Friday 29 July 2016

الأمثال في القرآن 8 - المثل السادس - من سورة البقرة - الحث على الإنفاق في سبيل الله بمضاعفته سبعمئة ضعف



 
 
 
الأمثال في القرآن 8
 
 
المثل السادس– من سورة البقرة –الحث على الإنفاق في سبيل الله بمضاعفته سبعمئة ضعف:


ومثل اليوم ضربه الله تعالى في الإنفاق في سبيل الله ، عظَّم ثوابه وضاعفه ليحث المؤمنين عليه، فيبذلوا من طيب مالهم راضيين طائعين راغبين في ما عند الله من الأجر، غير ناظرين إلى ما خرج من بين أيديهم من المال، لا يرونه نقص من مالهم، بل زاد في الأجر وضاعف الحسنات يوم القيامة ؛ وإليكم التفصيل:ـ

قال تعالى ( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )  (البقرة:261)
عن هذا المثل :
قوله تعالى: ( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ )؛ يطلق المثل على الشبه كما في هذه الآية: ( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ ) فهذا المراد به الشبه؛ يعني شبه هؤلاء كشبه هذا الشيء.

ما هو المشبه والمشبه به في هذا المثل؟

 والناظر لهذه الآية يلاحظ أنه لا يوجد فيها مطابقة بين الممثل، والممثل به؛ لأن «الممثل» هو العامل أو الزارع الذي زرع ؛ و«الممثل به» هو العمل أو الزرع أو السنبلة ؛ فالحبة ليست تقارن بالمنفِق؛ لكنها تقارن بالمنْفَق، وهو الصدقة في سبيل الله هنا؛ والذي يكون بإزاء أو يقارن المنفِق زارعَ الحبة؛ ولهذا قال بعض العلماء: إن الآية فيها تقدير: فإما أن يقدر: مثل عمل الذين ينفقون أموالهم كمثل حبة؛ أو يقدر: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل زارع حبة أنبتت سبع سنابل؛ والحكمة من هذا الطيّ والإجمال للمثل هو يكون المثل صالحاً للتمثيل بالعامل، والتمثيل بالعمل؛ وهذا من بلاغة القرآن.
قال القرطبي : وفي الكلام حذف مضاف تقديره مثل نفقة الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة. وطريق آخر: مثل الذين ينفقون أموالهم كمثل زارع زرع في الأرض حبة فأنبتت الحبة سبع سنابل، يعني أخرجت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، فشبه المتصدق بالزارع وشبه الصدقة بالبذر فيعطيه الله بكل صدقة له سبعمائة حسنة، ثم قال تعالى: ( وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ) يعني فوق سبعمائة.

المعنى الإجمالي :ـ

مثل المتصدق مثل الزارع ، إن كان حاذقا في عمله، ويكون البذر جيدا وتكون الأرض عامرة يكون الزرع أكثر،  فكذلك المتصدق إذا كان صالحا والمال طيبا ويضعه موضعه فيصير الثواب أكثر،  والله يضاعف الأجر لمن يشاء، بحسب ما يقوم بقلب المنفق من الإيمان والإخلاص التام،  وفضل الله واسع،  وهو سبحانه عليم بمن يستحقه،  مطلع على نيات عباده.
روى البستي في صحيح مسنده عن ابن عمر قال : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله : " رب زد أمتي " فنزلت :( من ذا الذي يقرض الله قرضاً حَسناً فيُضاعِفَهُ لهُ أضْعافاً كثيرة ) (سورة البقرة 245)
قال رسول الله : " رب زد أمتي " فنزلت :( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) ( الزمر 10)
وفي مناسبة النزول: روي أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما ، وذلك أن رسول الله لما حث الناس على الصدقة حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك جاءه عبد الرحمن بأربعة آلاف فقال : يا رسول الله ، كانت لي ثمانية آلاف فأمسكت لنفسي ولعيالي أربعة آلاف ، وأربعة آلاف أقرضتها لربي . فقال رسول الله : " بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت " . وقال عثمان : يا رسول الله علي جهاز من لا جهاز له ، فنزلت هذه الآية فيهما . وقيل : نزلت في نفقة التطوع ،وسبل الله كثيرة وأعظمها الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا .

في اللغة:

-      ( الإنفاق) معناه البذل
-       ( أموال) جمع مال؛ وهو كل ما يتموله الإنسان أو يمتلكه من أعيان، أو منافع؛ الأعيان كالدراهم والدنانير والسيارات والدور، وما أشبه ذلك؛ والمنافع كمنافع العين المستأجرة؛ فإن المستأجر مالك للمنفعة.
-      ( كمثل حبةٍ ) الحبة اسم جنس لكل ما يزرعه ابن آدم ويقتاته وأشهر ذلك البُر – القمح - فكثيرا ما يراد بالحَب البر، وحَبة القلب : سويداؤه ، ويقال ثمرته،  والحِبة بكسر الحاء : بذور البقول مما ليس بقوت، وفي حديث الشفاعة : " فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل "
 والجمع  حبب ،  والحُبة : بضم الحاء الحُب يقال : نعم وحبة وكرامة .
-       والحُب المحبة وكذلك الحِب بالكسر،  والحِب أيضا الحبيب ، مثل خدن وخدين

عودة للتفسير الإجمالي:

