Thursday 1 July 2021

تفسير سورة الفجر ج2 يبتلى الإنسان في هذه الدنيا بالخير والشر

 


تفسير سورة الفجر -ج 2- يبتلى العباد بالخير  ويحسبون أن ربهم تكرم عليهم به لمحبته لهم، ويبتلى بالشر فيحسبه نقمة من الله عليه

 

{فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ( 15 ) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ( 16 )

يقول تعالى منكرًا على الإنسان في اعتقاده إذا وسع الله عليه في الرزق ليختبره في ذلك، فيعتقد أن ذلك من الله إكرام له وليس كذلك، بل هو ابتلاء وامتحان. كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} (المؤمنون ٥٥ - ٥٦ ) . وكذلك في الجانب الآخر إذا ابتلاه وامتحنه وضَيَّق عليه في الرزق، يعتقد أن ذلك من الله إهانة له. قال الله: { كَلا} أي:ليس الأمر كما زعم، لا في هذا ولا في هذا، فإن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ويضيق على من يحب ومن لا يحب، وإنما المدار في ذلك على طاعة الله في كل من الحالين، إذا كان غنيا بأن يشكر الله على ذلك، وإذا كان فقيرًا بأن يصبر.

 

كَلا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ( 17 ) وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ( 18 ) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا ( 19 ) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ( 20 )

 

وقال الفراء { كَلا} في هذا الموضع بمعنى لم يكن ينبغي للعبد أن يكون هكذا، ولكن يحمد اللّه عز وجل على الغنى والفقر.

 

وقوله: { بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ } فيه أمر بالإكرام له، كما جاء في الحديث الذي رواه عبد الله بن المبارك، عن سعيد بن أبي أيوب، عن يحيى بن سليمان، عن زيد بن أبي عتاب عن أبي هُريرة، عن النبي ﷺ: « خَيرُ بَيتٍ في المسلِمينَ، بَيتٌ فيهِ يتيمٌ يُحسَنُ إليهِ، وشرُّ بَيتٍ في المسلِمينَ بَيتٌ فيهِ يتيمٌ يُساءُ إليهِ » ثم قال بأصبعه: «أنا وكافِلُ اليتيمِ في الجنَّةِ هكَذَ »  ( ضعفه الألباني)

عن سهل بن سعد أن رسول الله ﷺ قال: « أنا وكافِلُ اليَتِيمِ في الجَنَّةِ هَكَذا» . وقالَ بإصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ والوُسْطَى.( البخاري)

{وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} يعني:لا يأمرون بالإحسان إلى الفقراء والمساكين، ويحث بعضهم على بعض في ذلك. وأصله تتحاضون، فحذف إحدى التاءين لدلالة الكلام عليها.

{وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ} يعني: الميراث، ما يُخَلِّفه الميِّت لورثته، وأصله الوِراث من ورثت، فأبدلوا الواو تاء؛ أي  تضمُّون نصيبَ غيركم إلى نصيبكم.

في اللغة:

(التراث): هو كُلُّ ما يُمْلَك ماديا : "نقل تُراث الأسرة".

 وهو أيضًا يشمل كلّ ما خلّفه السَّلف من آثار علميّة وفنية وأدبيّة، سواء مادِّيَّة كالكتب والآثار وغيرها، أم معنوية كالآراء والأنماط والعادات الحضاريّة المنتقلة جيلاً بعد جيل، مما يعتبر نفيسًا بالنسبة لتقاليد العصر الحاضر وروحه .

 { أَكْلا لَمًّا } أي: من أي جهة حصل لهم، من حلال أو حرام،  قال مجاهد: يسفه سفا : وقال الحسن : يأكل نصيبه ونصيب غيره. وقال ابن زيد : هو أنه إذا أكل ماله ألم بمال غيره فأكله، ولا يفكر : أكل من خبيث أو طيب.

قال ابن زيد: وكان أهل الشرك لا يورثون النساء ولا الصبيان، بل يأكلون ميراثهم مع ميراثهم، وتراثهم مع تراثهم.

وقيل: يأكلون ما جمعه الميت من الظلم وهو عالم بذلك، فيَلُمُ في الأكل بين حرامه وحلاله.

