Tuesday 11 January 2022

تفسير سورة البقرة ج2 هدى للمتقين

 

 

فضائل سورة البقرة:

سورة البقرة لها فضل كبير أثبتته الأحاديث النبويّة الشّريفة الواردةُ فيها وفوائد عظيمة لمن يداوم على قراءتها؛ وورد حديث عن فضل سورة البقرة ما روي عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ، قَالَ: رسول الله ﷺ: «مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ»، رواه البخارى.

-شفاعة سورتي البقرة وآل عمران لصحابهما يوم القيامة؛ لِما ثبت في صحيح مسلم عن الصحابي الجليل النّواس بن سمعان رضي الله عنه قال: «يؤْتَى بالقُرْآنِ يَومَ القِيامَةِ وأَهْلِهِ الَّذِينَ كانُوا يَعْمَلُونَ به تَقْدُمُهُ سُورَةُ البَقَرَةِ، وآلُ عِمْرانَ»،  وضَرَبَ لهما رَسولُ اللهِ ﷺ ثَلاثَةَ أمْثالٍ ما نَسِيتُهُنَّ بَعْدُ، قالَ: «كَأنَّهُما غَمامَتانِ، أوْ ظُلَّتانِ سَوْداوانِ بيْنَهُما شَرْقٌ، أوْ كَأنَّهُما حِزْقانِ مِن طَيْرٍ صَوافَّ، تُحاجَّانِ عن صاحِبِهِما»

فوصف رسول الله ﷺ سورتي البقرة وآل عمران بالغمامتين؛ أي السحابتين العظيمتين ذواتي اللون الأسود، بينهما نورٌ؛ أي أنّهما لا تستران الضوء.

-الشّياطين تنفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة، كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله ﷺ قال: «لاَ تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِى تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ».

- في قراءة سورة البقرة حفظٌ من الشّرور ووقايةٌ من السَّحرة وسحرهم كما أنّ في قراءتها بركةٌ تعمُّ من قرأها، ومِصداق ذلك ما رُوي في صحيح مسلم عن أبي أُمامة الباهليّ رضي الله عنه، أنَّ رسول الله ﷺ قال: «اقْرَؤُوا القُرْآنَ فإنَّه يَأْتي يَومَ القِيامَةِ شَفِيعًا لأَصْحابِهِ، اقْرَؤُوا الزَّهْراوَيْنِ البَقَرَةَ، وسُورَةَ آلِ عِمْرانَ، فإنَّهُما تَأْتِيانِ يَومَ القِيامَةِ كَأنَّهُما غَمامَتانِ، أوْ كَأنَّهُما غَيايَتانِ، أوْ كَأنَّهُما فِرْقانِ مِن طَيْرٍ صَوافَّ، تُحاجَّانِ عن أصْحابِهِما، اقْرَؤُوا سُورَةَ البَقَرَةِ، فإنَّ أخْذَها بَرَكَةٌ، وتَرْكَها حَسْرَةٌ، ولا تَسْتَطِيعُها البَطَلَةُ»، والمقصود بالغيايتين غيمتان تظلَّان قارئ البقرة، كناية عن حفظه وحمايته، وفرقان أي جماعتان، والبطلة هم السَّحرة ؛ لأن ما يأتون به باطل، سماهم باسم فعلهم الباطل، أي: لا يؤهَّلون لذلك، أو لا يوفّقُون له.والمعنى الثاني: أن المعنى لا تقدر على إبطالِها أو الإضرارِ بصاحبِها السحرة؛ وذلك لقوله تعالى: { وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ }( البقرة ١٠٢)، وكلّها معانٍ صحيحة يشهد لها الواقع، وما يهمنا هنا المعنيين الأخيرين، فالسحرةُ غيرُ قادرين على قراءتها؛ لزيغهم عن الحق وانهماكهم في الباطل، وهم غيرُ قادرين على الإضرارِ بمن تحصّن بهذه السورة العظيمة.

