Friday 31 January 2020

تفسير وربط للآيات وبيان المتشابهات- سورة نوح -ج2 – جعل سبحانه لكم في الأرض والسماء آيات بينات دالة على عظمته



 


سورة نوح -ج2 – جعل الله سبحانه لكم في الأرض والسماء آيات بينات دالة على عظمته




قال تعالى:


﴿مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّـهِ وَقَارًا ﴿١٣﴾ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ﴿١٤﴾ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّـهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ﴿١٥﴾ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ﴿١٦﴾ وَاللَّـهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ﴿١٧﴾ ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ﴿١٨﴾ وَاللَّـهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا ﴿١٩﴾ لِّتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا ﴿٢٠﴾




بعد أن بدأ أول الرسل نوح  عليه السلام دعو ته قومه بالترغيب ، فبين لهم عظيم كرم الله تعالى لمن يسأله أو يستغفره، فلم يستجب له إلا قليل، عدل بهم إلى دعوتهم بالترهيب فقال: (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) قوله : ترجون : الرجاء هنا بمعنى الخوف، مع عدم المبالات؛ أي مالكم لا تخافون لله عظمتة وقدرته على عقوبة أحدكم، ولا تبالون بما سيكون بإصراركم على الكفر، وقال سعيد بن جبير وغيره: ما لكم لا ترجون من الله ثوابا ولا تخافون له عقابا.
وقوله : وقاراً  أي:عظمة، وقال ابن عباس: لا تعظمون الله حق عظمته، أي: لا تخافون من بأسه ونقمته.
والوقار : العظمة. والتوقير : التعظيم، وقال ابن زيد : مالكم لا تؤدون لله طاعة، وقال الحسن : مالكم لا تعرفون لله حقا ولا تشكرون له نعمة.
ثم بين لهم فضل الله عليهم ونعمه، فقال (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ) أي جعل لكم في أنفسكم آية تدل على توحيده. قال ابن عباس ) أَطْوَارًا ) يعني نطفة ثم علقة ثم مضغة؛ أي طورا بعد طور إلى تمام الخلق، كما ذكر في سورة المؤمنون . والطور في اللغة: المرة؛  أي من فعل هذا وقدر عليه فهو أحق أن تعظموه، وقيل  أَطْوَارًا ) صبيانا، ثم شبابا، ثم شيوخا وضعفاء.
وقوله: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا )؟ ذكر لهم دليلا آخر؛ أي ألم تعلموا أن الذي قدر على هذا، فهو الذي يجب أن يعبد ومعنى ( طِبَاقًا )؟ بعضها فوق بعض، كل سماء مطبقة على الأخرى كالقباب، وقوله (أَلَمْ تَرَوْا )،على جهة الإخبار لا المعاينة- أي أن الله يخبر أنه خلق السموات طباقا، لا أنهم عاينوا ورأوا السموات سبع سموات طباقا-كما تقول : ألم ترني كيف صنعت بفلان كذا. وقوله: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا) أي في سماء الدنيا؛ كما يقال : أتاني بنو تميم وأتيت بني تميم والمراد بعضهم؛ قاله الأخفش. سأل أبا الحسن بن كيسان عن هذه الآية فقال : جواب النحويين أنه إذا جعله في إحداهن فقد جعله فيهن؛ كما تقول : أعطني الثياب المعلمة وإن كنت إنما أعلمت أحدها، ومعنى (نُورًا ) أي لأهل الأرض؛ قاله السدي. (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا) يعني مصباحا لأهل الأرض ليتوصلوا إلى التصرف لمعايشهم.

الإعجاز العلمي في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً﴾ (نوح ١٦).

جاءت هذه الآية بالتأكيد إلى أن الشمس -وهي نجم من النجوم- تضيء بذاتها، وأن القمر منير، فليس نوره من ذاته كالشمس التي منها الضياء، فالضياء نسب إلى الشمس، وأن الشمس وصفت بأنها سراج وهّاج، بينما القمر لم يوصف إلا بالإنارة فهو قمر منير.
قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً﴾ (يونس 5)، وأخبر الله عز وجل أن هذه الشمس سراج، فقال تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً﴾ (الفرقان 61).
وقال تعالى: ﴿وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً﴾ (نوح ١٦).
وبيَّن الله تعالى أن هذا السراج متوهج، فقال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً﴾ (النبأ ١٣).
 