فيمن يرث مالا حراما، هل يأخذه؟

الجواب: إذا علم أنه مسروق وعلم المسروق منه عليه أن يعيده، أو كان مال ربا، يعيده لمن أخذ منه، إذا لم يعلم فله أخذه. والإثم على صاحبه.

سُئل ابن مسعود عنه، فقال : لهم الهناء وعليه العناء

ويجوز أن يذم الوارث الذي ظفر بالمال سهلا مهلا، من غير أن يعرق فيه جبينه، فيسرف في إنفاقه، ويأكله أكلا واسعا، جامعا بين المشتهيات من الأطعمة والأشربة وغيرها.

معنى: { لَمًّا}  في اللغة:

 أي: جمعا؛ من قولهم: لممت الطعام لما؛  إذا أكلته جمعا.

وأصل اللم في كلام العرب: الجمع؛ يقال : لممت الشيء ألمه لما: إذا جمعته، وقيل هو الجمع الشديد.

 ومنه يقال : لم اللّه شعثه، أي جمع ما تفرق من أموره.

{وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}  أي:كثيرا - زاد بعضهم: فاحشا،  حلاله وحرامه. والجم الكثير. يقال : جم الشيء يجم جموما، فهو جم وجام.

ومنه جم الماء في الحوض : إذا اجتمع وكثر.

 

يخبر تعالى عما يقع يوم القيامة من الأهوال العظيمة، فقال: ( كَلا ) أي:حقا { إِذَا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا}  أي: وطئت ومهدت وسويت الأرض والجبال، وقام الخلائق من قبورهم

قال القرطبي: { كلا} أي ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر. فهو رد لانكبابهم على الدنيا، وجمعهم لها؛ فإن من فعل ذلك يندم يوم تدك الأرض، ولا ينفع الندم. والدك: الكسر والدق. والمعنى أي زلزلت الأرض، وحركت تحريكا بعد تحريك، وذهب ارتفاعها. يقال:  ناقة دكاء، أي لا سنام لها، والجمع دُكٌ. نوق دكٌ

{ وَجَاءَ رَبُّكَ } يعني:لفصل القضاء بين خلقه كما ينبغي لجلاله، وذلك بعد ما يستشفعون إليه بسيد ولد آدم على الإطلاق محمد ﷺ، بعدما يسألون أولي العزم من الرسل واحدًا بعد واحد، فكلهم يقول:لست بصاحب ذاكم، حتى تنتهي النوبة إلى محمدﷺفيقول: « أنا لها، أنا لها » . فيذهب فيشفع عند الله في أن يأتي لفصل القضاء فيشفعه الله في ذلك، وهي أول الشفاعات، وهي المقام المحمود،  فيجيء الرب تعالى لفصل القضاء كما يشاء، والملائكة يجيئون بين يديه صفوفا صفوفا.

وقوله: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} وذلك كما ورد من حديث  عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: « يُؤْتَى بجَهَنَّمَ يَومَئذٍ لها سَبْعُونَ ألْفَ زِمامٍ، مع كُلِّ زِمامٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَها. » ( مسلم) .

وقوله: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ} أي: يتذكر عمله وما كان أسلفه في قديم دهره وحديثه، {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}  أي: وكيف تنفعه الذكرى؟  أي ومن أين له الاتعاظ والتوبة وقد فرط فيها في الدنيا. ويقال : أي ومن أين له منفعة الذكرى.

{يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} يعني:يندم على ما كان سلف منه من المعاصي - إن كان عاصيا- ويود لو كان ازداد من الطاعات - إن كان طائعا-  

كما قال الإمام أحمد بن حنبل:

عن علي بن إسحاق، عن محمد بن أبي عَمِيرة - وكان من أصحاب رسول الله ﷺ قال: " لو أنَّ رَجلًا يَخِرُّ على وَجهِه من يومِ وُلِدَ إلى يومِ يَموتُ هَرِمًا في مَرضاةِ اللهِ، لَحقَرَه يومَ القيامةِ، ولودَّ أنه يُرَدَّ إلى الدنيا كيما يزداد من الأجر والثواب"

قال الله تعالى:{ فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ } أي:ليس أحد أشد عذابًا من تعذيب الله من عصاه، {وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ } أي:وليس أحد أشد قبضا ووثقا من الزبانية لمن كفر بربهم، عز وجل، هذا في حق المجرمين من الخلائق والظالمين،

وقرأ الكسائي {لا يعذَّب} {ولا يوثَق} بفتح الذال والثاء، أي لا يعذب أحد في الدنيا كعذاب اللّه الكافر يومئذ، ولا يوثق كما يوثق الكافر.