- لحافظ القرآن بوجهٍ عامٍّ ولحافظ البقرة بوجهٍ خاصٍّ أفضليَّةً وميزةً عن غيره، وممَّا يدلِّل على ذلك ما حدث زمن رسول الله ﷺ فقد رُوي أبو هريرة رضي الله عنه أنَّه قال: «بعث رسولُ اللهِ ﷺ بعثًا، وهم ذو عَددٍ، فاستقرأهم، فاستقرأ كلُّ رجلٍ منهم ما معه من القرآنِ، فأتى على رجلٍ منهم - من أَحدثِهم سِنًّا - فقال: ما معك يا فلانُ؟! قال: معي كذا وكذا، وسورةُ البقرةِ، قال: أمعك سورةَ البقرةِ؟!، فقال: نعم، قال: فاذهبْ، فأنت أميرُهم»

 فقال رجلٌ من أشرافهم: واللهِ يا رسولَ اللهِ! ما منعني أن أتعلَّمَ سورةَ البقرةِ، إلا خشيةَ ألا أقومَ بها؟ فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «تعلَّموا القرآنَ، واقرءُوه، فإنَّ مثلَ القرآنِ لمن تعلَّمه، فقرأه وقام به، كمثلِ جرابٍ مَحشُوٍّ مسكًا، يفوحُ ريحُه في كلِّ مكانٍ، ومثلُ من تعلَّمَه، فيرقدُ، وهو في جوفِه، كمثلِ جرابٍ وُكِئَ على مِسكٍ»

فاختار النبيّ ﷺ من يحفظ سورة البقرة أميرًا على الجماعة من الصّحابة الذين بعثهم رغم أنَّه أصغرهم سنَّا، لكنَّه أفضلهم بحفظه لسورة البقرة.

ومِن السَّلف مَن لقبَّها بفُسطاط القرآن؛ لعظمتها ومكانتها وكثرة ما فيها من أحكامٍ ومواعظ.

- ومما ورد عند الترمذي، قول لرسول الله ﷺ: «لِكلِّ شيءٍ سَنامٌ وإنَّ سَنامَ القرآنِ سورةُ البقرةِ وفيها آيةٌ هيَ سيِّدةُ آيِ القرآنِ.. آيةُ الكرسيِّ» ( ضعفه الألباني وشعيب الأرناؤوط)

وعن سهل بن سعد قال:قال رسول اللهﷺ: « إن لكل شيء سناما، وإن سنام القرآن البقرة، من قرأها في بيته ليلة لم يدخله الشيطان ثلاث ليال، ومن قرأها في بيته نهارًا لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام »  .(رواه أبو القاسم الطبراني، وأبو حاتم، وابن حبان في صحيحه .)

-وفي سورة البقرة أعظم آية في القرآن؛ وهي آية الكرسي.

فضل آية الكرسي

 

لآية الكرسي فضل عظيم بيَّنته بعض الأحاديث الشَّريفة، وهي الآية ٢٥٥ ، من سورة البقرة، وهي قول الله تعالى: «اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ»، وممَّا ورد أيضا في فضلها ما يلي:

1- أنَّها أعظم آيةٍ في كتاب الله تعالى، فقد أورد مسلم في صحيحه ما رواه أُبيّ بن كعب رضي الله عنه، عن النبيّ ﷺ أنَّه قال: «يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِى أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ قَالَ: قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ قَالَ: قُلْتُ: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ}، قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ: وَاللَّهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ».

2- في قراءة آية الكرسي قبل النَّوم حفظٌ وعصمةٌ من الشّيطان، كما جاء في صحيح البخاريّ: «إذا أَوَيتَ إلى فراشِك، فاقرأ آيةَ الكرسيِّ: (اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) حتى تختم الآيةَ، فإنك لن يزال عليك من الله حافظٌ، ولا يقربُك شيطانٌ حتى تصبحَ»؛ فمن قرأ آية الكرسي قبل النَّوم كان في حفظ الله تعالى من الشّيطان حتى يستيقظ.

3-المداومة على قراءة آية الكرسي عَقِبَ كلِّ صلاة مفروضةٍ سببٌ في دخول الجنة، كما روى أبو أُمامة الباهليّ -رضي الله عنه- عن النبيّ ﷺ  أنَّه قال: «مَن قرَأ آيةَ الكُرسيِّ دُبُرَ كلِّ صلاةٍ مكتوبةٍ لَمْ يمنَعْه مِن دخولِ الجنَّةِ إلَّا أنْ يموتَ».

 

فضل آخر آيتين من سورة البقرة

 

ثبت فضل الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة عن النّبي ﷺ؛ فأورد البخاريّ في صحيحه ما رواه أبو مسعود رضي الله عنه، أنَّ رسول الله ﷺ قال: «مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ»، والمقصود بأنَّ قراءة الآيتان تكفيان من يقرأهما؛ أي تكفياه من كلِّ سوء، وقيل تكفياه من شرّ الشّيطان، وقيل تكفياه من قيام اللّيل فكأنَّه قامه.