المعنى اللغوي لهذه الآيات:

ذهب كثير من أئمة اللغة إلى أن الضوء في اللغة أقوى من النور من حيث الاستعمال، وأن الضوء ما كان صادراً من ذات الشيء كالشمس والنار، وأن النور ما كان بالعَرَض والاكتساب من الغير، قاله الزمخشري، وتبعه الطّيبي واستدلَّ بقوله تعالى: ﴿جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً والقَمَرَ نوراً﴾ (يونس 5).
وأما الوهج في اللغة فهو انبعاث الحرارة والضوء من شيء واحد، يقول الخليل بن أحمد: "الوَهَج: حرُّ النّارِ والشَّمْس من بعيد، وقد تَوَهَّجَتِ النّار ووَهِجَتْ تَوْهَجُ فهي وَهِجةٌ، والوهج والوهيج تَلأْلُؤُ الشيء وتَوَقُّدُه.

أقوال المفسرين في هذه الآيات:

لم يختلف كلام المفسرين لهذه الآيات عن كلام أهل اللغة، فذهب كثير منهم إلى أن الضوء أقوى من النور، والضياء هو ما كان بالذات، والنور ما كان بالعرض.
ويقول السمرقندي: "جعل الشمس ضياءً مع الحر والقمر نوراً بلا حر."
وفي قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا﴾ (النبأ ١٣)، أجمع المفسرون أن هذا السراج هو الشمس، وقالوا أن ﴿سِرَاجًا وَهَّاجًا﴾ أي وقّاداً مضيئاً، وأن الوهاج هو الوقاد، والوهج ما جمع بين النور والحرارة.( تفسير الطبري، والبغوي)
ضياء الشمس ونور القمر في الاكتشافات العلمية الحديثة:
توصل علماء الفلك الحديث إلى التفريق بين النجم والكوكب، فالنجم ما هو إلا جسم سماوي متلألئ يشع الطاقة ذاتياً، بينما الكوكب جسم سماوي ثابت الإضاءة يعكس الأشعة التي يتلقاها من النجوم والشموس، وينطبق هذا على التوابع الطبيعية للكواكب وهي الأقمار.
وأن جوف الشمس ساخن جداً إذ تصل درجة الحرارة فيه إلى ما يقارب الـ 15 مليون درجة مطلقة، وتقل درجات الحرارة باتجاه الخارج إذ تصبح درجة الحرارة على سطحها (طبقة الفوتوسفير) حوالي 5000 درجة مئوية تقريباً.

وجه الإعجاز في الآية:

فرق القرآن الكريم بين الشعاع القادم من الشمس والشعاع القادم من القمر، فسمى ما يأتي من الشمس ضياءً، وما يأتي من القمر نوراً، وفي هذا تفريق واضح ينسجم ويتطابق تماماً مع ما كشف عنه العلم الحديث.
فالقرآن الكريم يقول: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً﴾ [الفرقان: 61]، ولم يقل الله تعالى: (وجعل فيها سراجين)؛ لأن السراج يحتاج إلى وقود، فإذا اتقد السراج انبعث منه الضياء.
والضياء ما كان ذاتياً، أما النور فهو عرضي، وقد كشف العلم أن الشمس تشع بنفسها إشعاعاً ذاتياً، أما القمر فإنه لا يشع ولا يشتعل بل يعكس شعاع الشمس الذي يصل إليه.
ورأينا أن الوهج ما جمع بين النور والحرارة كما يقول العلماء من أهل اللغة والمفسرين، وهذا لا ينطبق مع القمر بل ينطبق على الشمس، والتي وصفت في آية أخرى بأنها سراج وهاج، ومعنى ذلك أنها مضيئة ومتقدة عالية اللهب، وهذا هو عين ما كشف عنه العلم الحديث.
هذا التفريق الدقيق بين الضياء والنور قبل ما يزيد على ألف وأربعمائة سنة مما يشهد للقرآن الكريم بالمعجزة العلمية؛ لأن المنطق السوي يقول ما كان أحد يستطيع في ذلك الزمن البعيد أن يفرق هذا التفريق العلمي الدقيق بين الشمس(النجم) وبين القمر(الكوكب وما يلتحق به من أقمار) إلا الخالق العليم، يقول تعالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك ١٤].

