لما تستبشر به النفوس، وتفرح به الأرواح.
﴿ وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾( ٤ ) ،ينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا وهم اليهود، قالوا عزير ابن الله ، والنصارى قالوا المسيح ابن الله، وقريش قالت الملائكة بنات الله .
فالإنذار في أول السورة عام، وهذا خاص فيمن قال لله ولد .

﴿ مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ ۚ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾ ( ٥ )
﴿ مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ﴾ " من " صلة ، أي ما لهم بذلك القول علم؛ لأنهم مقلدة قالوه بغير دليل  ﴿وَلَا لِآبَائِهِمْ ۚ ﴾  أي أسلافهم .
﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ كلمة نصب على البيان، أي كبرت تلك الكلمة كلمة .
أو عظمت كلمة ؛ يعني قولهم اتخذ الله ولدا، يقال: كبر الشيء إذا عظم وكبر الرجل إذا أسن .

(تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ) في موضع الصفة .﴿إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾أي ما يقولون إلا كذبا .
لا علم منهم، ولا علم من آبائهم الذين قلدوهم واتبعوهم، بل إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس
{ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} أي: عظمت شناعتها واشتدت عقوبتها، وأي شناعة أعظم من وصفه بالاتخاذ للولد الذي يقتضي نقصه، ومشاركة غيره له في خصائص الربوبية والإلهية، والكذب عليه؟ {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ..} (الأعراف ٣٧) ولهذا قال هنا: {إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} أي: كذبا محضا ما فيه من الصدق شيء.
وتأمل كيف أبطل هذا القول بالتدريج، والانتقال من شيء إلى أبطل منه، فأخبر أولا: أنه
{ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ} والقول على الله بلا علم، لا شك في منعه وبطلانه، ثم أخبر ثانيا، أنه قول قبيح شنيع فقال: { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } ثم ذكر ثالثا مرتبته من القبح، وهو: الكذب المنافي للصدق.
قوله تعالى:
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا } (٦)
ولما كان النبي ﷺ حريصا على هداية الخلق، ساعيا في ذلك أعظم السعي، فكان ﷺ يفرح ويسر بهداية المهتدين، ويحزن ويأسف على المكذبين الضالين، شفقة منه ﷺ عليهم، ورحمة بهم، أرشده الله أن لا يشغل نفسه بالأسف على هؤلاء، الذين لا يؤمنون بهذا القرآن، كما قال في الآية الأخرى:
{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}  (الشعراء  ٣)، وقال { فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } ( فاطر -٨ )، وهنا قال { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} أي: مهلكها، غما وأسفا عليهم، وذلك أن أجرك قد وجب على الله، وهؤلاء لو علم الله فيهم خيرا لهداهم، ولكنه علم أنهم لا يصلحون إلا للنار، فلذلك خذلهم، فلم يهتدوا، فإشغالك نفسك غما وأسفا عليهم، ليس فيه فائدة لك.
وفي هذه الآية ونحوها عبرة، فإن المأمور بدعاء الخلق إلى الله، عليه التبليغ والسعي بكل سبب يوصل إلى الهداية، وسد طرق الضلال والغواية بغاية ما يمكنه، مع التوكل على الله في ذلك، فإن اهتدوا فبها ونعمت، وإلا فلا يحزن ولا يأسف، فإن ذلك مضعف للنفس، هادم للقوى، ليس فيه فائدة، بل يمضي على فعله الذي كلف به وتوجه إليه، وما عدا ذلك، فهو خارج عن قدرته، وإذا كان النبي ﷺ يقول الله له:
{ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [القصص- ٥٦]. وموسى عليه السلام يقول: { قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ۖ } (المائدة ٢٥)، فمن عداهم من باب أولى وأحرى، قال تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } (٢٢سورة الغاشية) .
وقوله تعالى:
{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (٧)
ثم أخبر تعالى أنه جعل جميع ما على وجه الأرض، من مآكل لذيذة، ومشارب، ومساكن طيبة، وأشجار، وأنهار، وزروع، وثمار، ومناظر بهيجة، ورياض أنيقة، وأصوات شجية، وصور مليحة، وذهب وفضة، وخيل وإبل ونحوها، الجميع جعله الله زينة لهذه الدار، دارا فانية مزينة بزينة زائلة . وإنما جعلها دار اختبار لا دار قرار ، فقال : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}
عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله ﷺ أنه قال: " إنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وإنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كيفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ؛ فإنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ في النِّسَاءِ. وفي روايةٍ: لِيَنْظُرَ كيفَ تَعْمَلُونَ." (صحيح مسلم)
وقال العليِّ الكبير: { لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } أي: أخلصهم وأصوبهم عملا، ومع ذلك سيجعل الله جميع هذه المذكورات، فانية مضمحلة، وزائلة منقضية.
وقوله تعالى: { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } (٨)
وستعود الأرض صعيدا جرزا قد ذهبت لذاتها، وانقطعت أنهارها، واندرست أثارها، وزال نعيمها، هذه حقيقة الدنيا، قد جلاها الله لنا كأنها
رأي عين، وحذرنا من الاغترار بها، ورغبنا في دار يدوم نعيمها، ويسعد مقيمها، كل ذلك رحمة بنا، فاغتر بزخرف الدنيا وزينتها، من نظر إلى ظاهر الدنيا، دون باطنها، فصحبوا الدنيا صحبة البهائم، وتمتعوا بها تمتع السوائم، لا ينظرون في حق ربهم، ولا يهتمون لمعرفته، بل همهم تناول الشهوات، من أي وجه حصلت، وعلى أي حالة اتفقت، فهؤلاء إذا حضر أحدهم الموت، قلق لخراب ذاته، وفوات لذاته، لا لما قدمت يداه من التفريط والسيئات.
وأما من نظر إلى باطن الدنيا، وعلم المقصود منها ومنه، فإنه يتناول منها، ما يستعين به على ما خلق له، وانتهز الفرصة في عمره الشريف، فجعل الدنيا منزل عبور، لا محل حبور، وشقة سفر، لا منزل إقامة، فبذل جهده في معرفة ربه، وتنفيذ أوامره، وإحسان العمل، فهذا بأحسن المنازل عند الله، وهو حقيق منه بكل كرامة ونعيم، وسرور وتكريم.