 

تفسير سورة البقرة

 

-السورة تتكون من خمسة وعشرون ألفًا وخمسمائة ( ٢٥٥٠٠) حرف،  وستة آلاف ومائة وعشرون (٦١٢٠) كلمة، ومائتان وستة وثمانون ( ٢٨٦) آية ، في عدد الكوفي وعدد علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

قال بعض العلماء:وهي مشتملة على ألف خبر، وألف أمر، وألف نهي.

قوله تعالى: الم ( ١ )

قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور، فمنهم من قال:هي مما استأثر الله بعلمه، فردوا علمها إلى الله، ولم يفسروها .

 قال بعضهم:إنما ذكرت لنعرف بها أوائل السور. حكاه ابن جرير، وهذا ضعيف؛ لأن الفصل حاصل بدونها فيما لم تذكر فيه، وفيما ذكرت فيه بالبسملة تلاوة وكتابة.

وقال آخرون: بل ابتدئ بها لتُفْتَحَ لاستماعها أسماعُ المشركين - إذ تواصوا بالإعراض عن القرآن - حتى إذا استمعوا له تُلي عليهم المؤلَّف منه. حكاه ابن جرير - أيضًا- ، وهو ضعيف أيضًا؛ لأنه لو كان كذلك لكان ذلك في جميع السور لا يكون في بعضها، بل غالبها ليس كذلك، ولو كان كذلك - أيضًا- لانبغى الابتداء بها في أوائل الكلام معهم، سواء كان افتتاح سورة أو غير ذلك. ثم إن هذه السورة والتي تليها أعني البقرة وآل عمران مدنيتان ليستا خطابًا للمشركين، فانتقض ما ذكروه بهذه الوجوه.

وقال بعض أهل العربية: هي حروف من حروف المعجم، استغنى بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها، التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفًا، كما يقول القائل: ابني يكتب في: ا ب ت ث، أي: في حروف المعجم الثمانية والعشرين فيستغني بذكر بعضها عن مجموعها، حكاه ابن جرير.

يقول ابن كثير: مجموع الحروف المذكورة في أوائل السور بحذف المكرر منها؛  أربعة عشر حرفًا، وهي:ا ل م ص ر ك  ه ي ع ط س ح  ق  ن، يجمعها قولك: نص حكيم قاطع له سر.

وهي نصف الحروف عددًا، والمذكور منها أشرف من المتروك، وبيان ذلك من صناعة التصريف

[قال الزمخشري:وهذه الحروف الأربعة عشر مشتملة على أنصاف أجناس الحروف يعني من المهموسة والمجهورة، ومن الرخوة والشديدة، ومن المطبقة والمفتوحة، ومن المستعلية والمنخفضة ومن حروف القلقلة. وقد سردها مفصلة ثم قال: فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته، وهذه الأجناس المعدودة ثلاثون بالمذكورة منها، وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينـزل منـزلة كله].

وقال آخرون:بل إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانًا لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه [تركب] من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها.

ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته، وهذا معلوم بالاستقراء، وهو الواقع في تسع وعشرين سورة، ولهذا يقول تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} ( البقرة ١-٢)، وقوله تعالى:{الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } (آل عمران ١-٣)، وقوله سبحانه: {المص * كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} (الأعراف ١-٢)، وقوله تعالى: {الر * كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} (إبراهيم ١)، وقوله سبحانه: {الم * تَنـزيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (السجدة ١)، وقوله : {حم* تَنـزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (فصلت ١-٢)، وقوله سبحانه: {حم * عسق * كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} {الشورى ١-٣) ، وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن أمعن النظر، والله أعلم.

ما ورد في استخدام – قيم الحروف- لمعرفة المُدد:

وهناك من زعم أنها دالة على معرفة المُدد، وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم، فقد ادعى ما ليس له، وطار في غير مطاره.