عودة للتفسير:

وقوله: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتًا) ، (نَبَاتًا ) هو اسم مصدر على غير المصدر؛ لأن مصدره أنبت إنباتا، فجعل الاسم الذي هو النبات في موضع المصدر. وقيل: هو مصدر محمول على المعنى؛ لأن معنى { أنبتكم} جعلكم تنبتون نباتا، يعني آدم عليه السلام خلقه من أديم الأرض كلها. وقال ابن جريج : أنبتهم في الأرض بالكبر بعد الصغر وبالطول بعد القصر.
(ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا ) أي: إذا متم  دفنتم فيها،( وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ) أي: بالنشور للبعث يوم القيامة يعيدكم كما بدأكم أول مرة.
(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ بِسَاطًا) أي:بسطها ومهدها وقررها وثَبتها بالجبال الراسيات الشم الشامخات. أي مبسوطة.

(لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا) أي:خلقها لكم لتستقروا عليها وتسلكوا فيها أين شئتم، من نواحيها وأرجائها وأقطارها، السبل : الطرق. والفجاج جمع فج، وهو الطريق الواسعة؛ قاله الفراء. وقيل : الفج المسلك بين الجبلين.
وكل هذا مما ينبههم به نوح عليه السلام على قدرة الله وعظمته في خلق السموات والأرض، ونعمه عليهم فيما جعل لهم من المنافع السماوية والأرضية، فهو الخالق الرزاق، جعل السماء بناء، والأرض مهادا، وأوسع على خلقه من رزقه، فهو الذي يجب أن يعبد ويوحد ولا يشرك به أحد؛ لأنه لا نظير له ولا عَديل له، ولا ند ولا كفء، ولا صاحبة ولا ولد، ولا وزير ولا مشير، بل هو العلي الكبير. سبحانه وتعالى عما يشركون.
قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا ﴿٢١﴾ وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا﴾
يقول تعالى مخبرا عن نوح، عليه السلام، أنه أنهى إليه، وهو العليم الذي لا يعزب عنه شيء، أنه مع البيان المتقدم ذكره، والدعوة المتنوعة المتشملة على الترغيب تارة والترهيب أخرى: أنهم عصوه وكذبوه وخالفوه، واتبعوا أبناء الدنيا ممن غفل عن أمر الله، ومتع بمال وأولاد، وهي في نفس الأمر استدراج وإنظار لا إكرام؛ ولهذا قال: ( وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا ) قُرئ ( وَوُلْدُهُ ) بالضم وبالفتح، وكلاهما متقارب. وقوله: ( وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا ) قال مجاهد: ( كُبَّارًا ) أي عظيمًا. وقال ابن زيد: ( كُبَّارًا ) أي:كبيرا. والعرب تقول:أمر عجيب وعُجَاب وعُجَّاب. ورجل حُسَان. وحُسَّان:وجُمَال وجُمَّال، بالتخفيف والتشديد، بمعنى واحد.
والمعنى في قوله: (وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا ) أي:بأمرهم لهم أن يتبعوهم، وزينوا لهم الأمر بأنهم بذلك يكونون على الحق والهدى.
نتابع في الجزء الثالث من التفسير ما كان مكرهم، وما صار إليه مآلهم.

اللهم إنا نسألك حسن اتباع نبيك محمد ، وحسن العمل بسنته، واحشرنا في زمرته

No comments:

Post a Comment