وقوله تعالى: (  فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ؛ ( سبيل)  بمعنى طريق؛ وسبيل الله سبحانه وتعالى هو شرعه؛ لأنه يهدي إليه، ويوصل إليه وأضيف  السبيل إلى الله لسببين؛ السبب الأول: أنه هو الذي وضعه لعباده، وشرعه لهم؛ والسبب الثاني: أنه موصل إلى الله ؛ ويضاف (السبيل) أحياناً إلى سالك السبيل؛ فيقال: سبيل المؤمنين، كما قال الله تعالى:( وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء: 115] ؛ ولا تناقض بينهما؛ لأنه يضاف إلى المؤمنين باعتبار أنهم هم الذين سلكوه؛ وإلى الله باعتبار أنه الذي شرعه، وأنه موصل إليه.
- قوله تعالى: (  كمثل حبة أنبتت سبع سنابل ) ؛ والحبة يبذرها إنسان فقد تنبت القليل أو الكثير، أو لا تنبت، وهنا يقول أنها أنبتت سبع سنابل ( فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ)؛ فتكون الجميع سبعمائة؛ فالحسنة إذاً في الإنفاق في سبيل الله تكون بسبعمائة؛ وهذا ليس حدّاً. وذلك لقوله تعالى: ( وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ) أي يزيد ثواباً لمن يشاء حسب ما تقتضيه حكمته ، وحال المتصدق.
- قوله تعالى: ( وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) أي ذو سعة في جميع صفاته؛ فهو واسع العلم والقدرة والرحمة والمغفرة، وغير ذلك من صفاته؛ فإنها صفات واسعة عظيمة عليا؛ و(عَلِيمٌ) أي ذو علم واسع وعلمه شامل لكل شيء جملة وتفصيلاً؛ حاضراً ومستقبلاً وماضياً.
- ورد القرآن بأن الحسنة في جميع أعمال البر بعشر أمثالها، واقتضت هذه الآية أن نفقة الجهاد حسنتها بسبعمائة ضعف. واختلف العلماء في معنى قوله ( وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ)  فقالت طائفة: هي مبينة مؤكدة لما تقدم من ذكر السبعمائة، وليس ثم تضعيف فوق السبعمائة. وقالت طائفة من العلماء: بل هو إعلام بأن الله تعالى يضاعف لمن يشاء أكثر من سبعمائة ضعف.

فوائد من الآية:

في هذه الآية دليل على أن اتخاذ الزرع من أعلى الحرف التي يتخذها الناس والمكاسب التي يشتغل بها العمال، ولذلك ضرب الله به المثل فقال: ( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ وفي فضل الزرع والغرس أخرج مسلم في صحيحه عن النبي : " ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة " . وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله : " التمسوا الرزق في خبايا الأرض "  يعني الزرع، أخرجه الترمذي. وقال  في النخل: " هي الراسخات في الوحل المطعمات في المحل " ، وهذا خرج مخرج المدح والزراعة من فروض الكفاية فيجب على الإمام أن يجبر الناس عليها وما كان في معناها من غرس الأشجار.
وحكي عن المعتضد أنه قال: رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المنام يناولني مسحاة- وهي المجرفة يجرف بها الطين أو نحوه - وقال: خذها فإنها مفاتيح خزائن الأرض.
-  وفي الآية بيان لفضيلة الإنفاق عمرما ، وزيادة هذا الفضل للإنفاق في سبيل الله؛ لأنه ينمو للمنفق حتى تكون الحبة سبعمائة حبة.
-  وفيها تأكيد على ضرورة الإخلاص لله في العمل؛ لقوله تعالى: ( فِي سَبِيلِ اللَّهِ)  بأن يقصدوا بذلك وجه الله عز وجل.
ومعنى إنفاقهم في شرع الله أن يكون ذلك:
 أولاً:ـ  إخلاصاً لله،    وثانياً:ـ اتباعاً لشرعه 
الأول :ـ فمن نوى بإنفاقه غير الله فليس في سبيل الله؛ مثل (المرائي) كرجل أنفق في الجهاد، أو أنفق في الصدقة على المساكين؛ لكنه أنفق ليقال: إن فلاناً جواد؛ أو أنه كريم؛ هذا ليس في سبيل الله، لأنه مراء؛ لم يقصد وجه الله عز وجل؛ إذاً لم يرد السبيل الذي يوصل إلى الله.
والثاني :ـ وأن يكون على حسب شريعة الله: فإن أنفق في وجه لا يرضى به الله فليس في سبيل الله - وإن أخلص لله - كرجل ينفق على البدع يريد بذلك وجه الله - ومنه كثير في هذا الزمن: كبناء الربط  أو الزوايا للصوفية المنحرفة، وبناء أماكن اللهو الغير مباح، وبناء القصور للمآتم، وطبع وتوزيع الكتب المشتملة على بدع؛ هذا قد يريد الإنسان بذلك وجه الله لكنه خلاف شريعة الله؛ فلا يكون في سبيل الله..
-  ويؤخذ من الآية: وجه الشبه في قوله تعالى: (  كمثل حبة أنبتت سبع سنابل )؛ فإن هذه الحبة أنبتت سبع سنابل؛ وشبهها الله بذلك؛ لأن السنابل غذاء للجسم، والبدن؛ كذلك الإنفاق في سبيل الله غذاء للقلب، والروح.
- وفي الآية بيان وتأكيد على أن ثواب الله، وفضله أكثر من عمل العامل؛ لأنه لو عومل العامل بالعدل لكانت الحسنة بمثلها؛ لكن الله يعامله بالفضل، والزيادة؛ فتكون الحبة الواحدة سبعمائة حبة؛ بل أزيد؛ لقوله تعالى: ( وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )  
- وفي الآية  الحث والترغيب في الإنفاق في سبيل الله؛ يؤخذ هذا من ذكر فضيلة الإنفاق في سبيل الله، فإن الله لم يذكر هذا إلا من أجل هذا الثواب؛ فلا بد أن يعمل له.

No comments:

Post a Comment