وقد ورد في ذلك حديث ضعيف، وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته. وهو ما رواه محمد بن إسحاق بن يسار، صاحب المغازي، حدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن جابر بن عبد الله بن رئاب، قال: مر أبو ياسر بن أخطب، في رجال من يهود، برسول الله ﷺ، وهو يتلو فاتحة سورة البقرة: {الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هدى للمتقين}  ( البقرة ١-٢)،  فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود، فقال: تعلمون - والله- لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنـزل الله عليه: {الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ}  فقال:أنت سمعته؟ قال:نعم. قال: فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من اليهود إلى رسول الله ﷺ :فقالوا: يا محمد، ألم يذكر أنك تتلو فيما أنـزل الله عليك: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ } ؟ فقال رسول الله ﷺ: « بلى » . فقالوا: جاءك بهذا جبريل من عند الله؟ فقال: « نعم » . قالوا: لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك. فقام حيي بن أخطب، وأقبل على من كان معه، فقال لهم: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، أفتدخلون في دين نبي، إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟ ثم أقبل على رسول الله ﷺ، فقال: يا محمد، هل مع هذا غيره؟ فقال: « نعم » ، قال: ما ذاك؟ قال: المص ، قال: هذا أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد سبعون ، فهذه إحدى وثلاثون ومائة سنة. هل مع هذا يا محمد غيره ؟ قال: « نعم » قال: ما ذاك ؟ قال: الر . قال: هذا أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان. فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة. فهل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: « نعم » ، قال:ماذا؟ قال: المر . قال: فهذه أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومائتان، ثم قال:لقد لبس علينا أمرك يا محمد، حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا. ثم قال: قوموا عنه. ثم قال أبو ياسر لأخيه حيي بن أخطب، ولمن معه من الأحبار: ما يدريكم؟ لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى وسبعون وإحدى وثلاثون ومائة وإحدى وثلاثون ومائتان وإحدى وسبعون ومائتان، فذلك سبعمائة وأربع سنين. فقالوا: لقد تشابه علينا أمره، فيزعمون أن هؤلاء الآيات نـزلت فيهم: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (آل عمران٧) .

قال ابن كثير: فهذا مداره على محمد بن السائب الكلبي، وهو ممن لا يحتج بما انفرد به، ثم كان مقتضى هذا المسلك إن كان صحيحًا أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها، وذلك يبلغ منه جملة كثيرة، وإن حسبت مع التكرر فأتم وأعظم والله أعلم.

قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}

قال ابن جُرَيج:قال ابن عباس: «ذَلِكَ الْكِتَابُ» :هذا الكتاب. وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير،: أن ذلك بمعنى هذا، والعرب تقارض بين هذين الاسمين من أسماء الإشارة فيستعملون كلا منهما مكان الآخر، وهذا معروف في كلامهم.

و ( الْكِتَابُ ) القرآن. ومن قال: إن المراد بذلك الكتاب الإشارة إلى التوراة والإنجيل، كما حكاه ابن جرير وغيره، فقد أبعد النَّجْعَة وأغْرق في النـزع، وتكلف ما لا علم له به.

والرّيب:الشك، عن ابن عباس، وعن مرة الهَمْدانيّ عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله ﷺ: ( لا رَيْبَ فِيهِ ) لا شك فيه.

ومعنى الكلام:أن هذا الكتاب - وهو القرآن- لا شك فيه أنه نـزل من عند الله، كما قال تعالى في السجدة: {الم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ السجدة١-٢) . [ وقال بعضهم:هذا خبر ومعناه النهي، أي: لا ترتابوا فيه ] .

ومن القراء من يقف على قوله: ( لا رَيْبَ ) ويبتدئ بقوله: ( فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ) والوقف على قوله تعالى: ( لا رَيْبَ فِيهِ ) أولى للآية التي ذكرنا، ولأنه يصير قوله: ( هُدًى ) صفة للقرآن، وذلك أبلغ من كون: ( فِيهِ هُدًى ) .

و ( هُدًى ) يحتمل من حيث العربية أن يكون مرفوعًا على النعت، ومنصوبًا على الحال.

وخصّت الهداية للمتَّقين. كما قال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}  [ فصلت٤٤).  {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا } ( الإسراء٨٢ ) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اختصاص المؤمنين بالنفع بالقرآن؛ لأنه هو في نفسه هدى، ولكن لا يناله إلا الأبرار، كما قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [ يونس٥٧).

 

وقد قال السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله ﷺ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} يعني:نورًا للمتقين، قال:هم المؤمنون .

وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( لِلْمُتَّقِينَ ) أي: الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به.

وعن ابن عباس: ( لِلْمُتَّقِينَ) قال: المؤمنين الذين يتَّقون الشرك بي، ويعملون بطاعتي.

وقال سفيان الثوري، عن رجل، عن الحسن البصري، قوله: ( لِلْمُتَّقِينَ ) قال: اتَّقوا ما حرّم الله عليهم، وأدوا ما افترض عليهم.

وقال أبو بكر بن عياش:سألني الأعمش عن المتَّقين، قال:فأجبته. فقال [ لي ] سل عنها الكلبي، فسألته فقال: الذين يجتنبون كبائر الإثم. قال:فرجعت إلى الأعمش، فقال:نرى أنه كذلك. ولم ينكره.