والمراد إبليس؛ لأن الدليل قام على أنه أشد الناس عذابا، لأجل إجرامه؛ فأطلق الكلام لأجل ما صحبه من التفسير. وقيل : إنه أمية بن خلف؛ حكاه الفراء. يعني أنه لا يعذب كعذاب هذا الكافر المعين أحد، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال كوثاقه أحد؛ لتناهيه في كفره وعناده.

 وقيل : أي لا يعذب مكانه أحد، فلا يؤخذ منه فداء. والعذاب بمعنى التعذيب،

أما النفس الزكية المطمئنة وهي الساكنة الثابتة الدائرة مع الحق فيقال لها: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} أي:إلى جواره وثوابه وما أعد لعباده في جنته، كما قال تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} (الأنعام ٦٢).

و {النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} الساكنة الموقنة؛ أيقنت أن اللّه ربها، فأخبتت لذلك؛ قال مجاهد وغيره. وقال مجاهد وابن عباس : أي المطمئنة بثواب اللّه. وعنه المؤمنة. وهي الراضية بقضاء اللّه، التي علمت أن ما أخطأها لم يكن ليصيبها، وأن ما أصابها لم يكن ليخطئها. وقال مقاتل : الآمنة من عذاب اللّه.

وقيل : هي التي عملت على يقين بما وعد اللّه في كتابه. وقال ابن كيسان : المطمئنة هنا : المخلصة. وقال ابن عطاء : العارفة التي لا تصبر عنه طرفة عين. وقيل : المطمئنة بذكر اللّه تعالى؛ بيانه {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله} (الرعد  ٣٨). وقيل : المطمئنة بالإيمان، المصدقة بالبعث والثواب. وقال ابن زيد: المطمئنة لأنها بشرت بالجنة عند الموت.

{رَاضِيَةً} أي: في نفسها،  {مَرْضِيَّةً} أي:قد رضيت عن الله ورضي عنها وأرضاها، {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} أي: في جملتهم، {وَادْخُلِي جَنَّتِي} وهذا يقال لها عند الاحتضار، وفي يوم القيامة أيضا، كما أن الملائكة يبشرون المؤمن عند احتضاره وعند قيامه من قبره، وكذلك هاهنا.

ثم اختلف المفسرون فيمن نـزلت هذه الآية، فروى الضحاك، عن ابن عباس:نـزلت في عثمان بن عفان. وعن بُرَيدة بن الحصيب:نـزلت في حمزة بن عبد المطلب، رضي الله عنه، والصحيح أنها عامة في كل نفس مؤمن مخلص طائع.

قال الحسن البصري : إن اللّه تعالى إذا أراد أن يقبض روح عبده المؤمن، اطمأنت النفس إلى اللّه تعالى، ورضي اللّه عنها.

وقال العوفي، عن ابن عباس: يقال للأرواح المطمئنة يوم القيامة: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} يعني: صاحبك، وهو بدنها الذي كانت تعمره في الدنيا، {رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً}

ثم قال:حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن يمان، عن أشعث، عن سعيد بن جبير قال: قرأت عند النبي ﷺ: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً}  فقال أبو بكر، رضي الله عنه:إن هذا حسن. فقال له النبي ﷺ: ( أما إن الملك سيقول لك هذا عند الموت) وكذا رواه ابن جرير، عن أبي كُرَيْب، عن ابن يمان، به. وهذا مرسل حسن .

وروى الحافظ ابن عساكر عن أبي أمامة:أن رسول اللهﷺ قال لرجل: « قل: اللهمَّ إني أسألُك نفسًا بكَ مطمئنةً، تؤمنُ بلقائِكَ، وترضى بقضائِكَ، وتقنعُ بعطائِكَ »

 

آخر تفسير سورة « الفجر » ولله الحمد والفضل والمنة .


No comments:

Post a Comment