سورة الكهف
التفسير – ح 2
سبحانه وتعالى له الحمد كله
وهو يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتيمها
سبحانه وتعالى له الحمد كله
وهو يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتيمها
التفسير :
قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ } (١)
بدأت السورة – وأربع سور معها مثلها- بحمد الله، الإله الواحد الخالق القهار، إنما كان الحمد مقصورا في الحقيقة على الله تبارك وتعالى، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء فهو صادر عنه، ومرجعه إليه إذ هو الخالق لكل شيء، وما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم، فهو في الحقيقة حمد لله، لأنه سبحانه هو الذي وفقهم لذلك، وأعانهم عليه.
هو الرب الإله المحمود في الدنيا والآخرة.. المحمود قبل أن يَخْلِق وبعد ما يَخْلِق، وبعد إفناء الخلق وبعد بعثهم (وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (القصص-٧٠).
عن رسول الله ﷺ : (أحب الكلام إلى الله تعالى أربع لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)،
وفي الحديث أيضا عن رسول الله ﷺ: (فإذا قالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يقولُ اللَّهُ: حمِدَني عبدي، فإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يقولُ اللَّهُ: أثنى عليَّ عَبدي.) (رواه مسلم).
والحمد باق إلى يوم الدين ، وفي الصحيحين: أن النبي ﷺ لما ذكر الشفاعة قال: « فأخِرُّ ساجِدًا فأحمَدُ ربِّي بمحامِدَ يفتحُها عليَّ لا أُحصيها الآنَ» (مسلم) ، وعنه ﷺ أنه يبعث حامل لواء الحمد، (أنا حَبيبُ اللهِ ولا فَخرَ وأنا حامِلُ لِواءِ الحَمدِ يومَ القيامَةِ ولا فخر) ( رواه الألباني)
فهو تعالى يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتيمها، الحمد لله، كلمةُ مباركة، وهي ثناء في دعاء، ودعاء في ثناء. تجري على الألسنة بسهولة ويسر.
وهذا من فضل الله على عباده. أن الكلمة التي اختارها الله فاتحةً لكتابه العزيز، لأن أسرارها وكنوزها عظيمة، فإنه المحمود على كل حال، وله الحمد في الأولى والآخرة ؛ ولهذا حمد نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم محمد ﷺ، فإنه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض؛ إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور، حيث جعله كتابا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا زيغ، بل يهدي إلى صراط مستقيم، بيِّنا واضحا جليا نذيرا للكافرين وبشيرا للمؤمنين؛ ولهذا قال: (وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ } أي : لم يجعل فيه إعوجاجا ولا زيغا ولا ميلا بل جعله معتدلا مستقيما.
وقد بين بعض المفسرين الحكمة في افتتاح بعض السور بلفظ الحمد دون المدح أو الشكر فقال ما ملخصه: «أعلم أن المدح أعم من الحمد، وأن الحمد أعم من الشكر، أما بيان أن المدح أعم من الحمد، فلأن المدح يحصل للعاقل ولغير العاقل، فقد يمدح الرجل لعقله، ويمدح اللؤلؤ لحسن شكله.
وأما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار، على ما يصدر منه من الإنعام، فثبت أن المدح أعم من الحمد.
وأما بيان أن الحمد أعم من الشكر، فلأن الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإنعام، سواء أكان ذلك الإنعام واصلا إليك أم إلى غيرك، وأما الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك وحدك، فثبت أن الحمد أعم من الشكر.
وكان قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) تصريحا بأن المؤثر في وجود العالم هو الفاعل المختار، الذي وصلت نعمه إلى جميع خلقه، لا إلى بعضهم.
وقوله: (الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً.)
بيان للأسباب التي توجب على الناس أن يجعلوا حمدهم وعبادتهم لله تبارك وتعالى وحده، إذ الوصف بالموصول، يشعر بعلية ما في حيز الصلة لما قبله.
والعِوج- بكسر العين-( وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ } أكثر ما يكون استعمالا في المعاني، تقول، هذا كلام لا عوج فيه، أى: لا ميل فيه.