وقال قتادة ( لِلْمُتَّقِينَ ) هم الذين نعتهم الله بقوله: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ الآية والتي بعدها [ البقرة:3، 4 ] . واختار ابن جرير:أن الآية تَعُمّ ذلك كله، وهو كما قال.

وقد روى الترمذي وابن ماجه، من رواية عن عطية السعدي، قال:قال رسول الله ﷺ: « لا يَبْلُغُ العبدُ أن يكونَ من المتقينَ حتى يَدَعَ ما لا بَأْسَ به ، حَذَرًا مما به بَأْسٌ» . ثم قال الترمذي:حسن غريب ،  وضعفه غيره)

وقال ابن أبي حاتم: عن ميمون أبي حمزة، قال:كنت جالسًا عند أبي وائل، فدخل علينا رجل، يقال له: أبو عفيف، من أصحاب معاذ، فقال له شقيق بن سلمة: يا أبا عفيف، ألا تحدثنا عن معاذ بن جبل؟ قال: بلى سمعته يقول: يحبس الناس يوم القيامة في بقيع واحد، فينادي مناد:أين المتَّقون؟ فيقومون في كَنَفٍ من الرّحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر. قلت:من المتَّقون؟ قال:قوم اتَّقوا الشرك وعبادة الأوثان، وأخلصوا لله العبادة، فيمرون إلى الجنة .

وأصل التقوى: التوقي مما يكره لأن أصلها وقوى من الوقاية. قال النابغة:

سـقط النصيـف ولـم تـرد إسـقاطه فتناولتــــه واتقتنـــا بـــاليد.

وقد قيل:إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، سأل أبيّ بن كعب عن التقوى، فقال له: أما سلكت طريقًا ذا شوك؟ قال:بلى قال:فما عملت؟ قال:شمرت واجتهدت، قال:فذلك التقوى.

وقد أخذ هذا المعنى ابن المعتز فقال:

خــــل الذنــــوب صغيرهــا وكبـيـرهــــا ذاك التقـــــى

واصنـــع كمـــاش فـــوق أر ض الشــوك يحــذر مــا يـرى

لا تحـــــقـرن صغــــيـرة إن الجبــــال مـــن الحــصى

وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}، الإيمان التصديق. عن ابن عباس، ( يُؤْمِنُونَ ) يصدقون.

وقال مَعْمَر عن الزهري: الإيمان العمل. وعن الربيع بن أنس: ( يُؤْمِنُونَ ) يخشون.

قال ابن جرير وغيره: والأولى أن يكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولا واعتقادًا وعملا

قال:وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان، الذي هو تصديق القول بالعمل. فإن لم يصدق العمل القول لم يكن إيمانا.

والإيمان كلمة جامعةٌ للإقرار بالله وكتبه ورسله، وتصديق الإقرار بالفعل.

الإيمان في اللغة:

 فيطلق على التصديق المحض، وقد يستعمل في القرآن، والمراد به ذلك، كما قال تعالى: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} ( التوبة٦١)، وكما قال إخوة يوسف لأبيهم: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} ( يوسف١٧)

 وكذلك إذا استعمل مقرونا مع الأعمال؛ كقوله: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (الإنشقاق٢٥، والتين٦)

أما الإيمان في الشرع:  إذا استعمل مطلقًا  فلا يكون إلا اعتقادًا وقولا وعملا. وهكذا ذهب إليه أكثر الأئمة  .

ومنهم من فسر الإيمان بالخشية، لقوله تعالى:  {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} (الملك ١٢)

 وقوله: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ}  ( ق ٣٣ )

والخشية خلاصة الإيمان والعلم؛ كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } (فاطر ٢٨)

وأما الْغَيْبِ؛ المراد هاهنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه، وكلها صحيحة ترجع إلى أن الجميع مراد.

قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } قال: يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وجنته وناره ولقائه، ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث، فهذا غيب كله.

وقال السدي، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ: أما الغَيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة، وأمر النار، وما ذكر في القرآن.

وقال محمد بن إسحاق، عن عِكْرِمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {بِالْغَيْبِ} قال: بما جاء منه، يعني: مِنَ الله تعالى.

وقال عطاء بن أبي رباح:من آمن بالله فقد آمن بالغيب.

وقال إسماعيل بن أبي خالد: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} قال: بغيب الإسلام.

وقال زيد بن أسلم: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} قال:بالقدر.

فكل هذه متقاربة في معنى واحد؛ لأن جميع هذه المذكورات من الغيب الذي يجب الإيمان به.

وقال سعيد بن منصور:حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش بسنده قال:كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسًا، فذكرنا أصحَاب النبي ﷺ وما سبقوا به، قال:فقال عبد الله:إن أمر محمد ﷺ كان بينا لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيمانا أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ:  {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ إلى قوله:  الْمُفْلِحُونَ}.

وهكذا رواه ابن أبي حاتم، وابن مَرْدُويه، والحاكم في مستدركه، من طرق عن الأعمش، به .

وقال الحاكم:صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

وفي معنى هذا الحديث الذي رواه  الإمام أحمد: عن ابن مُحَيريز، قال:قلت لأبي جمعة:حدثنا حديثا سمعته من رسول الله ﷺ قال: نعم، أحدثك حديثًا جيدًا: تغدينا مع رسول الله ﷺ ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فقال: يا رسول الله، هل أحد خير منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك. قال: « نعم » ، « قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني» .

طريق أخرى:قال أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسيره: عن صالح بن جُبَيْر، قال:قدم علينا أبو جمعة الأنصاري، صاحب رسول الله ﷺ ببيت المقدس، ليصلي فيه، ومعنا يومئذ رجاء بن حيوة، فلما انصرف خرجنا نشيعه، فلما أراد الانصراف قال:إن لكم جائزة وحقا؛ أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله ﷺ  قلنا: هات رحمك الله قال:كنا مع رسول الله ﷺ ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة، فقلنا:يا رسول الله، هل من قوم أعظم أجرًا منا؟ آمنا بك واتبعناك، قال: « ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء، بل قوم من بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجرا » مرتين .

وهذا الحديث فيه دلالة على العمل بالوِجَادة التي اختلف فيها أهل الحديث، كما قررته في أول شرح البخاري؛ لأنه مدحهم على ذلك وذكر أنهم أعظم أجرًا من هذه الحيثية لا مطلقا.

وكذا الحديث الآخر الذي رواه الحسن بن عرفة العبدي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال:قال رسول الله ﷺ: « أي الخلق أعجب إليكم إيمانا؟ » . قالوا: الملائكة. قال: « وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم؟ » . قالوا: فالنبيون. قال: « وما لهم لا يؤمنون والوحي ينـزل عليهم؟ » . قالوا: فنحن. قال: « وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ » . قال:فقال رسول الله ﷺ: « ألا إن أعجب الخلق إليّ إيمانا لَقَوْمٌ يكونون من بعدكم يَجدونَ صحفا فيها كتاب يؤمنون بما فيها » . قال أبو حاتم الرازي:المغيرة بن قيس البصري منكر الحديث.

وقال الحاكم:صحيح الإسناد، ولم يخرجاه وقد روي نحوه عن أنس بن مالك مرفوعًا.

 

وقال ابن أبي حاتم: قال عن  جعفر بن محمود، عن جدته تويلة بنت أسلم، قالت:صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد إيلياء ، فصلينا سجدتين، ثم جاءنا من يخبرنا:أن رسول الله ﷺ قد استقبل البيت الحرام، فتحول النساء مكان الرجال، والرجال مكان النساء، فصلينا السجدتين الباقيتين، ونحن مستقبلون البيت الحرام.، فقال رجال من بني حارثة:أن رسول الله ﷺ حين بلغه ذلك قال: « أولئك قوم آمنوا بالغيب» هذا حديث غريب من هذا الوجه.

وقوله تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } ، قال ابن عباس: يقيمون الصلاة بفروضها.

 وعن ابن عباس: إقامة الصلاة إتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها.

وقال قتادة: إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها، وركوعها وسجودها.

 

وقال مقاتل بن حيان: إقامتها؛ المحافظة على مواقيتها، وإسباغ الطهور فيها وتمام ركوعها وسجودها وتلاوة القرآن فيها، والتشهد والصلاة على النبي ﷺ، فهذا إقامتها.

وقوله تعالى: { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} عن علي بن أبي طلحة، وغيره عن ابن عباس قال: زكاة أموالهم.

وعن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله ﷺ ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) قال:هي نفقة الرجل على أهله، وهذا قبل أن تنـزل الزكاة.

وقال جُوَيْبر، عن الضحاك:كانت النفقات قربات يتقربون بها إلى الله على قدر ميسرتهم وجهدهم، حتى نـزلت فرائض الصدقات: سبعُ آيات في سورة براءة، مما يذكر فيهن الصدقات، هن الناسخات المُثْبَتَات.

وقال قتادة: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} فأنفقوا مما أعطاكم الله، هذه الأموال عواري وودائع عندك يا ابن آدم، يوشك أن تفارقها.