أما العَوج: - بفتح العين- فأكثر ما يكون استعمالا في الأعيان الأشياء، تقول: هذا حائط فيه عَوج.
قد تقدم في أول التفسير أنه تعالى يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتيمها، فإنه المحمود على كل حال، وله الحمد في الأولى والآخرة؛ ولهذا حمد نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم ﷺ، فإنه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض ؛ إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور ، حيث جعله كتابا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا زيغ، بل يهدي إلى صراط مستقيم ، بيِّنا واضحا جليا نذيرا للكافرين وبشيرا للمؤمنين؛ ولهذا قال: ( وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ } أي: لم يجعل فيه اعوجاجا ولا زيغا ولا ميلا بل جعله معتدلا مستقيما.
﴿ قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا﴾( ٢) ، ولهذا قال : { قَيِّمًا } أي: مستقيما .
{لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ} أي: لمن خالفه وكذبه ولم يؤمن به، ينذره بأسا شديدا، عقوبة عاجلة في الدنيا وآجلة في الآخرة {مِّن لَّدُنْهُ} أي: من عند الله الذي لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد .
{ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: بهذا القرآن الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح يبشر هؤلاء { أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} أي مثوبة عند الله جميلة، ويبشر المؤمنين الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} أي مثوبة عند الله جميلة
﴿ مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا﴾( ٣)، أي: في ثوابهم عند الله ماكثين فيه – أي في الجنة- لا يحيدون عنه، خالدين فيه { أَبَدًا } دائما لا زوال له ولا انقضاء، لا يزول عنهم، ولا يزولون عنه، بل نعيمهم في كل وقت متزايد، وفي ذكر التبشير ما يقتضي ذكر الأعمال الموجبة للمبشر به، وهو أن هذا القرآن قد اشتمل على كل عمل صالح، موصل لما تستبشر به النفوس، وتفرح به الأرواح.
﴿ وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾( ٤ ) ،ينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا وهم اليهود، قالوا عزير ابن الله ، والنصارى قالوا المسيح ابن الله، وقريش قالت الملائكة بنات الله .
فالإنذار في أول السورة عام، وهذا خاص فيمن قال لله ولد .
﴿ مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ ۚ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾ ( ٥ )
﴿ مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ﴾ " من " صلة ، أي ما لهم بذلك القول علم؛ لأنهم مقلدة قالوه بغير دليل ﴿وَلَا لِآبَائِهِمْ ۚ ﴾ أي أسلافهم .
﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ كلمة نصب على البيان، أي كبرت تلك الكلمة كلمة .
أو عظمت كلمة ؛ يعني قولهم اتخذ الله ولدا، يقال: كبر الشيء إذا عظم وكبر الرجل إذا أسن .
(تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ) في موضع الصفة .﴿إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾أي ما يقولون إلا كذبا .
لا علم منهم، ولا علم من آبائهم الذين قلدوهم واتبعوهم، بل إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} أي: عظمت شناعتها واشتدت عقوبتها، وأي شناعة أعظم من وصفه بالاتخاذ للولد الذي يقتضي نقصه، ومشاركة غيره له في خصائص الربوبية والإلهية، والكذب عليه؟ {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ..} (الأعراف ٣٧) ولهذا قال هنا: {إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} أي: كذبا محضا ما فيه من الصدق شيء.
وتأمل كيف أبطل هذا القول بالتدريج، والانتقال من شيء إلى أبطل منه، فأخبر أولا: أنه { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ} والقول على الله بلا علم، لا شك في منعه وبطلانه، ثم أخبر ثانيا، أنه قول قبيح شنيع فقال: { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } ثم ذكر ثالثا مرتبته من القبح، وهو: الكذب المنافي للصدق.
قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا } (٦)
ولما كان النبي ﷺ حريصا على هداية الخلق، ساعيا في ذلك أعظم السعي، فكان ﷺ يفرح ويسر بهداية المهتدين، ويحزن ويأسف على المكذبين الضالين، شفقة منه ﷺ عليهم، ورحمة بهم، أرشده الله أن لا يشغل نفسه بالأسف على هؤلاء، الذين لا يؤمنون بهذا القرآن، كما قال في الآية الأخرى: { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (الشعراء ٣)، وقال { فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } ( فاطر -٨ )، وهنا قال { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} أي: مهلكها، غما وأسفا عليهم، وذلك أن أجرك قد وجب على الله، وهؤلاء لو علم الله فيهم خيرا لهداهم، ولكنه علم أنهم لا يصلحون إلا للنار، فلذلك خذلهم، فلم يهتدوا، فإشغالك نفسك غما وأسفا عليهم، ليس فيه فائدة لك.
وفي هذه الآية ونحوها عبرة، فإن المأمور بدعاء الخلق إلى الله، عليه التبليغ والسعي بكل سبب يوصل إلى الهداية، وسد طرق الضلال والغواية بغاية ما يمكنه، مع التوكل على الله في ذلك، فإن اهتدوا فبها ونعمت، وإلا فلا يحزن ولا يأسف، فإن ذلك مضعف للنفس، هادم للقوى، ليس فيه فائدة، بل يمضي على فعله الذي كلف به وتوجه إليه، وما عدا ذلك، فهو خارج عن قدرته، وإذا كان النبي ﷺ يقول الله له: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [القصص- ٥٦]. وموسى عليه السلام يقول: { قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ۖ } (المائدة ٢٥)، فمن عداهم من باب أولى وأحرى، قال تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } (٢٢سورة الغاشية) .
وقوله تعالى: { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (٧)
ثم أخبر تعالى أنه جعل جميع ما على وجه الأرض، من مآكل لذيذة، ومشارب، ومساكن طيبة، وأشجار، وأنهار، وزروع، وثمار، ومناظر بهيجة، ورياض أنيقة، وأصوات شجية، وصور مليحة، وذهب وفضة، وخيل وإبل ونحوها، الجميع جعله الله زينة لهذه الدار، دارا فانية مزينة بزينة زائلة . وإنما جعلها دار اختبار لا دار قرار ، فقال : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}
عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله ﷺ أنه قال: " إنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وإنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كيفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ؛ فإنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ في النِّسَاءِ. وفي روايةٍ: لِيَنْظُرَ كيفَ تَعْمَلُونَ." (صحيح مسلم)
وقال العليِّ الكبير: { لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } أي: أخلصهم وأصوبهم عملا، ومع ذلك سيجعل الله جميع هذه المذكورات، فانية مضمحلة، وزائلة منقضية.
وقوله تعالى: { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } (٨)
وستعود الأرض صعيدا جرزا قد ذهبت لذاتها، وانقطعت أنهارها، واندرست أثارها، وزال نعيمها، هذه حقيقة الدنيا، قد جلاها الله لنا كأنها رأي عين، وحذرنا من الاغترار بها، ورغبنا في دار يدوم نعيمها، ويسعد مقيمها، كل ذلك رحمة بنا، فاغتر بزخرف الدنيا وزينتها، من نظر إلى ظاهر الدنيا، دون باطنها، فصحبوا الدنيا صحبة البهائم، وتمتعوا بها تمتع السوائم، لا ينظرون في حق ربهم، ولا يهتمون لمعرفته، بل همهم تناول الشهوات، من أي وجه حصلت، وعلى أي حالة اتفقت، فهؤلاء إذا حضر أحدهم الموت، قلق لخراب ذاته، وفوات لذاته، لا لما قدمت يداه من التفريط والسيئات.
وأما من نظر إلى باطن الدنيا، وعلم المقصود منها ومنه، فإنه يتناول منها، ما يستعين به على ما خلق له، وانتهز الفرصة في عمره الشريف، فجعل الدنيا منزل عبور، لا محل حبور، وشقة سفر، لا منزل إقامة، فبذل جهده في معرفة ربه، وتنفيذ أوامره، وإحسان العمل، فهذا بأحسن المنازل عند الله، وهو حقيق منه بكل كرامة ونعيم، وسرور وتكريم.
قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ } (١)
بدأت السورة – وأربع سور معها مثلها- بحمد الله، الإله الواحد الخالق القهار، إنما كان الحمد مقصورا في الحقيقة على الله تبارك وتعالى، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء فهو صادر عنه، ومرجعه إليه إذ هو الخالق لكل شيء، وما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم، فهو في الحقيقة حمد لله، لأنه سبحانه هو الذي وفقهم لذلك، وأعانهم عليه.
هو الرب الإله المحمود في الدنيا والآخرة.. المحمود قبل أن يَخْلِق وبعد ما يَخْلِق، وبعد إفناء الخلق وبعد بعثهم (وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (القصص-٧٠).
عن رسول الله ﷺ : (أحب الكلام إلى الله تعالى أربع لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)،
وفي الحديث أيضا عن رسول الله ﷺ: (فإذا قالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يقولُ اللَّهُ: حمِدَني عبدي، فإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يقولُ اللَّهُ: أثنى عليَّ عَبدي.) (رواه مسلم).
والحمد باق إلى يوم الدين ، وفي الصحيحين: أن النبي ﷺ لما ذكر الشفاعة قال: « فأخِرُّ ساجِدًا فأحمَدُ ربِّي بمحامِدَ يفتحُها عليَّ لا أُحصيها الآنَ» (مسلم) ، وعنه ﷺ أنه يبعث حامل لواء الحمد، (أنا حَبيبُ اللهِ ولا فَخرَ وأنا حامِلُ لِواءِ الحَمدِ يومَ القيامَةِ ولا فخر) ( رواه الألباني)
فهو تعالى يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتيمها، الحمد لله، كلمةُ مباركة، وهي ثناء في دعاء، ودعاء في ثناء. تجري على الألسنة بسهولة ويسر.
وهذا من فضل الله على عباده. أن الكلمة التي اختارها الله فاتحةً لكتابه العزيز، لأن أسرارها وكنوزها عظيمة، فإنه المحمود على كل حال، وله الحمد في الأولى والآخرة ؛ ولهذا حمد نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم محمد ﷺ، فإنه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض؛ إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور، حيث جعله كتابا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا زيغ، بل يهدي إلى صراط مستقيم، بيِّنا واضحا جليا نذيرا للكافرين وبشيرا للمؤمنين؛ ولهذا قال: (وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ } أي : لم يجعل فيه إعوجاجا ولا زيغا ولا ميلا بل جعله معتدلا مستقيما.
وقد بين بعض المفسرين الحكمة في افتتاح بعض السور بلفظ الحمد دون المدح أو الشكر فقال ما ملخصه: «أعلم أن المدح أعم من الحمد، وأن الحمد أعم من الشكر، أما بيان أن المدح أعم من الحمد، فلأن المدح يحصل للعاقل ولغير العاقل، فقد يمدح الرجل لعقله، ويمدح اللؤلؤ لحسن شكله.
وأما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار، على ما يصدر منه من الإنعام، فثبت أن المدح أعم من الحمد.
وأما بيان أن الحمد أعم من الشكر، فلأن الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإنعام، سواء أكان ذلك الإنعام واصلا إليك أم إلى غيرك، وأما الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك وحدك، فثبت أن الحمد أعم من الشكر.
وكان قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) تصريحا بأن المؤثر في وجود العالم هو الفاعل المختار، الذي وصلت نعمه إلى جميع خلقه، لا إلى بعضهم.
وقوله: (الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً.)
بيان للأسباب التي توجب على الناس أن يجعلوا حمدهم وعبادتهم لله تبارك وتعالى وحده، إذ الوصف بالموصول، يشعر بعلية ما في حيز الصلة لما قبله.
والعِوج- بكسر العين-( وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ } أكثر ما يكون استعمالا في المعاني، تقول، هذا كلام لا عوج فيه، أى: لا ميل فيه.