واختار ابن جرير أن الآية عامة في الزكاة والنفقات، فإنه قال: وأولى التأويلات وأحقها بصفة القوم:أن يكونوا لجميع اللازم لهم في أموالهم مُؤَدّين، زكاة كان ذلك أو نفقة مَنْ لزمته نفقته، من أهل أو عيال وغيرهم، ممن تجب عليهم نفقته بالقرابة والملك وغير ذلك؛ لأن الله تعالى عم وصفهم ومدحهم بذلك، وكل من الإنفاق والزكاة ممدوح به محمود عليه.

الجمع بين الصلاة والزكاة – أو الإنفاق - في القرآن:

قلت:كثيرًا ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والإنفاق من الأموال، فإن الصلاة حق الله وعبادته، وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه، وتمجيده والابتهال إليه، ودعائه والتوكل عليهز

 والإنفاق هو الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم، وأولى الناس بذلك القرابات والأهلون والمماليك، ثم الأجانب، فكل من النفقات الواجبة والزكاة المفروضة داخل في قوله تعالى: ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) ولهذا ثبت في الصحيحين عن ابن عمر:أن رسول الله ﷺ قال: « بُنِيَ الإسلام على خمس:شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت » . والأحاديث في هذا كثيرة.

وأصل الصلاة في كلام العرب الدعاء، قال الأعشى:

لهـا حـارس لا يـبرحُ الدهـرَ بَيْتَها وإن ذُبحَـتْ صـلى عليهـا وزَمْزَمـا

وقال الآخر - وهو الأعشى أيضًا- :

تقـــول بنتـي وقـد قَرَّبتُ مرتحلا    يـا رب جـنب أبي الأوصابَ والوَجَعَا

عليـكِ مثـلُ الـذي صليتِ فاغتمضي    نومـا فـإن لِجَنب المـرء مُضْطجعـا

 

يقول:عليك من الدعاء مثل الذي دعيته لي. وهذا ظاهر، ثم استعملت الصلاة في الشرع في ذات الركوع والسجود والأفعال المخصوصة في الأوقات المخصوصة، بشروطها المعروفة، وصفاتها، وأنواعها [ المشروعة ] المشهورة.

 

وقال ابن جرير:وأرى أن الصلاة المفروضة سميت صلاة؛ لأن المصلي يتعرض لاستنجاح طلبتَه من ثواب الله بعمله، مع ما يسأل ربه من حاجته .

وقيل:هي مشتقة من الصلى، وهو الملازمة للشيء من قوله: {لا يَصْلاهَا  إِلا الأَشْقَى} ( الليل ١٥)  أي: يلزمها ويدوم فيها

وقيل:مشتقة من تصلية الخشبة في النار لتقوّم، كما أن المصلي يقوّم عوجه بالصلاة: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } (العنكبوت٤٥ )

واشتقاقها من الدعاء أصح وأشهر، والله أعلم.

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }

قال ابن عباس: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنـزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنـزلَ مِنْ قَبْلِكَ}  أي:يصدقون بما جئت به من الله، وما جاء به مَنْ قبلك من المرسلين، لا يفرقون بينهم، ولا يجحدون ما جاؤوهم به من ربهم {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} أي: بالبعث والقيامة، والجنة، والنار، والحساب، والميزان.

وإنما سميت الآخرة لأنها بعد الدنيا، وقد اختلف المفسرون في الموصوفين هاهنا:هل هم الموصوفون بما تقدم من قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [ البقرة:3 ] ومن هم؟ على ثلاثة أقوال حكاها ابن جرير:

أحدهما :أن الموصوفين أوّلا هم الموصوفون ثانيًا، وهم كل مؤمن، مؤمنو العرب ومؤمنو أهل الكتاب وغيرهم، قاله مجاهد، وأبو العالية، وقتادة.

 

والثاني:هما واحد، وهم مؤمنو أهل الكتاب، وعلى هذين تكون الواو عاطفة صفات على صفات، كما قال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [ الأعلى:1- 5 ]

 

والثالث: أن الموصوفين أولا مؤمنو العرب، والموصوفون ثانيا مؤمنو أهل الكتاب ، نقله السدي في تفسيره، عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة، واختاره ابن جرير، ويستشهد لما قال بقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ ...} الآية [ آل عمران١٩٩)، وبقوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [ القصص٥٢- ٥٤) . وثبت في الصحيحين، عن أبي موسى:أن رسول الله ﷺ قال: « ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي، ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل أدب جاريته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها » .

 

وأما ابن جرير فما استشهد على صحة ما قال إلا بمناسبة، وهي أن الله وصف في أول هذه السورة المؤمنين والكافرين، فكما أنه صنف الكافرين إلى صنفين: منافق وكافر، فكذلك المؤمنون صنفهم إلى عربي وكتابي.

 

قلت:والظاهر قول مجاهد فيما رواه الثوري، عن رجل، عن مجاهد. ورواه غير واحد، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد أنه قال: أربع آيات من أول سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين، فهذه الآيات الأربع عامة في كل مؤمن اتصف بها من عربي وعجمي، وكتابي من إنسي وجني، وليس تصح واحدة من هذه الصفات بدون الأخرى، بل كل واحدة مستلزمة للأخرى وشرط معها، فلا يصح الإيمان بالغيب وإقام الصلاة والزكاة إلا مع الإيمان بما جاء به الرسول ﷺ، وما جاء به مَنْ قبله من الرسل والإيقان بالآخرة، كما أن هذا لا يصح إلا بذاك، وقد أمر الله تعالى المؤمنين بذلك، كما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ..} الآية ( النساء١٣٦) . وقال: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ ...} الآية (العنكبوت٤٦) . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} ( النساء٤٧ ) وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ..}  {المائدة٦٨)

وأخبر تعالى عن المؤمنين كلهم بذلك، فقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ..} الآية (البقرة٢٨٥) وقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ } (النساء ١٥٢)

وغير ذلك من الآيات الدالة على أمْر جميع المؤمنين بالإيمان بالله ورسله وكتبه. لكن لمؤمني أهل الكتاب خصوصية، وذلك أنهم مؤمنون بما بأيديهم مفصلا فإذا دخلوا في الإسلام وآمنوا به مفصلا كان لهم على ذلك الأجر مرتين.

 وأما غيرهم فإنما يحصل له الإيمان، بما تقدم مجملا كما جاء في الصحيح: « إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، ولكن قولوا:آمنا بالذي أنـزل إلينا وأنـزل إليكم» ولكن قد يكون إيمان كثير من العرب بالإسلام الذي بعث به محمدﷺ أتم وأكمل وأعم وأشمل من إيمان من دخل منهم في الإسلام، فهم وإن حصل لهم أجران من تلك الحيثية، فغيرهم [ قد ] يحصل له من التصديق ما يُنيف ثوابه على الأجرين اللذين حصلا لهم، والله أعلم.

قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }

يقول الله تعالى: ( أُولَئِكَ ) أي:المتصفون بما تقدم:من الإيمان بالغيب، وإقام الصلاة، والإنفاق من الذي رزقهم الله، والإيمان بما أنـزل الله إلى الرسول ومَنْ قبله من الرسل، والإيقان بالدار الآخرة، وهو يستلزم الاستعداد لها من العمل بالصالحات وترك المحرمات.

(عَلَى هُدًى) أي: نور وبيان وبصيرة من الله تعالى. {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي: في الدنيا والآخرة.

وعن عِكْرِمة أو سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس:  {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} أي: على نور من ربهم، واستقامة على ما جاءهم، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}  أي:الذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا، فهم لمُنْجِحون المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله، من الفوز بالثواب، والخلود في الجنات، والنجاة مما أعد الله لأعدائه من العقاب .

عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله ﷺ: أما الذين يؤمنون بالغيب، فهم المؤمنون من العرب، والذين يؤمنون بما أنـزل إليك وما أنـزل من قبلك هم المؤمنون من أهل الكتاب. ثم جمع الفريقين فقال: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }

وقد تقدم من الترجيح أن ذلك صفة للمؤمنين عامة، والإشارة عائدة عليهم، والله أعلم.

 

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري، حدثنا أبي، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثني عبيد الله بن المغيرة عن أبي الهيثم واسمه سليمان بن عبد، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي ﷺ وقيل له:يا رسول الله، إنا نقرأ من القرآن فنرجو، ونقرأ من القرآن فنكاد أن نيأس، أو كما قال. قال:فقال: « أفلا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار؟ » . قالوا:بلى يا رسول الله. قال: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ...} إلى قوله تعالى: {الْمُفْلِحُونَ} هؤلاء أهل الجنة » . قالوا: إنا نرجو أن نكون هؤلاء. ثم قال:  {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ...إلى قوله: عَظِيمٌ}  هؤلاء أهل النار » . قالوا: لسنا هم يا رسول الله. قال: « أجل » .

 

فهذه صفات الناجين إلى الجنة، جعلنا الله منهم

No comments:

Post a Comment