أما العَوج: - بفتح العين- فأكثر ما يكون استعمالا في الأعيان الأشياء، تقول: هذا حائط فيه عَوج.
قد تقدم في أول التفسير أنه تعالى يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتيمها، فإنه المحمود على كل حال، وله الحمد في الأولى والآخرة؛ ولهذا حمد نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم ﷺ، فإنه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض ؛ إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور ، حيث جعله كتابا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا زيغ، بل يهدي إلى صراط مستقيم ، بيِّنا واضحا جليا نذيرا للكافرين وبشيرا للمؤمنين؛ ولهذا قال: ( وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ } أي: لم يجعل فيه اعوجاجا ولا زيغا ولا ميلا بل جعله معتدلا مستقيما.
﴿ قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا﴾( ٢) ، ولهذا قال : { قَيِّمًا } أي: مستقيما .
{لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ} أي: لمن خالفه وكذبه ولم يؤمن به، ينذره بأسا شديدا، عقوبة عاجلة في الدنيا وآجلة في الآخرة {مِّن لَّدُنْهُ} أي: من عند الله الذي لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد .
{ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: بهذا القرآن الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح يبشر هؤلاء { أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} أي مثوبة عند الله جميلة، ويبشر المؤمنين الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} أي مثوبة عند الله جميلة
﴿ مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا﴾( ٣)، أي: في ثوابهم عند الله ماكثين فيه – أي في الجنة- لا يحيدون عنه، خالدين فيه { أَبَدًا } دائما لا زوال له ولا انقضاء، لا يزول عنهم، ولا يزولون عنه، بل نعيمهم في كل وقت متزايد، وفي ذكر التبشير ما يقتضي ذكر الأعمال الموجبة للمبشر به، وهو أن هذا القرآن قد اشتمل على كل عمل صالح، موصل لما تستبشر به النفوس، وتفرح به الأرواح.
﴿ وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾( ٤ ) ،ينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا وهم اليهود، قالوا عزير ابن الله ، والنصارى قالوا المسيح ابن الله، وقريش قالت الملائكة بنات الله .
فالإنذار في أول السورة عام، وهذا خاص فيمن قال لله ولد .
﴿ مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ ۚ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾ ( ٥ )
﴿ مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ﴾ " من " صلة ، أي ما لهم بذلك القول علم؛ لأنهم مقلدة قالوه بغير دليل ﴿وَلَا لِآبَائِهِمْ ۚ ﴾ أي أسلافهم .
﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ كلمة نصب على البيان، أي كبرت تلك الكلمة كلمة .
أو عظمت كلمة ؛ يعني قولهم اتخذ الله ولدا، يقال: كبر الشيء إذا عظم وكبر الرجل إذا أسن .
(تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ) في موضع الصفة .﴿إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾أي ما يقولون إلا كذبا .
لا علم منهم، ولا علم من آبائهم الذين قلدوهم واتبعوهم، بل إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} أي: عظمت شناعتها واشتدت عقوبتها، وأي شناعة أعظم من وصفه بالاتخاذ للولد الذي يقتضي نقصه، ومشاركة غيره له في خصائص الربوبية والإلهية، والكذب عليه؟ {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ..} (الأعراف ٣٧) ولهذا قال هنا: {إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} أي: كذبا محضا ما فيه من الصدق شيء.
وتأمل كيف أبطل هذا القول بالتدريج، والانتقال من شيء إلى أبطل منه، فأخبر أولا: أنه { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ} والقول على الله بلا علم، لا شك في منعه وبطلانه، ثم أخبر ثانيا، أنه قول قبيح شنيع فقال: { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } ثم ذكر ثالثا مرتبته من القبح، وهو: الكذب المنافي للصدق.
قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا } (٦)
ولما كان النبي ﷺ حريصا على هداية الخلق، ساعيا في ذلك أعظم السعي، فكان ﷺ يفرح ويسر بهداية المهتدين، ويحزن ويأسف على المكذبين الضالين، شفقة منه ﷺ عليهم، ورحمة بهم، أرشده الله أن لا يشغل نفسه بالأسف على هؤلاء، الذين لا يؤمنون بهذا القرآن، كما قال في الآية الأخرى: { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (الشعراء ٣)، وقال { فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } ( فاطر -٨ )، وهنا قال { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} أي: مهلكها، غما وأسفا عليهم، وذلك أن أجرك قد وجب على الله، وهؤلاء لو علم الله فيهم خيرا لهداهم، ولكنه علم أنهم لا يصلحون إلا للنار، فلذلك خذلهم، فلم يهتدوا، فإشغالك نفسك غما وأسفا عليهم، ليس فيه فائدة لك.
وفي هذه الآية ونحوها عبرة، فإن المأمور بدعاء الخلق إلى الله، عليه التبليغ والسعي بكل سبب يوصل إلى الهداية، وسد طرق الضلال والغواية بغاية ما يمكنه، مع التوكل على الله في ذلك، فإن اهتدوا فبها ونعمت، وإلا فلا يحزن ولا يأسف، فإن ذلك مضعف للنفس، هادم للقوى، ليس فيه فائدة، بل يمضي على فعله الذي كلف به وتوجه إليه، وما عدا ذلك، فهو خارج عن قدرته، وإذا كان النبي ﷺ يقول الله له: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [القصص- ٥٦]. وموسى عليه السلام يقول: { قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ۖ } (المائدة ٢٥)، فمن عداهم من باب أولى وأحرى، قال تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } (٢٢سورة الغاشية) .
وقوله تعالى: { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (٧)
ثم أخبر تعالى أنه جعل جميع ما على وجه الأرض، من مآكل لذيذة، ومشارب، ومساكن طيبة، وأشجار، وأنهار، وزروع، وثمار، ومناظر بهيجة، ورياض أنيقة، وأصوات شجية، وصور مليحة، وذهب وفضة، وخيل وإبل ونحوها، الجميع جعله الله زينة لهذه الدار، دارا فانية مزينة بزينة زائلة . وإنما جعلها دار اختبار لا دار قرار ، فقال : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}
عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله ﷺ أنه قال: " إنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وإنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كيفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ؛ فإنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ في النِّسَاءِ. وفي روايةٍ: لِيَنْظُرَ كيفَ تَعْمَلُونَ." (صحيح مسلم)
وقال العليِّ الكبير: { لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } أي: أخلصهم وأصوبهم عملا، ومع ذلك سيجعل الله جميع هذه المذكورات، فانية مضمحلة، وزائلة منقضية.
وقوله تعالى: { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } (٨)
وستعود الأرض صعيدا جرزا قد ذهبت لذاتها، وانقطعت أنهارها، واندرست أثارها، وزال نعيمها، هذه حقيقة الدنيا، قد جلاها الله لنا كأنها رأي عين، وحذرنا من الاغترار بها، ورغبنا في دار يدوم نعيمها، ويسعد مقيمها، كل ذلك رحمة بنا، فاغتر بزخرف الدنيا وزينتها، من نظر إلى ظاهر الدنيا، دون باطنها، فصحبوا الدنيا صحبة البهائم، وتمتعوا بها تمتع السوائم، لا ينظرون في حق ربهم، ولا يهتمون لمعرفته، بل همهم تناول الشهوات، من أي وجه حصلت، وعلى أي حالة اتفقت، فهؤلاء إذا حضر أحدهم الموت، قلق لخراب ذاته، وفوات لذاته، لا لما قدمت يداه من التفريط والسيئات.
وأما من نظر إلى باطن الدنيا، وعلم المقصود منها ومنه، فإنه يتناول منها، ما يستعين به على ما خلق له، وانتهز الفرصة في عمره الشريف، فجعل الدنيا منزل عبور، لا محل حبور، وشقة سفر، لا منزل إقامة، فبذل جهده في معرفة ربه، وتنفيذ أوامره، وإحسان العمل، فهذا بأحسن المنازل عند الله، وهو حقيق منه بكل كرامة ونعيم، وسرور وتكريم.
No comments:
Post a Comment